في هذا الصباح أحكمت أزرار معطفي، وأدرت مُحَرِّكَ السَّيارة كَي يَدْفأَ. من خلال المِذْياعِ شَدّنيِ صَوْتُ فريد الأطرش يُغني: أَدِي الرَّبِيعْ عَادْ مِنْ ثَانِي وِلْبَدر هَلِّتْ أَنوارُ رَفَعْتُ رَأسي إلى سَمَاء مُتَلَبِّدة بالغُيوم،ِ وشَجَر عَار يَرْتَجِفُ مِنْ قَرِّ الصَّقِيعِ، وأَقدام صُوفِية لأشباحِ مُتَلَفِّعة بملاءات تُظْهِرُ أَعْيُنَهَا بِصعُوبَة بَالغة، وقارنْتُ ما بين لَحْن يتغنى بالربيع، وشتاء قارص لا يرحم، فلم أر في ما اقترحه علينا مذيع الراديو عجبا، فقد اختلطت الفصول وتداخلت، فلا تكاد تقف على حقيقة الفصل الذي نعيشه. ولو أنّ مستمعاً من خارج البلد شنّف سمعه لحن فريد لتوهم أننا فعلا نعيش ربيعا حقيقيا بسماء صافية، وشمس ساطعة، وطيور تغني، وعبير يسكر الأرواح والأبدان!! يخطئ المذيع، فنحن نتناول فاكهة الفصول في غير أوقاتها وعلى طول السنة، إذ نجحت الزراعة في صناعة الفواكه ذاتها أشكالا وألوانا بدون طعم ولا مذاق ولا فائدة، فلا جناح على المذيع أن يغني فريد للربيع في فصل الشتاء!! وَتَسَلَّلَ الخريف إلى ربيع العمر، فاشتعل الرأس شَيبا، وارتجفت الأيدي، وتعثرت الخطى، ودبّ الوهن في السَّوَاعِد، فلا جناح على المذيع أن تختلط عليه الفصول!! وتَبَخَّرت الآمال في عز الربيع، وَبَدَت الحقول جرداء بسنابل فارغة، وألقى السراب على العيون غَشَاوَةَ، فاستشعروا نفحات الربيع نسيما خَيَاليا يُهدد العقول والأفئدة كأحلام المساء عندما يمحوها النهار!! لا بأس أن يَشْدُو فريد أغنية الربيع في هذا الظرف القاتم، بردا ومطرا وغيوما وصقيعا، إذ لعلى المذيع يستذكر بالأغنية ليلة حمراء قضاها خارج التغطية فلم يميز بين الواقع والخيال، وهو يذكرني بذلك المعلق الرياضي الشهير، الذي كان لوحده جمهورا وفولكلورا واحتفالا صاخبا، يشعر المستمع إليه أن الملعب الذي يصفه غاصا بالجماهير بحماس منقطع النظير، بينما الواقع أن الرقعة الطينية ليس بها سوى تشكيلة الغرفتين والحُكَّام!! غفرت للمذيع اختياره، فإن كان الربيع لازال في علم الغيب، فهو بإذاعته أغنية الربيع لفريد الأطرش في هذه الأجواء الرمادية بالسهول والجبال، إنما يفتح لنا باب الأمَل، كي نعيش ولو بالأغاني، ربيعا وهميا في غير زمانه، فهو يذكر المؤمنين، كي يُتَرجِمُوا صكوك الغفران إلى وعود تَتَحَقَّق، وأماني طال انتظارها. تحركت عجلات السيارة، وتحركت معها حركة عنيفة لريح شتوي لاسع، ولازال فريد يُرَدِّدُ في موال شجي: مِنْ يُومْ مَاسَابْنِي ورَاحْ شَدْوِ البَلاَبِلْ نُوَاحْ والوَرْدْ بِلُونْ الجِراحْ!! رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين [email protected]