يريد أنْ يُفهمنا من يستعمل ورقة "الحرية" للإفصاح عن تصوراته وآرائه المختلفة؛ خاصة تلك المناهِضة للتصورات الدينية ولممارسات المتدينين، بأنَّ هناك فئةً من الناس قد تمرَّدت على الحدود ووصلت إلى قمة الحرية في التعبير والفن والإبداع، وأخرى تأسُرها مقدساتها وحدودها وتحول بينها وبين الإبداع والابتكار والنهوض الحضاري؛ كما هو شأن أتباع الديانات وفي مقدمتها الدين الإسلامي. وبأن رسالة الفئة الأولى هي كسرُ هذه الحدود كيفما كانت درجة مَقامها ومنزلتها داخل منظومة الفئة الثانية! أعتقد أن الحضارات والمنظومات والأنساق تستند كلُّها إلى حدود؛ إذ هي التي تمنح لها المعنى، وإلا لكانت مفتوحة ومنفتحة على "اللانهائي" بل وعلى "المجهول" حتى وإن كان هذا الأمر ممكناً من الناحية النظرية فهو من قَبِيلِ المستحيل فعليا. والحدود بالنظر إلى مصدرها نوعان: حدودٌ دينية مصدرها مفارقٌ للإنسان والواقع، وبشرية مصدرها الإنسان. النوع الأول يتسم بالخلود والامتداد، أما الثاني فقد يتغير حسب المكان والظروف. وفي الغالب يكون الأول مرتبطاً ب "الله"، أما الثاني فيكون غالباً ملتصقاً بالسلطة/الدولة أو السلطة/الرمز. ومن هنا نفهم جيِّداً تلك الاجتهادات الفلسفية الغربية التي تشير إلى أن الدولة المُتَغَوِّلَةَ في تجربة الغرب حلَّت محلَّ "الله" و"نازعته" في شرعية ترسيم الحدود وتحديد المحرمات! إن أي منظومة كيفما كانت طبيعتها ترسم لنفسها حدوداً، وعندما يحس أهلُ هذه المنظومة بضرورة الحدود للحفاظ على ماهيتهم فإنها تتحول إلى مقدس؛ وبالتالي فإن حرية التعبير بأبعادها الثقافية والجسدية والمادية تخضع وتنطلق من حدود وضوابط "مرسومة" سلفا. وليس صحيحاً أن المسلمين هم وحدهم من تشدهم المقدسات! الحياة بأكملها تخضع لمنطق الحدود، ويختفي معناها مع اختفائها؛ إذ لا نتصور حياةً بدونها؛ حتى عندما يتعلق الأمر بتفاصيل الحياة الصغيرة.. إن أي "منزل" يفقد ماهيَّته عندما يفقد الحدود/الجدران ويكون مُشْرَعاً على الخارج؛ فكيف بحقائق وجوديَّةٍ مركبةٍ اسمها: الإنسان أو الفكر أو الحياة! ومن هنا فإن النقاش لن يستقيم البتَّةَ إذا ما قاربناهُ من زاوية المقابلة بين حرية التعبير المطلقة وبين الحدود المطلقة. ويفرضُ القولُ بحتمية المقدسات والحدود ضرورةَ تحوّلِ مقدّساتِ الآخرين إلى مقدّسٍ لدى (الأنا) لا يَقِلُّ أهميَّةً عن المقدس نفسه لدى (الآخر)… وألاَّ يُتوسّلَ بالحريَّةُ لانتهاك حريَّةِ الآخرين؛ لأن تَمَثُّلَ الناس لها قد يختلف من ثقافة لأخرى، وإن كانت هناك معايير عامة تحكم ويخضعُ لها كُلُّ البشر؛ فعندما أتبنى معتقداً مُعَيَّنًا، كيفما كان مصدره، فإني سأشعر بالحرية لأن أحداً لم يجبرني على ذلك، ولمَّا يتم الهجومُ على مُعتقدي فسأكون مستهدَفاً في حريتي واختياري. أي إن الضحية ستكون هي الحرية نفسها التي تُنتهك باسم الحرية! بل قد يكون المستهدَفُ هو الاختلاف الذي يضفي جمالية على الكون والحياة. إن الإنسانيَّةَ مدعوةٌ اليوم، أكثرَ من أَيِّ وقتٍ مضى، إلى العمل من أجل الانتصار لقيمة الحرية وفضيلة الاختلاف وخُلق التواضع واحترام آراء ومعتقدات الغير.. والله أعلم.