لا يكفي وسمُ ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزّة الفلسطيني ب»البربرية»، إنه جريمة ضد الإنسانية، وإبادة جماعية لشعب أعزل، واغتصاب لكل المواثيق والممارسات والأعراف الدولية.. وأخطر ما يميز عدوانها الإجرامي قيامها بالإبادة الجماعية بتأييد ضمني، أو مُغلّف من قبل القوى الكبرى: سلاح جوي أمريكي، وقبول أوروبي واضح، وصمت عربي مثير للانتباه، باستثناء بلاغات وتصريحات وبيانات صادرة هنا وهناك في بلادنا العربية، لا تَشذّ عموماً في لغة صياغتها عن تلك التي تعودّنا سماعَها منذ سنين. خلال ست سنوات [2008 2014] قامت إسرائيل بثلاث حروب عدوانية على قطاع غزة وفلسطين عموما، أعوام: 2008 و2012 و2014. أما حجتها الرئيسة فهي «محاربة الإرهاب»، بذرائع وسياقات مختلفة. لذلك، لا يشذّ عدوانها اليوم عن ممارساتها السابقة، حيث كان مقتل ثلاثة مستوطنين إسرائيليين في منطفة الخليل الشهر الماضي كافيا لربط الحدث بالإرهاب وبحركة حماس تحديدا، والتنكّر مباشرة لاتفاق الهدنة الموقع نهاية العام 2012 على عهد الرئيس المصري محمد مرسي، والانطلاق في حرب الإبادة الجارية الآن في قطاع غزة. لكن إذا كانت الحجة المباشرة للعدوان الإسرائيلي واضحةً وثابتة، أي مقتل المستوطنين الثلاثة، فما الذي تروم إسرائيل تحقيقه هذه المرة؟. وإلى أين يتجه عدوانُها تحديدا؟. ليس خافيا أن لإسرائيل جملة مقاصد من عدوانها على الضفة الغربية وقطاع غزة. فهي تتوخى أولاً توجيه ضربة مؤلمة لحركة حماس على امتداد كل التراب الفلسطيني، وليس في القطاع فقط. وفي كل الأحوال ليس هذا مقصدا جديدا، فحرب إسرائيل على حماس، وعلى القطاع برمته، دائمة ومتأصلة في الممارسة الإسرائيلية. إلى جانب ذلك، تهدف إسرائيل إلى إفشال الوفاق الفلسطيني وتعطيل مفعوله، وقد تبين منذ بدء مفاوضات إعادة بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية مدى انزعاج الإسرائيليين من المصالحة الفلسطينية، وسعيهم المنتظم إلى عرقلتها، والحيلولة دون تحققها. أما المقصد الثالث، فيخص الحدَّ من توسُّع دائرة الشرعية الدولية المعترِفة بحكومة الوفاق الوطني الفلسطيني. لذلك، يبدو حدث المصالحة الفلسطينية، والانتقال من حالة الانقسام إلى وضع إعادة البناء الوطني في قلب العدوان الإسرائيلي الجديد، بغض النظر عن الأسباب المُفجّرة له، وفي مقدمتها مقتل المستوطنين الثلاثة. على الطرف الفلسطيني، لم يفاجِىء العدوان الإسرائيلي الفلسطينيين، فقد تعودوا على جرائم إسرائيل، وخبروا عملياتها الإبادية، ودأبوا على مقاومتها بكل ما لديهم من قدرات وإمكانيات. فمن جهة، بات عصيّاُ على إسرائيل الضغط على الرئاسة الفلسطينية وحركة فتح بُغية ثنيهما عن تحقيق الوفاق الوطني الفلسطيني. بل فشلت إسرائيل في إرغام الرئيس الفلسطيني على الاختيار بين المصالحة مع حماس أو الاستمرار في المفاوضات مع إسرائيل، التي كانت في الواقع متوقفة منذ مدة. علاوة على ذلك، لم يصرّح أي فصيل فلسطيني بتبنيه مقتل المستوطنين الثلاثة، وإن وُجِّه الاتهام إلى حماس وأجهزتها، الأمر الذي يُفسر عمليات التنكيل التي تعرضت لها أطر حركة حماس وقادتها، سواء في الضفة أو في القطاع. الآن، وقد وقع العدوان على الفلسطينيين، وتركّز مرة أخرى على قطاع غزة، مخلفاً عشرات الشهداء ومئات الجرحى والمعطوبين. فإلى أين سيتجه؟، وهل سيبقى الفلسطينيون في غزة معنيين وحدهم بما يجري لشعبهم فوق أرضهم؟، أم أن واقع الوفاق الوطني سيدفع في اتجاه اتساع دائرة المقاومة بأفق ميلاد انتفاضة جديدة، أو على الأقل تكوّن جبهة فلسطينية واسعة تجمع الضفة الغربية والقطاع معا؟ (...) يصعب في الواقع رسم صورة تقريبية عن التوقعات الممكنة للعدوان الإسرائيلي الجديد على غزة.. فكل المشاهد ممكنة في مثل هذه الأوضاع..ما هو حاصل من خبرة العدوان الإسرائيلي المنتظم، والمقاومة الفلسطينية الدائمة والشجاعة له، أن مسح حركة حماس من الوجود أمر مستحيل التحقيق، لسبب بسيط أن حماس نابعة من المجتمع ومعبرة عن تيار عريض منه..ثم إن الفلسطينيين سواء أكانوا في حماس أو في غيرها من الفصائل يقاومون استيطانا وليس احتلالا مؤقتا. ومن زاوية أخرى، ليس في مقدرة إسرائيل، مهما علت حركة إبادتها، الذهاب بعيدا في توريط مؤسستها العسكرية، لأن كلفة ذلك ستكون غالية ومرتفعة، وهو ما لا تستطيع العقيدة العسكرية والسياسية الإسرائيلية الإقدام عليه. [email protected]