هل اختفت ظاهرة «العسكرتارية» في المنطقة العربية، حتى يأتي الحديث اليوم عن عودتها؟ المقصود هنا بالعودة محاولة للوقوف عند دور سيء لعبه العسكر في دول الربيع العربي، أو التي تأثرت برياحه في الالتفاف على مطالب الشعوب أو الانقلاب عليها. وفي حالات أخرى، قمعها والقضاء عليها بقوة الحديد والنار، مع استثناء من يخرج عن منطق القاعدة، قدمته لنا التجربة التونسية. فمن يتأمل بنية الدولة العربية، سيجد أنها بنية «عسكرتارية» بامتياز، ليس فقط في الدول التي تداول على حكمها العسكر، بل وحتى داخل الأنظمة شبه المدنية، والتي تدين بشرعيتها واستمرارها لعسكرها، قبل ثقة شعوبها فيها. و»العسكرتارية» لا تعني فقط ظاهرة نفوذ حكم العسكر الذي قد يتحول إلى دكتاتور؛ وإنما تشمل، أيضاً، ظاهرة العداء للمجتمع المدني، بكل تعبيراته السياسية والدينية والثقافية والإعلامية، خصوصاً عندما يبلور سلطة مستقلة مضادة، أو منافسة لسلطة العسكر. ومصطلح «العسكرتارية» –هنا- لا علاقة له بالدور الوطني، الملقى على عاتق الجيوش في إطار عقيدة أوطانها لحماية شعوبها وصون وحدة بلدانها. فعندما هبت رياح «الربيع الديمقراطي» على شعوب المنطقة العربية كانت الأنظار موجهة، بالدرجة الأولى، إلى مؤسساتها العسكرية، لأنها وحدها التي كانت قادرة على صنع المفارقة. البداية كانت من تونس، عندما قرر الرئيس الهارب، زين العابدين بن علي، الاستعانة بالجيش لسحق المتظاهرين، فاختار الجيش طواعية الانحياز إلى جانب الشعب، عندما رفض قائده، الجنرال رشيد عمار، الانصياع لقرار بن علي بمواجهة الشعب، وفضل الإقالة والإقامة الإجبارية، وما كانت ستليها من عواقب وخيمة، لو لم تنجح الثورة على سفك دماء شعبه. والمرة الوحيدة التي ظهر فيها الجنرال عمار خلال أيام الثورة التونسية كانت من دون بروتوكول، وبشكل مفاجئ وسط المتظاهرين عند «القصبة» مقر رئاسة الحكومة التونسية، ليحمل إلى الثوار رسالة واحدة، مفادها أن الجيش وُجد ليحمي ثورة الشعب. أما الظهور الوحيد لهذا القائد العسكري على شاشة التلفزيون الرسمي لمخاطبة الشعب فكان عندما قرر إعلان تقاعده. في المقابل، سينزل الجيش في مصر إلى ميدان التحرير إلى جانب الثوار، وسيتولى قادة «العسكرتارية» المصرية قراءة بيانات الثورة الأولى دون خجل، وبزيهم العسكري نيابة عن الثوار الذين بدلا من أن يستنكروا أول سرقة لثورتهم، كانوا يردون على سارقي حلمهم بشكرهم عن طريق تقليد تحيتهم العسكرية! لكن، من اعتقد أن العسكر سيكتفون بتحية شكر، ولو كانت عسكرية مائة في المائة، كان ساذجاً، لأن «العسكرتارية» سرعان ما ستنتفض لاسترداد «جمهوريتها» من حكم المدنيين في أول «انقلاب عسكري» يشهده التاريخ للانقلاب على إرادة الشعب، وبتفويض من الشعب نفسه، أو على الأقل هذا ما قيل. أما في ليبيا التي قام فيها النظام على انقلاب عسكري، تحول إلى حكم عصابة، فقد انهار فيها كل شيء، مباشرة بعد انتشار صور مقتل الزعيم. والشيء نفسه كاد أن يتكرر في اليمن، لولا تدخل دول الخليج التي أنقذت الرئيس العسكري، ليظل «عساكرته» يحكمون من بعده، حتى بعد «تنازله» المدفوع الثمن، و «منفاه» الاختياري. وفي بلد مثل سورية، عقيدة عسكرها هي عقيدة حزبهم الحاكم، المسافة الوحيدة التي اتخذها العسكر هي التي تبناها قادته ضد الثورة، منذ كان المنخرطون فيها مجرد أطفال مدارس، سلاحهم الوحيد حناجرهم الصغيرة، و «خربشات» أناملهم الطرية على جدران مدينة درعا. وحتى في الدول التي تختفي فيها مظاهر «العسكرتارية»، خصوصاً المملكات والإمارات، فذلك لا يعني أن «عسكرها» يعيش داخل الثكنات بعيداً عن السياسة التي تحاك خيوطها في أروقة قصور الملوك والأمراء. فالسلطة، في مثل هذه الحالات، تتحول إلى ولاءات تشترى في مقابل ريع يوزع بعيداً عن أنظار الشعب ومحاسبته. وفي أول محاولة لظهور قوة مجتمعية احتجاجية في إحدى هذه المملكات، وعلى رأسها البحرين، رأينا كيف تصدى لها «درع الجزيرة» العسكري لقمع صوتها، وإخماد انتفاضتها. ولا حاجة للحديث عن تجارب «عسكرتارية» بامتياز، في الجزائر التي يحكمها العسكر من خلف الستار، أو في موريتانيا التي يقوم انقلابيوها بتبييض انقلاباتهم العسكرية عن طريق صناديق اقتراع مغشوشة. والبلد العربي الوحيد الذي سقط فيه العسكر انهارت فيه الدولة، إنه العراق ما بعد الاحتلال، عندما حل الحاكم الأمريكي الجيش العراقي، فعمت الفوضى «غير الخلاقة» التي ما زالت مستمرة. أما في بلد مثل لبنان، فإن إضعاف المؤسسة العسكرية أدى إلى ضعف مزمن للدولة. اليوم، وبعد مرور ثلاث سنوات ونيف على انتفاضة الشعوب العربية، وما تلاها من انتكاسات، يعاد طرح السؤال من جديد، هل يمكن للشعوب العربية أن تُحكَم من دون عسكرها، وأن تًحمى بقوة جيوشها؟ مرت دول كثيرة في أمريكا الجنوبية، الغنية منها والفقيرة، بتجارب مؤلمة لحكم العسكر، لكنها عبرت بشعوبها نحو الديمقراطية. وفي أكثر من دولة إفريقية، وَدعت شعوبها، التي تتخللها الأمية والفقر، الانقلابات العسكرية، واحتكمت إلى صناديق الاقتراع. أما في المنطقة العربية، فإن الحضور القوي للعسكر في السياسة والمجتمع لا يفسره إغراء غنى الدول، ولا يبرره فقر شعوبها أو أميتها، وإنما هو تعبير صارخ عن ضعف المجتمع المدني الذي عندما يريد أن يحتمي بنفسه يتقوقع داخل الطائفة والقبيلة والعشيرة..، خلف الزعيم والقائد والشيخ والسيد... عن موقع «العربي الجديد»