حدد عبد اللطيف وهبي، الأمين العام الجديد لحزب الأصالة والمعاصرة، ثلاث أولويات على رأس «البام»؛ القطيعة مع السلطة، وإنهاء حالة العداء بين حزبه وبين حزب العدالة والتنمية، وترتيب البيت الداخلي للحزب الذي كاد ينهار فوق رؤوس الجميع في مؤتمره الأخير بمدينة الجديدة. وهي أولويات يسعى من خلالها إلى بعث روح جديدة في جسد الحزب، أو ولادة جديدة، كما أكد ذلك في أكثر من تصريح صحافي. تحتاج هذه الأولويات إلى نقاش، قصد التدقيق والفهم، وفحص مدى قدرة القيادة الجديدة على الوفاء بتلك الوعود المعلنة. تثير الأولوية الأولى توجسا وتساؤلات لدى العديد من المتتبعين، تدور حول قدرة السيد وهبي، وهو الذي جاء إلى «البام» بعد تأسيسه، على أن يقطع الحبل السري الذي يربط حزبه بالسلطة، التي أوجدته لأهداف واضحة شكلت هويته السياسية والفكرية على مدى عقد من الزمن، أي إحداث التوازن مع الإسلاميين بوسائل الدولة. لقد اعتبر السيد وهبي أن مجرد انتخابه بالتصفيق في المؤتمر الأخير مؤشر على القطيعة مع السلطة، لكن ذلك لا يبدو مقنعا، حتى لو افترضنا أن وهبي لا تربطه بالسلطة أي علاقة، وأنه يتحرك في كل مبادراته وتحركاته دون تنسيق مع أي جهة خارج مجموعته في «تيار المستقبل»، وهو افتراض قد يكون صحيحا، لكن علاقة «البام» بالسلطة ليست علاقة رأسية، أي أمين عام للحزب بالدولة، بل هي علاقة متداخلة وعلى أكثر من مستوى. ذلك أنه حين جعلت السلطة من «البام» حزبا لها، تدعمه بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك غض الطرف عن جمعه وتلقيه الأموال بطرق ملتبسة في عهد الأمين العام السابق، إلياس العماري، اندفعت أكثر من جهة داخل الدولة لخلق موالين لها داخل الحزب، وقد ظهر ذلك بوضوح في خطابات قياداته، في أكثر من محطة سياسية حاسمة، حيث يبدو أن للحزب خطوطا سياسية متباينة بل ومتناقضة، بالنظر إلى تناقضات المصالح التي يمثلها هذا القيادي أو ذاك. وإذا كان وهبي يؤكد أنه سيقطع صلته بالسلطة، فعن أي سلطة يتحدث؟ وعن أي جهة وأي مركب مصالحي سيقطع معه؟ بخصوص الأولوية الثانية، أي إنهاء حالة العداء مع حزب العدالة والتنمية، تبدو الفكرة جذابة، خصوصا أنها ستنهي حالة من الرفض المتبادل بين الحزبين، والذي تسبب في حصول تشنجات بينهما وفي الساحة السياسية، خصوصا في عهد زعيم «البيجيدي» عبد الإله بنكيران وغريمه على رأس «البام» سابقا إلياس العماري. لكن، إذا كان هذا الخطاب التصالحي إيجابيا في حد ذاته، ويُحسب في سجلات وهبي السياسية، فإن المدقق يلحظ أن هناك حماسة زائدة عن اللزوم، سواء من لدن وهبي أو بعض أصدقائه في «البيجيدي»، ولعل أقوى مؤشر على ذلك أن قيادة «البيجيدي» لم تهنئ وهبي رسميا حتى الآن، كما أن زعيم الحزب، عبد الإله بنكيران، اكتفى بتوجيه رسالة هاتفية إلى وهبي تتضمن «أربع كلمات»، حسب بنكيران، لكن، لا يبدو أنها رسالة تهنئة، وإلا لنشرها وهبي قبل بنكيران، وهو ما لم يحصل حتى الآن. معنى ذلك أن رغبة وهبي في المصالحة مع «البيجيدي» ليست سهلة التحقق على النحو الذي يعتقد البعض، وأن تغيير «البام» أمينه العام لا يكفي، في نظر قيادة «البيجيدي»، للقبول به حزبا عاديا وطبيعيا، مثل بقية الأحزاب، في الساحة السياسية. ولا تقل الأولوية الثالثة صعوبة وتعقيدا عن الأولى والثانية، فترتيب البيت الداخلي في حزب مثل «البام» ليس هيّنا، لأن الأمر لا يتعلق بحزب عادي من حيث التكوين والارتباطات، أي حزب منسجم ومتماسك بشريا وفكريا وسياسيا، ويتميز بشخصية سياسية واضحة المعالم، بل هو حزب يضم خليطا غير متجانس، يتساكن فيه الأعيان واليسار والتقنوقراط، وتعبر فيه حساسيات جهوية عن نفسها بشكل أوضح مما يقع في أي حزب آخر (ريافة، سواسة، صحراوة…)، كما يتعايش فيه الراغبون في حماية مصالحهم جنبا إلى جنب مع الباحثين عن المواقع والامتيازات والمناصب، وفوق ذلك كله لكل مكون خيط يربطه بالسلطة أو بأحد مكوناتها. حزب بمثل هذا التعقيد لا يبدو أن شخصية سياسية مرحة، مثل وهبي، قادرة على جمع شتاته، والاستجابة للأطماع والمخاوف والرغبات المتناقضة التي تخترقه. ولا يبدو أن الخيارات أمام وهبي في تنزيل هذه الأولوية كثيرة، فهو بين خيارين؛ إما الإتيان بنخبة جديدة من داخل الحزب إلى جانبه في القيادة، ودفع المكونات المنافسة إلى موقع المعارضة داخل الحزب، وهو خيار قد يؤدي إلى انشقاق الحزب؛ وإما أن يقرر، من موقعه الجديد، بناء توافق مع القيادات السابقة بما ترمز إليه وتمثله من مكونات داخل «البام»، وفي هذه الحالة، قد يجد نفسه أمام تحالف واسع ضده، وقد لا تسلم مؤسسات الحزب من «بلوكاج» من داخلها، وهو خيار لا يبدو مغريا مقارنة بالخيار الأول. ترتيب البيت الداخلي في حزب ذي طبيعة متشظية بقدر ما يعد حاجة وضرورة، فإنه أولوية شاقة أيضا. هكذا يبدو أن الطريق أمام وهبي ليس سالكا، وإذا كان البعض يعتبر نجاحه في الوصول إلى قيادة «البام» انتصارا له، فإن البعض الآخر يرى أن فسح الطريق أمامه في الساعات الأخيرة من المؤتمر هو الطريقة الأفضل للتخلص منه.. وتلك هي السياسة.