لم يمت ملك في السعودية ويترك بلاده في مواجهة كم كبير من المشاكل والتحديات والمخاطر كما حصل مع الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي توفي الأسبوع الماضي عن عمر يناهز 90 سنة، وجاء أخوه إلى الحكم متأخراً وعمره 79 سنة، ووراءه ما وراءه من تعقيدات البيت الداخلي للحكم في المملكة، وأمراض الشيخوخة التي لا مهرب منها، وازدياد ضغط الشارع، وخاصة الشباب الذين يتطلعون إلى نموذج في الحكم إذا لم يكن عصريا فعلى الأقل أن يكون أقل تقليدية مما يبدو الآن… لنبدأ من الحديقة الخلفية للسعودية، والمقصود طبعا هو اليمن الذي لم يعد سعيدا منذ عقود خلت. في اليمن اليوم قوتان صاعدتان وكلاهما خطر على الرياض؛ الأولى هي قوة الحوثي الذي تمدد مثل بقعة زيت، وسيطر على نصف الدولة، وهو الآن يحكم في صنعاء، ويفرض سياسة الأمر الواقع على اليمنيين وعلى دول مجلس التعاون الخليجي، وكل هذا بدعم من الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، الذي لم يبلع أبدا إزاحته من السلطة في السنة الأولى للربيع العربي، فما كان منه إلا أن تحالف مع عدوه السابق الحوثي، ودفع أتباعه في الجيش والمؤسسة الأمنية إلى الانسحاب من مواقعها، وترك الدولة تسقط في يد جماعة الحوثي كالفاكهة الفاسدة. الأخطر من الحوثي المدعوم من إيران، التي أصبحت اللاعب المركزي في المنطقة، هو صعود تنظيم القاعدة في اليمن. هذا التنظيم المتطرف استقر في اليمن منذ سنوات، لكنه اليوم ينتعش ويقدم نفسه على أنه حامي السنة في اليمن أمام مخاطر الشيعة الزيديين المدعومين من إيران، تماماً كما فعلت داعش مع سنة العراق، حيث قدمت نفسها على أنها قوة الردع الفعالة أمام ميلشيات المالكي الطائفية، وأمام تزايد النفوذ الإيراني في بغداد، كلتا القوتين (الحوثي والقاعدة) تشكلان خطرا كبيرا على السعودية، فالحوثي له أنصار مفترضون في شيعة المملكة الذين يشكون التهميش والإقصاء منذ سنوات طويلة، والقاعدة لها أكبر قاعدة في المجتمع المتدين السعودي، ولكم أن تتصوروا آثار ذلك في بلاد لا أحزاب فيها ولا برلمان ولا مؤسسات للحكم الرشيد ولا إعلام حر ولا قضاء مستقل، بل أسرة حاكمة لوحدها تبيع 12 مليون برميل من النفط كل يوم، وتصرف على نفسها وشعبها وتحالفاتها مع الغرب… الخطر الثاني الذي يواجه السعودية في الإقليم المشتعل هو فشل أربع دول في المنطقة، اثنتان منها لها حدود مع السعودية (العراق واليمن)، وواحدة استثمرت فيها كثيرا (لبنان)، وواحدة راهنت على انتزاعها من القط الإيراني لكنها فشلت إلى الآن (سوريا)، والأخطر من فشل الدول الأربع، أنها تحولت إلى مزرعة نموذجية لتفريخ العنف والإرهاب والحركات الجهادية العابرة للحدود، التي تتغذى من الفكر الوهابي بطبعاته المختلفة. هذا يجعل المملكة في وضع حرج داخليا وخارجيا. الخطر الثالث الذي يواجه السعودية هو التفاهم الذي يتقوى بين أمريكا والغرب من جهة، وإيران من جهة أخرى، حيث تبدو عمائم الملالي قد وصلت إلى مشروع اتفاق مع الغرب. لقد كان لافتا للنظر حدوث ثلاث وقائع على قدر كبير من الأهمية في الآونة الأخيرة؛ الأولى جرت في الكونغرس الأمريكي بمناسبة خطاب أوباما حول حالة الاتحاد، حيث أوصى الرئيس الأمريكي الكونغرس بعدم فرض عقوبات على إيران، لأن هذا سيكسر الجهود المبذولة للتطبيع مع طهران، أما الحدث الثاني فهو تحذير أوباما لنتنياهو بالتوقف عن تحريض الكونغرس على إيران، ورفض استقباله في مارس المقبل. أما ثالث مؤشر على التحول الكبير الذي حدث في واشنطن تجاه طهران، فهو إعلان المتحدث باسم البيت الأبيض عدم وجود دلائل واضحة على وقوف إيران خلف الحوثيين في اليمن. وهذه شهادة براءة احتفلت بها طهران، وهي تعتبرها ضوءا أخضر لمزيد من التمدد في المحيط العربي. إذا نجحت إيران في تطبيع علاقتها بالغرب، وإيجاد مخرج مشرف لمشروعها النووي (مع العلم أن قوتها الآن نابعة من سياستها ودبلوماسيتها ومخابراتها، وقدرتها على اللعب في أماكن الفراغ التي تركها غياب مصر والسعودية والعراقوسوريا).. هذا الاتفاق معناه اعتراف دولي بنفوذ إيران وقوتها الإقليمية، وإضعاف كبير لمحور السعودية-الإمارات-مصر، وهذا معناه، ثانيا، أن خريطة الشرق الأوسط ستتغير إذا نجحت إيران في انتزاع اعتراف الغرب بنفوذها، وأن حلفا إيرانيا عربيا تركيا سيتشكل من سورياوالعراقولبنان واليمن وتركيا، وربما البحرين، في مواجهة السعودية وحلفائها في المنطقة، وهذا ما يلقي بمزيد من الهموم على كاهل الرياض التي غرقت مع الإمارات وجيش مصر في مشروع قيادة الثورات المضادة ضد الربيع العربي، وغفلت عن الأخطار الحقيقية المحيطة بها، والنتيجة ما نراه الآن من لاستقرار، وفشل متزايد للدول التي كانت على أبواب تحول ديمقراطي واعد مثل مصر واليمن وليبيا… هكذا يبدو المشهد السعودي من فوق، وهذا ما يفرض علينا في المغرب قراءة أخرى لرؤية الدبلوماسية المغربية تجاه الشرق ومشاكله وتعقيداته. ليس ضروريا لكي نستقطب استثمارات الخليج ومساعداته أن نضع بيضنا أو جزءا كبيرا منه في سلة هذا الخليج المضطرب، الذي تسير فيه السياسة عكس التيار الديمقراطي في العالم. هذه السياسة «الاستبدادية» اليوم لم تعد خيارات داخلية لهذه الدول، بل صارت أجندة خارجية وإقليمية تفرض على دول عربية أخرى اختار شعبها الاتجاه نحو الديمقراطية بكل الصعوبات المصاحبة لها. والأخطر أن هذه الأجندة الخليجية مدعومة اليوم بإغراء الدولار والاستثمار في الإعلام واللعب على ورقة الأمن والتحالف مع إسرائيل…