في الحلقات التالية، التي سيروي فيها عداؤون وعداءات مغاربة صنعوا التاريخ، تفاصيل غير مسبوقة عن سباقات أسطورية كانوا أبطالها، سيجد القارئ نفسه إزاء حكايات مثيرة، مروية بلسان أصحاب الإنجاز. العداء الكبير يحكي عن فاتورة للمكالمات الهاتفية بقيمة 32 ألف درهم
حين أنهيت السباق، واستمر الجدل لبعض الوقت كي يحسم الحكام في من يستحق المركز الثالث، كيف عشت تلك اللحظات؟ أولا وقبل كل شيء، وكما سبقت أن أشرت إلى ذلك، فقد غامرت بكل شيء في المرحلة الأخيرة من السباق. والدليل على ذلك أنني كنت قريبا من السقوط، بفعل السرعة الكبيرة وتحريك اليدين ودفع الرأس لاقتناص المركز الثالث. أما في ما يخص لحظات انتظار الحسم في النتيجة، فلا شك أنها كانت رهيبة. وأظنها كانت أصعب ما عشته في ذلك الأولمبياد، لا سيما حين كنت أقول لنفسي: "ماذا لو حسموا النتيجة، وكنت في المركز الرابع؟". وأنت تعرف أن أصعب شيء يمكنه أن يحدث لعداء؛ أو رياضي، هو أن يكون في المركز الرابع. فأن يأتي في المركز السابع أو الثامن لا يهم، غير أن الترتيب في المركز الرابع؛ أي أنك كنت قريبا جدا من الصعود إلى منصة التتويج دون أن تصعد إليها، "كيبقى فيك الحال". كانت لحظات صعبة جدا. وكنت عشتها من قبل مع زميلي إبراهيم الحلافي، في سنة 1999، حين كان يركض إلى جانب صلاح حيسو ومحمد مغيث، ثم حل في الركز الرابع بينما كان قاب قوسين أو أدنى من منصة التتويج، بفعل السرعة النهائية، والمجهود الكبير الذي بذله. تألم كثيرا، وتحسر كبيرا. في ألعاب القوى، يحسن بك أن تكون مع الأوائل أو لا تكون نهائيا. أما المركز الرابع، فهو محطة للألم والحسرة. "ما تبغيها تال شي واحد في الرياضيين". ثم أيقنت، أخيرا، وبعد الحسم، بأنك جئت ثالثا، وستربح الميدالية النحاسية. تنفست الصعداء.. حين تيقنت بأنني صاحب الميدالية النحاسية، شعرت بفرح لا يمكن بالمطلق وصفه. ومما زاد من فرحي أنني كنت أظن بأن الألعاب الأولمبية صارت مجرد سراب، ويتعين علي الانتظار أربع سنوات أخرى لعل وعسى. ثم إنني كنت، حينها، شابا بين ذوي الخبرة والتجربة، بل إنني كنت الأصغر سنا بين كل العدائين المغاربة الذين سبق لهم أن فازوا بميدالية أولمبية؛ بعمر 21 سنة فقط. "أقسم بالله، فديك الليلة، ما تغمضو العينين. باغي ننعس، ولكن مكاينش النعاس". ورغم أنني غادرت الفندق، ومشيت لبعض الوقت، وتجولت في مناطق قريبة، عسى أن يزورني النوم، إلا أن ذلك لم يحدث. وما حدث بعد ذلك أكبر، إذ حين كنا نعود إلى المغرب، تمنيت لو أن الطائرة تحط في المغرب بسرعة. ولكن هيهات هيهات، فالمسافة كانت طويلة للغاية، ما اضطرني إلى أن أتناول قرصا منوما، عساي أنام، لأنه كان "فوقاش علي يقولو وصلنا لمطار محمد الخامس بالدار البيضاء". ألم تجد نفسك، في تلك الليلة، تعيش بمشاعر متناقضة بعض الشيء؟ فمن جهة، كان من حقك أن تفرح فرحا شديدا بما وصلت إليه، ومن جهة أخرى، كان هناك صديق لك، هو هشام الكروج، حزينا بفعل صدمة ضياع الميدالية الذهبية لسباق 1500 متر. كيف وازنت بين الأمرين؟ بالفعل، كان وضعا صعبا للغاية. فمباشرة بعدما نزلت من منصة التتويج، ورجعت إلى مقر الإقامة، زرت هشام الكروج في غرفته. وجدته في حالة نفسية صعبة جدا، بفعل الحسرة التي كانت تأكله من الداخل. ولم يتنفس الكروج الصعداء، في تلك الأثناء، حتى تلقى اتصالا من جلالة الملك محمد السادس. أما قبل ذلك، فثق بي، كنا نعيش ما يشبه العزاء في مقر الإقامة، حتى إننا نسينا فرحتنا بالميداليات التي ربحناها؛ سواء أنا أو نزهة بيدوان. فلا أحد منا، ومن كل الرياضيين الذين كانوا في مقر إقامة البعثة المغربية، تقبل تلك النتيجة، لا سيما أن الكروج كان المرشح رقم واحد للظفر بالميدالية الذهبية، وإذا بنواه نغيني، الكيني، هو الذي يسرقها منه في اللحظات الأخيرة. في واقع الأمر كنا قد تسرعنا حين وضعنا تلك الميدالية الذهبية "في الجيب"، لا سيما أننا، بحكم التجارب السابقة والكثيرة، كنا ندرك بأن أشياء صغيرة جدا ربما تغير النتيجة، بحيث يؤثر مرض أو طارئ أو شيء عابر في السباق على مآلاته. ما الذي جعل الكروج، في تقديرك، يضيع تلك الميدالية الذهبية من بين يديه؟ لكثرة ما ربح هشام الكروج سباق 1500 متر، وصار سيده، كنا ننتظر منه الميدالية الذهبية ولا شيء غيرها. ومع الأسف، فهشام، الذي كان يعاني فوبيا من الأولمبياد، بفعل ما حدث له بدورة أتلانتا حين سقط سقطته الشهيرة، خسر الذهبية، وشعر بصدمة رهيبة جدا. طيب، كيف فسر هو بنفسه تلك النتيجة التي آل إليها السباق؟ في الحقيقة هشام كان قد اعترف بأنه ارتكب خطأ في ذلك الصيف. فقد كان أرهق نفسه كثيرا، ليصل إلى اليوم الموعود متعبا جدا. فالحياة علمتنا بأن نضحي بشيء لكسب شيء آخر، وإلا فلن نكسب أيا منهما. والمؤسف أن هشام كان قد أدرك مكاسب كبيرة في الملتقيات، ذلك الصيف، وإذا به يخسر الأهم، وهو الميدالية الأولمبية التي لطالما حلم بها. كان يتعين عليه أن يضع برنامجا محددا، يكون أفقه الأبرز هو الألعاب الأولمبية. غير أنه لم يفعل ذلك، بل سقط في العكس تماما. والنتيجة أنه عاش لحظات عصيبة جدا، تأثرنا لها كلنا بأسى عميق. وأذكر هنا أن هشام، وبعدما وصلنا إلى "غولد كوست"، بأستراليا، أجرى تداريب منهكة فوق التصور. "راه خبط نيت، مكاينش". وكان يساعده، في تلك الأثناء، كل من الحسين بنزريكينات أرنبا للتداريب، فضلا عن مساعد آخر بالدراجة الهوائية. فالمفترض في مرحلة مثل تلك التي كنا بصددها؛ أي ما قبل المنافسة، أن يجري تمارين خفيفة للغاية، بحكم أنه متمكن، وسبق له أن أدرك مواقيت ممتازة جدا في كل الملتقيات التي لعبها، إذا به يجري تداريب قاسية، كما لو أنه في أول الموسم الإعدادي. وكأنه كان يحاول التخلص من سقطة أتلانتا، حتى وهو في تداريبه الأخيرة. أليس كذلك؟ تماما. فالألعاب الأولمبية كانت فوق كل اعتبار بالنسبة إلى هشام الكروج. وبالرجوع إلى سباق 1500 متر ضمن أولمبياد سيدني، سيتضح لك بأنه كان عاديا جدا، وفي متناول هشام. الحمدلله أن ربي عوضه عما وقع له، وبفرحة كبيرة جدا، سر لها بميداليتين ذهبيتين في أولمبياد أثينا. ومع ذلك الحزن كله، كان لا بد أن تفرح بتلك النحاسية الثمينة جدا. فهل تواصلت مع الوالدة تلك الليلة؟ تلك قصة أخرى. بل كارثة أخرى. كيف ذلك. ما الذي وقع؟ لقد كنت أتواصل مع الجميع. "كندوي أنا، وكيدويو الناس". وفي الأخير، وعند الحاسب، وجدت أن الأمر يتعلق بمبلغ 32 ألف درهم "ثلاثة المليون وربعين ألف ريال". (يضحك بقوة، ثم يواصل). كنت قد طلبت من مسؤولي الجامعة أن يفتحوا الخط في وجهي، حتى أتواصل مع العائلة. ثم إذا بي أفتحه في وجه زملائي، والنتيجة كما سبق وأشرت إليها. (يضحك مجددا). وحتى أكون منصفا، فذلك الحساب الخيالي، الذي كان علينا دفعه مقابل المكالمات، لم يكن نتيجة لفتحي الخط في وجه زملائي، وما أكثرهم، بل أولا، وقبل كل شيء، نتيجة لطول المكالمة مع العائلة، بحيث كان بيتنا يغص بالحضور، فكلما تحدثت مع أخ أو أخت إلا ووصلني بقريب آخر، لتطول المكالمة وتمتد. هل تلقيت اتصالا من القصر حينها؟ بل تلقيت تهنئة ملكية، إذ وصل "فاكس" يتضمن التهنئة من صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره لله. كيف كان شعورك حينها؟ كيف لا يا أخي. والدليل أنني ما أزال أحتفظ بالتهنئة وبكل الأوسمة التي حصلت عليها إلى الآن. ثم إننا حظينا بالاستقبال الملكي بعد العودة إلى المغرب. ويا لها من مشاعر لا تنسى، للحظات لا يمكن وصفها.