«أنس العلمي مجرّد قوس فُتح بعد حادثة الظهور المفاجئ للمدير العام السابق لصندوق الإيداع والتدبير، مصطفى بكوري، في مقرّ حزب الأصالة والمعاصرة في ليلة انتخابية، حان وقت إغلاقه بتعيين رجل من طينة البكوري ذاته، أي محسوب على دائرة القرار والتأثير نفسها»، يقول مصدر جيّد الاطلاع من داخل صندوق الإيداع والتدبير، معلّقا على قرار تعيين المدير العام السابق لإدارة الضرائب، عبد اللطيف زغنون، على رأس إمبراطورية ال»س يدي جي» المترامية الأطراف. هادئ، قليل الكلام، دقيق التعبير، ملامح صارمة و»محايدة»، هكذا بدا صبيحة يوم الاثنين الماضي، وهو يجلس على يسار وزير الاقتصاد والمالية محمد بوسعيد. توزيع واضح للأدوار بين الوزير والعين التي تحرس المصدر الأول لمالية الدولة، أي الضرائب، برز في هذا الصباح، حيث يتولى بوسعيد إعطاء خبر اعتماد أول لائحة للأسعار المرجعية في المعاملات العقارية لبوسا سياسيا، فيما سيعطي عبد اللطيف زغنون تفاصيله التقنية وأبعاده الإدارية. «اخترنا منهجا تشاركيا وتدريجيا، تشاركي لأننا دعونا كل الفاعلين المعنيين من اقتصاديين وذوي الخبرة لتقييم تطور سوق العقار، وتدريجي لأننا بدأنا من مدينة الدارالبيضاء قبل أن نعمّمه شيئا فشيئا على باقي المدن والجهات»، يقول زغنون في آخر خرجاته الإعلامية قبل الانتقال إلى إمبراطورية «سيديجي». سياق خاص بعد خمس سنوات قضاها في أهم مكتب داخل وزارة الاقتصاد والمالية، وستّ سنوات أخرى قبلها على رأس الجهاز المالي-الأمني المتمثل في مديرية الجمارك، وأكثر من عقدين من «تخصيب» خبرته التدبيرية والمالية في أهم وأكبر مؤسسة إنتاجية في المملكة، أي المكتب الشريف للفوسفاط؛ جاء التعيين الجديد في سياق يتّسم أساسا بالتوجهات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة للمؤسسة الملكية، والقائمة على الإقرار باختلال واضح في توزيع الثروة التي أنتجها عقد ونصف من عمر «العهد الجديد»، وهو الاختلال التي تقول مصادر مقرّبة من صندوق الإيداع والتدبير، إنه في دائرة القرار من يحمّل الصندوق جزءا من مسؤوليته، باعتباره الوصي على تدبير عشرات الملايير من الدراهم المتأتية من ادخار الأجراء والفقراء والمتقاعدين. المعطيات الخاصة بمساره وحياته الشخصية والمهنية تكاد تندرج ضمن الأسرار الكبيرة التي راكمها مساره الطويل في مواقع شديدة الحساسية في مالية الدولة، لكن من اشتغلوا بالقرب منه يرجعون انحداره من أصل مراكشي، حيث أبصر النور عام 1960، ونشأ طفلا في مرحلة شديدة التقلّبات السياسية والتحولات المؤسساتية، حيث انتقل الحكم من ملك إلى ملك، وتفجّرت أزمة 1965 بسبب خروج تلاميذ المدارس للاحتجاج، وإعلان الملك الراحل الحسن الثاني حالة الاستثناء على مدى خمس سنوات… أحداث لا يبدو أن المسار الشخصي لزغنون قد تأثر بها، حيث شقّ طريقه بثبات نحو أعلى مستويات التحصيل والتكوين، توّجه بعد الباكالوريا بالالتحاق بصفوف المدرسة المحمدية للمهندسين، إذ كان الراحل الحسن الثاني يفرض حياة «تكنوقراطية» صارمة، من خلال التركيز على التحصيل وفكّ شفرات المعادلات دون الاقتراب من السياسة والسياسيين. وفيما أفلح زغنون في إنهاء مساره هذا بتخرّجه مهندسا متخصصا في الهندسة المعدنية سنة 1982، كانت المؤسسة نفسها قد طردت رئيس الحكومة الحالي، عبد الإله بنكيران، بسبب كسره للنظام العسكري الصارم داخل المدرسة، وانتخابه رئيسا لجمعية للطلبة. ابن القطاع العمومي مصدر قضى في دواليب صندوق الإيداع والتدبير أكثر من ثلاثة عقود قال ل«أخبار اليوم» إن أهم ما يثير الانتباه في المسار الشخصي لزغنون لحظة تعيينه خلفا لأنس العلمي؛ «هو كونه قادم من القطاع العمومي أساسا، حيث بدأ مشواره في مجال الفوسفاط، ثم انتقل إلى وزارة المالية ليتولى مسؤولية كبيرة جدا، هي مديرية الجمارك ثم مديرية الضرائب، وهو ما يؤهّله لإعادة منصب المدير العام للصندوق إلى سابق عهده، حيث كان جميع المدراء يأتون من وزارة المالية، سواء كامل الرغاي أو خالد القادري أو المفضل الحلو…». المصدر نفسه الذي طلب عدم ذكر اسمه قال إن «المديرين السابقين، السيدين مصطفى بكوري وأنس العلمي، يتّسمان بكونهما جاءا من القطاع المالي الخاص، وأعطيا بالتالي بصمة يغلب عليها المنتوج المالي الخالص، وأثرّا بالتالي على المهام الأساسية والأصلية لهذا الصندوق». مهام الإمبراطورية المالية للإيداع والتدبير، التي ينتظر من زغنون الاضطلاع بها، توجزها مصادر «أخبار اليوم» في الجمع بين المردودية وخدمة الصالح العام. «صناديق مماثلة في دول كبرى مثل فرنسا وإيطاليا تضطلع بمثل هذه المهام، لكونها تتصّف بقدرتها المالية الكبيرة، وإمكانية انتظارها للمردودية على المدى البعيد، بمشاركتها في إنجاز مشاريع كبرى ومكلّفة»، يقول أحد المصادر مضيفا أن صندوق الإيداع والتدبير واصل القيام بهذا الدور، «من خلال مشاريع كبرى، مثل ميناء طنجة المتوسطي، وتهيئة ضفتي أبي رقراق، وإعادة هيكلة «ميديتل» قبل إعادة بيعها… لكن بروفايل مثل عبد اللطيف زغنون هو الذي يمكنه إعادة التوازن إلى مهام الصندوق في خدمة الصالح العام». مباشرة بعد تخرّجه من المدرسة المحمدية للمهندسين، التحق عبد اللطيف زغنون بالمكتب الشريف للفوسفاط بحكم تخصّصه في الهندسة المعدنية، وهناك بدأ رحلة طويلة انطلاقتها كانت من مدينة المستشار الملكي فؤاد عالي الهمة، أي مدينة بنجرير. هناك تسلّق الشاب العشريني سلّم المسؤوليات، ليصبح بعد خمس سنوات فقط رئيسا لمصلحة الاستغلال، ومنها انتقل إلى الإمساك بمقاليد مصلحة التجهيز عام 1990. بصمات في الصحراء مع بداية عقد التسعينيات، كان موعد التحاق هذا الشاب الطموح، وقليل الضجيج، بأكثر المناطق حساسية وسخونة في التراب الوطني، وهي مصالح إدارة شركة «فوسبوكراع»، فرع المكتب الشريف للفوسفاط في المناطق الصحراوية. هناك بمدينة العيون يتذكّر كثير من الفوسفاطيين البصمات الواضحة التي تركها هذا المهندس على الإنتاج الفوسفاطي، والحرارة المرتفعة التي شهدتها علاقات الإدارة بالعمال ونقاباتهم، وهي الوضعية التي استمرّت طيلة خمس سنوات، انقسمت بين تولّي رئاسة مصلحة الاستخراج ثم قسم المعالجة. منتصف عقد التسعينيات، بدأت رحلة العودة، حيث حطّ عبد اللطيف زغنون الرحال مجدّدا في مدينة بنجرير، حاملا معه تجربة سنتين من الإشراف على قسم الاستخراج في الصحراء، ليتولى المهمة نفسها في استغلال معادن بالكنطور، قبل أن يتّسع مجال نفوذه ليصبح مديرا للاستغلال بمنطقتي اليوسفية والكنطور عام 1998. سنتان قصيرتان كانتا كافيتين ليصل زغنون إلى عاصمة الفوسفاط، ويصبح مديرا للاستغلال المعدني بخريبكة، في أول مهمة يتولاها تحت رقابة الأعين الحارسة لرجالات «العهد الجديد». أعين سرعان ما اختارت الرجل للخروج من نفق الفوسفاط، والانتقال إلى مقاعد المسؤولية في الوزارة المتحكّمة في رقاب مالية الوزارات ورجال الأعمال، وكانت البداية بتعيينه مديرا عاما للجمارك عام 2004، بعد سنة قصيرة قضاها على رأس مديرية قطب المعادن بالمكتب الشريف للفوسفاط، وهو المنصب الذي خوّله شغل مقعد عضو باللجنة التنفيذية للمكتب الشريف للفوسفاط». حزم وإنسانية «يمكن أن ألخّص لك طبيعة شخصيته بكلمتين، الحزم والإنسانية»، يقول مصدر نقابي فوسفاطي عاصر زغنون في عقد التسعينيات. المصدر نفسه أوضح أن السبب الرئيس الذي جعله يعود من مدينة العيون إلى بنكرير، كان عدم موافقته على انخراط شركة «فوسبوكراع» في مشروع لإقامة قنطرة معلّقة في ساحل العيون الشاطئ، «أصرّ على أن الأمر ليس من اختصاص فوسبوكراع، وأنه لا يمكن أن ينخرط في مشروع لبناء الطرق والقناطر، فقاده ذلك إلى العودة إلى بنجرير. وبعد أقل من أربع سنوات، وقع حادث انهيار في تلك القنطرة التي رفض المشاركة في تشييدها، وقُتل عاملان في الحادث، وهو ما أثبت صحة موقفه». وعن أسلوبه الشخصي في التعامل والتدبير، قال المصدر نفسه «إن الرجل صارم بكل صراحة، لا يتسامح في إنجاز العمل المطلوب، لكنّه معقول وفيه جانب إنساني، حيث نذكر أنه رفض التأشير على قرار بتنقيل عدد من العمال بطريقة تعسّفية من العيون إلى الكنطور، وقال إنه لن يقبل أي انتقال ما لم يعبّر العامل عن رغبته فيه بطلب رسمي». عشر سنوات الماضية التي قضاها عبد اللطيف زغنون في مقرّ وزارة المالية في الرباط، حوّلته إلى وجه معروف في الأوساط الإعلامية والاقتصادية. في مديرية الجمارك، ارتبط اسمه باستراتيجية يوجهها زغنون نفسه في بعض حواراته الصحافية، بتشديد المراقبة دون المساس بالمردودية. صحيفة «لاغازيت» وصفته في «بروفايل» قصير عام 2005، ب»مدرسة البراغماتية»، مشيرة إلى نهجه القائم على «التطوير في إطار الاستمرارية»، لكن الأضواء لن تسلّط بشكل مكثّف على وجه زغنون، إلا حين انتقل عام 2010 إلى مكتب نور الدين بنسودة، الخازن العام الحالي للمملكة، الذي خلّف لزغنون كنزا ثمينا من الأسرار المالية والضريبية للدولة، سرعان ما بصمها بشخصيته. خطاب مستمرّ حول الإصلاح والمصالحة بين الإدارة الضريبية والمواطن، توجه زغنون بعقده أخيرا المناظرة الوطنية للإصلاح الضريبي، التي كان من أولى ثمارها، نشر اللائحة المرجعية لأسعار العقارات بالدارالبيضاء.