“مافتئت أشدد على ضرورة الإعداد الجيد، لمختلف البرامج والمشاريع، وخاصة التمويل وتصفية وضعية العقار. من المعروف أن جهود الدولة وحدها لا تكفي في هذا المجال. وهو ما يقتضي انخراط القطاع الخاص في عملية التنمية. وأخص بالذكر هنا القطاع البنكي والمالي، الذي نعتبره حجر الزاوية، في كل عمل تنموي”. الحديث هنا للملك محمد السادس، من منصة جلسة مشتركة بين مجلسي البرلمان، يوم الجمعة 11 أكتوبر الجاري. المرجع الأول في القرار السياسي والاقتصادي بالمملكة، أكد أن المغرب يتوفر، “والحمد لله”، على قطاع بنكي، يتميز بالقوة والدينامية والمهنية، ويساهم في دعم صمود وتطور الاقتصاد الوطني، ثم عاد ليستدرك: “ورغم ذلك، فإنه لايزال يعطي أحيانا، انطباعا سلبيا، لعدد من الفئات، وكأنه يبحث فقط، عن الربح السريع والمضمون. وهو ما يتجلى مثلا، في صعوبة ولوج المقاولين الشباب إلى القروض، وضعف مواكبة الخريجين، وإنشاء المقاولات الصغرى والمتوسطة”. كان بإمكان الملك اختيار حفل بروتوكولي آخر، يُقام على هامش مراسيم التوقيع على اتفاقية اقتصادية، أو رسالة موجهة إلى مؤتمر وطني أو دولي، أو حتى من خلال خطاب رسمي من تلك الخطابات التي تُلقى في المناسبات الوطنية، لإلقاء هذا الحجر الكبير في بركة البنوك المغربية. لكن محمد السادس اختار منصة المؤسسة التشريعية، ولحظة افتتاح سنتها الجديدة، لخلخلة “برج” ظل يعتبر راسخا في البناء المؤسسات والاقتصادي المغربي، أي المنظومة البنكية في المملكة، وهو ما يعطي للخطوة بعدها السياسي الواضح، أكثر من أي بعد تقني قد يعتقده البعض. “أعرف جيدا أنه من الصعب تغيير بعض العقليات البنكية؛ كما سبق أن أكدت على ضرورة تغيير العقليات الإدارية، ووضع حد لبعض التصرفات، التي تعيق التنمية والاستثمار”، يقول ملك البلاد، مضيفا أنه وبناء على ذلك يحث القطاع البنكي الوطني على المزيد من الالتزام، “والانخراط الإيجابي في دينامية التنمية، التي تعيشها بلادنا، لاسيما تمويل الاستثمار، ودعم الأنشطة المنتجة والمدرة للشغل والدخل”.
في قلب السياسة لم تكن المنظومة البنكية في يوم من الأيام بعيدة عن الحسابات السياسية في المغرب، بل إن تأسيس بنك المغرب في سنوات الاستقلال الأولى، كان بخلفية سياسية واضحة، حيث سعت حكومة عبدالله إبراهيم، من خلالها، إلى تجسيد استقلالية القرار المغربي وسيادته، من خلال إحداث هذه المؤسسة واستبدال الفرنك الفرنسي بالدرهم المغربي، في سياق قرارات “سيادية” أخرى، مثل تأسيس صندوق الإيداع والتدبير، وإصدار مجموعة من المدونات القانونية الجديدة، واسترجاع بعض الأراضي من المعمرين وتوزيعها على الفلاحين… تاريخيا، يعود افتتاح أولى الوكالات البنكية في المغرب إلى النصف الثاني من القرن 19، فيما أحدثت اتفاقية الجزيرة الخضراء بين المغرب و12 دولة أوروبية والولاياتالمتحدةالأمريكية، عام 1906، “بنك الدولة المغربية”، والذي سيتأسس فعليا في مدينة طنجة عام 1907 على شكل شركة مجهولة الاسم، يتوزع رأسمالها بين الدول الموقعة على الاتفاقية، باستثناء الولاياتالمتحدةالأمريكية. وإلى جانب معاملاته التجارية، أنيط بهذا البنك دور الضابط النقدي داخل المغرب. وبعد توقيع معاهدة الحماية سنة 1912، تأسست العديد من فروع البنوك الأجنبية، خاصة منها الفرنسية، لكن أول نص قانوني منظم للعمل البنكي في المغرب، لن يصدر إلا عام 1943، حيث صدر أول ظهير منظم لهذا النشاط في المملكة. وإلى جانب بعض النصوص التنظيمية الخاصة بتطبيقه، ظل هذا الظهير منحصرا في المنطقة الخاضعة للحماية الفرنسية، قبل أن يتم تعميمه على باقي التراب المغربي بعد الاستقلال. استبدلت الحكومة المغربية “بنك الدولة المغربية” ببنك المغرب عام 1959، وأصبح منذ ذلك الحين يقوم بوظيفة البنك المركزي، متخذا شكل المؤسسة العمومية ذات الاستقلال المالي. بعد ذلك توالى إحداث الدولة المغربية للمؤسسات المالية الخاصة بمرافقة بعض القطاعات المحددة، مثل صندوق الإيداع والتدبير وصندوق التجهيز الجماعي وصندوق الادخار الوطني، والبنك الوطني للإنماء الاقتصادي والبنك المغربي للتجارة الخارجية… فيما شهد عقد الستينيات من القرن الماضي إصلاحات شاملة للمؤسسات المالية التي كانت مخصصة لتمويل الاستثمارات العقارية والفلاحية، وجرى تقليص عدد المؤسسات البنكية من 69 إلى 26 مؤسسة في الفترة ما بين 1954 و1961، من خلال عمليات الاندماج والإلغاء التي همت الكثير من المؤسسات. ورغم التغييرات التي طرأت على الوضع القانوني والمؤسساتي للنشاط البنكي في المغرب، إلا أنه بات يتسم باستقرار كبير منذ ذلك الحين، وهو ما يكاد يتماهى مع الاستقرار السياسي الذي يتسم به النظام في المغرب.
معارضة الحكومة بصمات المنظومة البنكية في الحقل السياسي المغربي، ظهرت في السنوات القليلة الماضية، خاصة في سنة 2016 الانتخابية. ففي يونيو من تلك السنة، وفي خطوة غير مسبوقة من نوعها، قاد بنك المغرب، المؤسسة المشرفة على ضبط وتقنين ومراقبة القطاع البنكي في المغرب، تحركا مشتركا مع كل من الاتحاد العام لمقاولات المغرب والمجموعة المهنية للأبناك التي يقودها عثمان بنجلون، بتوقيعهم مذكرة مشتركة موجهة إلى رئيس الحكومة حينها، عبدالإله بنكيران. تحرّك بعثت من خلاله المؤسسات الثلاث الحيوية في الاقتصاد والمالية المغربيين، رسالة تحمّل من خلالها الحكومة مسؤولية الركود الاقتصادي وجمود حركة الاستثمارات. ومن بين الملاحظات المسجلة في المذكرة كون بعض المقاولات لم تعد تتوجه إلى البنوك للحصول على قروض. ويعود سبب العتاب الموجه إلى الحكومة بهذا الخصوص، هو أن الحكومة تعتبر مسؤولة عن ذلك الوضع لأنها مكنت المقاولات من متأخراتها المالية، وبالتالي، لم تعد لها الحاجة نفسها لتمويل أنشطتها. واليّ بنك المغرب، عبداللطيف الجواهري، الذي واجه حينها اتهامات مباشرة من حزب العدالة والتنمية، بتعمد تجميد ملفات مشاريع البنوك الإسلامية المعروضة عليه في انتظار مرور الانتخابات التشريعية، خرج ليقول إن النمو الاقتصادي جامد وتنافسية الاقتصاد الوطني ضعيفة والنسيج الإنتاجي هشٌّ، وأضاف أن جل المجموعات الصناعية الكبرى تواجه صعوبات فيما تجمدت دينامية القروض وارتفع معدل البطالة خاصة في المدن… وأكد الجواهري حينها الخلفيات السياسية لهذه المعطيات والتحركات، حين قال في ندوته الصحافية، بمناسبة الاجتماع الفصلي لمجلس مؤسسة بنك المغرب في يونيو 2016، إن المؤشرات الاقتصادية السلبية التي قدّمها بخصوص السنة الحالية، ترتبط بالسياق السياسي المتّسم بفترة انتخابية، لتفسير تراجع معدّل النمو المرتقب واستمرار ركوض القروض والاستثمارات المرتبطة بها. “فتنة” تحرير الدرهم بعد عام واحد من تلك المعركة السياسية-المالية، سيكشف وزير الاقتصاد والمالية في حكومة سعد الدين العثماني الأولى، التجمعي محمد بوسعيد، الكلفة الباهظة التي تسبّب فيها إعلان قرار تغيير سعر صرف الدرهم في أواسط العام 2017. بوسعيد قال حينها إن المغرب خسر ما بين 15 و24 مليار درهم من احتياطي العملة الصعبة في شهري ماي ويونيو 2017، وذلك بفعل تحرّك الفاعلين الاقتصاديين الذين يعتمدون على الاستيراد في أنشطتهم الاقتصادية، إلى طلب الحصول على احتياطيات كبيرة من العملة الصعبة. الباحث المتخصص في الاقتصاد بالمعهد المغربي لتحليل السياسات، رشيد أوراز، كشف في دراسته حول هذا الموضوع كيف أن تراجع بنك المغرب عن المضي في خطة تحرير الدرهم حينها، تم “بسبب المضاربات التي قامت بها البنوك في الأسابيع التي سبقت عملية الإعلان عن بدء المرحلة الأولى من التحرير، والتي أدت إلى تجفيف السوق النقدية من مخزون العملات الأجنبية، مما هدد قيمة الدرهم بالانخفاض بمجرد توسيع هامش صرفه”. أوراز يوضح أن قوانين سوق لا تعارض المضاربات التي قامت بها الأبناك المغربية، “لكن يعكس سلوكها هذا رغبة جامحة في تأمين ربح سريع بعد تحرير الدرهم، وهو ربح متوقع بناء على توقعاتها للمستقبل القريب والمتوسط التي كانت مبنية على فرضية أن توسيع مجال صرف الدرهم في مرحلته الأولى سيؤدي إلى انخفاض مؤكد لقيمته وارتفاع قيمة العملات الأجنبية كنتيجة لذلك”. ويخلص أوراز إلى أن البنوك قامت بمضاربات واسعة “لملء خزائنها بالعملات الأجنبية للاستفادة من هامش ارتفاع قيمتها مقابل الدرهم بمجرد تحريره وتفادي خسائر مالية في الآن ذاته”. ويضيف الباحث المتخصص أن بنك المغرب يتوقع أن تتصرف البنوك بشكل يتوافق وانتظاراته؛ أي بطريقة تعاونية في إطار قواعد اللعب التي يشرف البنك المركزي على وضعها. “ومن ثمة لم يكن يتوقع أن تقوم البنوك بتجفيف السوق من العملات الصعبة، التي ستدعم قيمة الدرهم بعد التحرير الجزئي، بسبب ما يقدره هو من ثقة هذه الأبناك في متانة العملة المغربية ومؤسساته الاقتصادية. لكن ذلك لم يحصل”. ما حصل بالفعل هو العكس تماما مما توقعه البنك المركزي، “حيث عبرت البنوك بسلوكها قبيل انطلاق عملية تحرير الدرهم عن فقدان ثقتها في متانة المؤسسات الاقتصادية، وهي حقيقة طالما تمت تغطيتها بالخطابات السياسية المطمئنة، كمن يحاول تغطية الشمس بالغربال”. المواطن.. أضعف الحلقات علاقة عموم المواطنين المغاربة مع المؤسسات البنكية تكاد تكون موضوع إجماع، باعتبارها علاقة إذعان واستغلال واضح، وهو ما باتت الأرقام التي تثبته متاحة بشكل رسمي وعلني، خاصة بعد الدراسة التي أنجزها مجلس المنافسة قبل أربع سنوات، والتي أكدت الطابع الريعي للبنوك المغربية. لكن الأخطر من ذلك، وما جاء الحِرصُ الملكي في افتتاح السنة التشريعية الحالية للتنبيه إليه، هو الانعكاس السلبي للمنظومة البنكية المغربية على النمو والاستثمار والدورة الاقتصادية. فالمنظومة البنكية المغربية هي بنية قائمة على استغلال ودائع الزبناء بالدرجة الأولى، إلى جانب إعادة تدوير التسبيقات المالية التي يمنحها بنك المغرب للمؤسسات المالية. وفي مقابل الكلفة الباهظة التي تتسم بها الخدمات البنكية المقدمة للمواطنين الأفراد، سواء مقابل حيازة أموالهم في الحسابات الجارية، أو عبر منحهم القروض بمختلف أنواعها، استهلاكية أو عقارية؛ فإن سلوك البنوك المغربية تجاه المقاولات يعتبر كارثيا من حيث مخلفاته الاقتصادية. فالبنك المغربي يعامل المقاولة كما يعامل الأفراد، أي مطالبته إياها بضمانات، غالبا ما تكون عبارة عن عقارات، وخارج هذه الحالة يكون من شبه المستحيل على المقاولة المغربية الولوج إلى التمويلات لإنجاز استثماراتها. “على والي بنك المغرب أن ينشر أولا المعطيات الخاصة بهذه الممارسات، حتى نعرف حجمها الحقيقي وانعكاسها على الاقتصاد”، يقول الخبير الاقتصادي إدريس الفينة. هذا الأخير كتب محذرا، بعد الخطاب الملكي أمام البرلمان، من استمرار العمل بالضمانات المالية التي تطالب بها الإدارة المقاولات كشرط مسبق للحصول على الصفقات، “هذه الضمانات تخلق في بعض الحالات حاجزا أمام المقاولات المتوسطة وتنتج عنها كلفة مالية إضافية للمقاولات وتمثل في الوقت عينه هدية بدون مقابل من الإدارات للأبناك”، يقول الفينة، مضيفا أن الهدف من هذه الضمانات هو التأكد من أن المقاولة قادرة على إنجاز الصفقة، “في المقابل تتعرض المقاولة لتأخر كبير في الأداء من جانب الإدارة، والتي لا تقدم أي ضمانة بأن ميزانية الصفقة كلها متوفرة وتتقدم بشهادة بهذا الخصوص تسمح للمقاولة من الاطمئنان على السداد. فهل ستنهي الإدارة العمل بهذه الضمانات التي لا تعمل سوى على تجميد ملايين الدراهم عند الأبناك؟ علما أن بعض الصفقات تعتمد هذا المبدأ وأخرى لا”. في دراسة قامت بها الجمعية المغربية لمكافحة الخروقات البنكية، تبيّن أن الشركات والأشخاص المعنويين يشكون من مصاعب تشبه تلك التي يواجهها الأشخاص الذاتيون في تعاملهم مع البنوك. على رأس تلك المصاعب يوجد غياب الوضوح في الجانب الخاص بالتعريفات وأسعار الخدمات البنكية، ثم وجود تكاليف غير متوقعة وغير مبررة، خاصة تلك التي تنتج عن إغلاق الحسابات البنكية، علاوة على عدم التوصل بالكشوفات والبيانات الكافية، إلى جانب عدم احترام المساطر القانونية ورفض منح التمويل… قواعد الإذعان أبانت دراسة حديثة أنجزها البنك الدولي، أن نسبة استفادة المواطنين المغاربة من الخدمات البنكية مرتفعة مقارنة مع دول شمال إفريقيا، ودول مماثلة في البحر الأبيض المتوسط، حيث تصل إلى 41 في المائة، مقارنة مع مصر 10 في المائة، والأردن 25 في المائة، ولبنان 37 في المائة، وتونس 32 في المائة أما بخصوص الخدمات البنكية الأكثر استعمالا، فهي الحسابات البنكية، متبوعة بخدمات تحويل الأموال، ثم القروض والرهون العقارية، لكن أظهر الاستطلاع أن 3 في المائة فقط من المستجوبين استفادوا من خدمة الرهون العقارية. الدراسة أظهرت مدى ضعف الحماية القانونية للمواطنين الذي يتعاملون مع الأبناك المغربية، وأن المواطنين الذين يواجهون نزاعات مع الأبناك، لا يلجؤون إلى القضاء، لأنهم يعتقدون أن الأبناك لها قوة كبيرة، وأن القانون لا يحميهم، أي أن المغاربة يخافون من بنوكهم. الدراسة التي شملت 3000 شخص تتجاوز أعمارهم 18 سنة يمثلون عددا من الأسر المغربية، هدفت إلى معرفة القدرات التمويلية داخل المغرب بالنسبة إلى الأسر، والظروف السوسيو اقتصادية التي تؤثر على ولوج الأفراد نحو الخدمات البنكية، ودراسة العادات والسلوكيات لدى المتعاملين مع الخدمات البنكية وكيفية تدبيرهم لمواردهم. النتيجة كانت صادمة، وكشفت عن أن المغربي الذي حصل على خدمات مالية، يستعين بالعلاقات الخاصة والشخصية لحل النزاعات التي قد تنشب بينه وبين الأبناك أو المؤسسات المالية، وتبين أن الأغلبية لا تلجأ إلى القضاء، حيث إن 1 في المائة من المستجوبين فقط، من قرروا اللجوء إلى القضاء في مواجهة بنك، في حين أن 1 في المائة قدموا شكايات للسلطات الحكومية المختصة، و11 في المائة اشتكوا لدى المؤسسة المالية نفسها، و50 في المائة أوقفوا استعمال الخدمة المالية قبل انتهاء مدة العقد، و69 في المائة لجؤوا إلى طلب تدخل أحد الأصدقاء أو العائلة. خريطة الاحتكار يتوزّع السوق البنكي المغربي بين 19 مؤسسة بنكية أكبرها وأكثرها هيمنة في السوق، هي تلك التي تستهدف جمع أجور وموارد الفئات ذات الدخل المحدود، ومنحهم قروض الاستهلاك وشراء البيوت، هذا ما خلص إليه مجلس المنافسة في دراسته المنجزة عام 2014. وفيما يعتبر القطاع البنكي في المغرب محررا، أي خاضعا لقانون السوق والمنافسة الحرة، إلا أن الدولة تظلّ الفاعل الأساسي فيه، حيث تشارك أو تهيمن على رؤوس أموال المؤسسات البنكية، مقتسمة هذا المجال الاقتصادي مع الأبناك الفرنسية، وكل من الهولدينغ الملكي وهولدينغ “فينانس كوم”. يعتبر محدودو الدخل أهم زبناء كبريات المؤسسات البنكية، حيث تعتمد هذه الأخيرة بشكل شبه كامل على عائدات فوائد القروض، خلافا لما هو معمول به عالميا، وحتى في دول الجوار الإقليمي للمغرب. وكشف مجلس المنافسة في دراسته كيف تستغل الأبناك المغربية الزبون إلى أقصى الحدود، فلا تمكّنه مثلا من حقه القانوني في إبرام عقد لتأمين القرض مع شركة للتأمين يختاره بنفسه ويتفاوض معها، بل تعمد الأبناك إلى ربط منح القرض بإبرام عقد التأمين أيضا معها. “قواعد بال” تعتبر الفوائد المترتبة عن القروض، المورد الأساسي لأرباح المؤسسات البنكية في المغرب، مقارنة مع العمولات التي تجنيها الأبناك عادة في المعاملات البنكية. وتصل نسبة فوائد القروض ضمن عائدات المؤسسات البنكية المغربية، إلى نحو76 في المائة. أسلوب فسّره الخبير في الشأن البنكي عمر الكتاني، في تصريحات سابقة ل”أخبار اليوم”، باعتماد “تعليمات بال” مرجعية أساسية في النشاط البنكي في المغرب. ويتعلّق الأمر بمدينة سويسرية يجتمع فيها أرباب المؤسسات المالية الدولية، ويصدرون تعليمات إلى الأبناك المركزية، لاتخاذ احترازات تقلل من مستوى المخاطرة في المعاملات المالية. تقوم هذه التعليمات على اعتماد أقصى درجات الاحتراز، مع أقل قدر ممكن من المخاطرة. ويؤدي هذا الأمر إلى اعتماد المؤسسات البنكية المغربية بالدرجة الأولى على إقراض الدولة، أي سندات الخزينة المضمونة، كما تُقرض أساسا بعض المقاولات الكبرى ذات المستوى المرتفع من الضمانات، إلى جانب القروض الاستهلاكية التي تتسم بكونها تسترجع في مدى قصير وجزء كبير منها يقدّم للموظفين الذين يتم الاقتطاع من أجورهم، وبالتالي، فجل معاملات هذه المؤسسات هي مضمونة أو قليلة المخاطر. أسلوب يجعل أن المقاولات الصغرى والمتوسطة لا تتمكن من التعامل مع الأبناك المغربية، حيث ترفض هذه الأخيرة إقراضها لأن في معاملاتها مخاطر مرتفعة. وزيادة على ذلك، فإن البنوك المغربية تعتمد معدل فائدة مرتفع على القروض الاستهلاكية، مقارنة بما هو معمول به في دول أخرى، مثل المنطقة الأوروبية، لتكون الخلاصة أن البنوك المغربية قائمة على مبدأ الربح وليس التنمية أو المساهمة في النمو. فالخبراء الذين أشرفوا على إعداد دراسة مجلس المنافسة، وضعوا لائحة بمواصفات للزبون العادي لدى المؤسسات البنكية، من قبيل ذلك الذي يقوم بتحويل دوري لسومة الكراء وأربع عمليات سحب من الشباك الأوتوماتيكي، بما فيها عمليات من شبابيك أبناك أخرى غير بنكه الخاص، ويستهلك دفتري شيكات في السنة… آلاف الملايير حسب تقريره السنوي الأخير حول مهمة “الإشراف البنكي” التي يقوم بها، يخبرنا بنك المغرب أننا في المغرب أمام 24 مؤسسة بنكية، ضمنها 5 بنوك تشاركية من تلك التي جرى تأسيسها في السنوات الأخيرة. وتحصي شبكة البنوك المغربية أكثر من 6500 وكالة بنكية، ما يعني معدّل وكالة بنكية واحدة لكل 5400 نسمة. بعض هذه الوكالات تتوفّر على أكثر من شباك إلكتروني، ليكون مجموع هذه الشبابيك التي يستعملها الزبناء لسحب الأموال والقيام ببعض المعاملات الأخرى، قرابة 7300 شباك. فيما تحصي البنوك المغربية 45 فرعا لها خارج المملكة. ويناهز مجموع الأموال التي تحوزها المؤسسات البنكية في المغرب، أكثر من ألف مليار درهم (100 ألف مليار سنتيم)، 90 في المائة منها هي الأموال المتأتية من ودائع الزبناء، أي 928 مليار درهم في العام 2018، مقابل 121 مليار درهم من الرساميل الخالصة لهذه البنوك ومساهميها، إلى جانب مكونات أخرى في موارد البنوك مثل القروض المستحقة لمؤسسات بنكية أخرى… تحصي الوثيقة الأخيرة الصادرة عن بنك المغرب، وجود قرابة 27 مليون حساب بنكي، مع انحسار نسبي في تطوّر عدد الحسابات البنكية في العام الماضي، حيث ارتفع ب4.7 في المائة فقط. فيما لم تسجّل البنوك التشاركية فتح سوى 56 ألف حساب جديد في 2018، مقابل 27 ألف حساب فتحت خلال العام 2017. أما البطائق الإلكترونية البنكية، فارتفعت خلال العام الحالي بنسبة 7.2 في المائة، ويصل مجموعها إلى أكثر من 15 مليون بطاقة، وتستعمل هذه البطائق، أساسا، في عمليات السحب. وتوظّف مؤسسات البنوك والقروض بمختلف أنواعها. إفلاس بنك الثقة كل هذه المؤاخذات قد تكفي مرافعات المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق المستهلك ومقاومات مؤسسات رسمية مثل مجلس المنافسة للحد منها، لكن المشكلة تتفاقم حين يصبح سلوك المؤسسات البنكية يصدر عن غياب شبه تام للثقة في اقتصاد يوفّر أقصى درجات الحماية والربحية للمؤسسات المالية. سلوك قد يبرّر اضطرار ملك البلاد إلى الخروج شخصيا في خطب رسمي من منصة البرلمان، للترافع من أجل تغيير عقلية الفاعل البنكي، تماما مثل ترافع خطب ملكية أخرى من أجل تغيير عقلية الفاعل الإداري. ولعل إحدى أهم محطات بروز غياب الثقة في الاقتصاد الوطني، هو انغماس البنوك المغربية في مضاربات عمياء لحظة الإعلان أول مرة عن تحرير جد محدود لسعر صرف الدرهم. “وبالرغم من الدعم الرسمي الذي لقيه بنك المغرب، إلا أنه فشل بسبب الفجوة الموجودة بين توقعاته لسلوك الأبناك التجارية وبين حسابات هذه الأخيرة، والتي تشي بغياب الثقة بين الطرفين، وإلى غياب ثقة الأبناك المغربية في بنية الاقتصاد الذي تنشط في إطاره”، يقول الباحث رشيد أوراز، ليخلص إلى أن المشكل أعم، “وهو ضعف ثقة الأفراد والفاعلين في المؤسسات الاقتصادية والسياسية، ويكشف مدى هشاشة المؤسسات والقواعد المؤطرة للاقتصاد والدولة والمجتمع”.