أحمد عصيد: كاتب وناشط حقوقي إن القيام بجرد لحصيلة عمل الملكية بالمغرب يقتضي قدرا من الموضوعية، كما يستوجب بعض التحرر من التحفظات السطحية التي سببها الخوف، إما من ردود فعل النظام أو الخوف على المكتسبات الشخصية، فمن المؤسف القول إن سلوك السلطة يدلّ يوما عن يوم على رفضها لأي نقد موجه للملكية رغم أنها طرف أساسي في الحياة السياسية، بل إنها تحتل صدارة المشهد بمبادراتها وقراراتها المؤثرة بشكل مباشر، كما أن الكثير من التدابير المتخذة نابعة من سلطات الملك وصلاحياته. إن تقييم عمل الملكية وإنجازاتها ينبغي أن يكون من ضمن التقييمات التي تتم كل سنة، ولا يجوز الخلط بين العمل الحكومي المحدود والفعل الملكي الأكثر تأثيرا خلال التقييم، حتى تتضح المسؤوليات، حيث صار من المكتسبات الدستورية عندنا ربط المسؤولية بالمحاسبة، غير أن ما يتم عمليا هو عدم تطبيق هذا المبدأ الدستوري عندما يتعلق الأمر بالملكية، إذ يتم اللجوء إلى محاسبة الحكومة في مجمل سياسات الدولة، بما فيها تلك التي تنبع من قرارات الهيئات العليا. من البديهي أنه منذ سنة 1999 كانت ثمة خطوات عديدة غير مسبوقة، بادر بها الملك محمد السادس منذ مجيئه إلى الحكم، ومنها الملفات الخمسة الأكثر حساسية، والتي اعتمدها في تجديد شرعية العرش بعد رحيل الملك السابق الحسن الثاني، وهي ملف الصحراء الذي اقترح فيه بشجاعة "الحكم الذاتي"، وملف المرأة الذي عمل فيه على إجراء تعديلات جريئة في مدونة الأسرة، وملف الاعتقال السياسي وسنوات الرصاص الذي فتح فيه باب الاعتراف والمكاشفة حول تلك الفترة المظلمة من تاريخ بلدنا، من خلال تجربة العدالة الانتقالية والإنصاف والمصالحة، كما عمل على رد الاعتبار للأمازيغية هوية ولغة وثقافة بعد عقود من الميز بإلقائه خطاب أجدير التاريخي وإنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. كان هذا في السنوات الأولى من حكمه، وقد تم تأجيل ملف آخر على قدر كبير من الأهمية إلى حدود سنة 2011، وهو ملف الإصلاح السياسي والدستوري، حيث ظل العمل خلال 12 سنة السابقة بدستور الحسن الثاني الذي كان إطارا ضيقا جدا لا يتسع للإجراءات الجديدة التي باشرها الملك الجديد. إلى جانب هذه الإجراءات الكبرى، التي نضيف إليها استعمال عبارات في غاية الأهمية مثل "المجتمع الحداثي الديمقراطي" و"المفهوم الجديد للسلطة"، أحدث الملك العديد من المؤسسات الموازية للحكومة، والتي لا تتبع لوصاية الحكومة المنتخبة، كما كلف شخصيات كثيرة مقربة بمشاريع وقضايا معينة لا تتحكم فيها الحكومة ولا تُسأل عنها، وقام الملك خلال ذلك بزيارات ملكية إلى كل المناطق، بدءا بالمناطق الشمالية التي كانت علاقتها بالسلطة المركزية في غاية التوتر، والتي أدت إلى سنّ سياسة انتقامية ضد الريف في فترة حكم الملك الحسن الثاني، وأيضا فخلال جولات الملك كانت تتم تدشينات لمشاريع تنموية كثيرة، وخلال خطب العرش من كل سنة تعرض الملك لعدد كبير من معيقات التنمية والعمل المؤسساتي الطبيعي، كما اعترف بوجود أشكال خلل كثيرة أقرت بها دراسات وخبراء وطنيون ودوليون، وكان أهم خطاب ألقاه بهذا الصدد الخطاب الذي تساءل فيه عن الثروة ومآلاتها، وعن السبب الذي يجعل هذه الثروة لا تنعكس بالشكل الإيجابي المطلوب على حياة الناس وخاصة المستضعفين منهم. كل تلك التحركات والقرارات والتدابير جعلت الملكية في واجهة الحياة السياسية، ونحن اليوم ملزمون بتقييم أثرها على الدولة والمجتمع معا. إن تواجد الملكية في كل الواجهات كان له أثر إيجابي وآخر سلبي، فالإيجابي هو إحداث بعض التطور في ملفات تعد موضوع خلاف وتوتر سواء لدى النخب أو في المجتمع، كما هو الشأن في موضوع المرأة وموضوع الأمازيغية وموضوع مراجعة الدستور، وكذا موضوع الاعتقال السياسي، والتي كان من المستحيل أن تقرر فيها الأحزاب لوحدها أي شيء بسبب الخلاف الكبير فيما بينها في هذه القضايا الحساسة، لكن بالمقابل أدت هيمنة الفاعل الملكي إلى إضعاف الفاعلين السياسيين الآخرين، وإفقادهم روح المبادرة، وإلى ترهلهم تنظيميا وتشتت قواعدهم، ويفهم من هذا أن انتقال العرش كان يفرض على النظام ضرورة تقوية موقع الملكية من جديد إزاء الأحزاب والتنظيمات الموجودة في البلاد، لكن أعتقد أن ذلك قد تم على حساب الأطراف الأخرى وعلى حساب مصداقية الحياة السياسية، ما أدى إلى فقدان الثقة في الأحزاب وتزايد العزوف السياسي ومقاطعة صناديق الاقتراع. ثانيا، الكثير من الأوراش التي دشنها الملك بقراره وإرادته لم تتم متابعتها بالشكل المطلوب، بل حدثت الكثير من التراجعات في بعضها مقارنة بما كانت عليه من قبل، وغالبا ما يلقى وزر ذلك على الحكومة والإدارة، ما يقتضي القيام بحصيلة دقيقة تحدد المسؤوليات بشكل دقيق، حيث في أحيان كثيرة لا يجد المرء أي دليل موضوعي يستطيع بناء عليه تحديد المسؤوليات. ثالثا، إن القرارات الكبرى المتخذة من طرف الملك لم تعط النتائج المطلوبة بسبب عدم قيام الدولة بالتحسيس بها، ما يطرح مشكلة الإرادة السياسية بشكل واضح، فقد تم تعديل مدونة الأسرة في إطار لجنة ملكية وبقرار من الملك منذ سنة 2004، لكن عندما ننظر اليوم إلى وضعية المرأة وإلى الوعي الاجتماعي تجاهها، نجد أنفسنا في وضعية مزرية في غاية التردي، فقد تضاعف العنف ضد النساء وتضاعف اغتصاب القاصرات باسم الزواج، كما لا يتم تطبيق مكتسبات مدونة الأسرة في المحاكم، واستمر الظلم يلحق المرأة داخل المؤسسات رغم تقدم قانون الأسرة، وحدث نفس الشيء تقريبا في الأمازيغية، حيث استمر الميز ضدها رغم الترسيم في الدستور، وهذا معناه أن القرار الملكي يغير القانون والنصوص، ولكنه لم يغير العقليات، لأن تغيير هذه الأخيرة بحاجة إلى تعبئة وطنية وحملات تحسيس كثيرة لا تقوم بها الدولة، وهي من اختصاص الحكومة، لكنها أيضا مرتبطة بإرادة الملك الذي يمكنه الحرص والإشراف على مراحل التنفيذ ومتابعتها من خلال المؤسسات التي ترتبط بسلطاته، فمثلا كنا ننتظر أن تتم مناقشة ومراجعة مشروع قانون الأمازيغية في المجلس الوزاري، حيث قدم المجتمع المدني الأمازيغي والحقوقي مذكرة إلى الديوان الملكي شرح فيها قصور المشروع وعدم مطابقته للدستور، لكن ذلك لم يمنع من تبنيه على علاته وتمريره إلى البرلمان. هناك أيضا مثال آخر، إذ طالبنا منذ عشرين سنة بمراجعة مقررات التربية الدينية لخطورتها على استقرار بلدنا وعلى الوعي المواطن، وقد استجاب الملك لهذا المطلب في خطاب خاص وشكل لجنة من أجل ذلك، لكن للأسف التعديلات التي تمت كانت محدودة وليست كافية، ولا ترقى إلى مستوى ما جاء في الخطاب الملكي، وكان يمكن تدارك الكثير بهذا الصدد. رابعا، أعتقد شخصيا بأن الكثير من أشكال التدبير التي تم اعتمادها كان فيها تأخير كبير وتردد بالنسبة لإسهام الفاعل الملكي، فمثلا انتفاضة الحسيمة استمرت في الشارع لمدة سبعة أشهر كان من الممكن خلالها بعد فشل الحكومة وارتكابها لخطأ إدانة وتجريم الاحتجاج، أن يتدخل الملك لرأب الصدع وإقرار التدابير الضرورية، كان ذلك في اعتقادي سيجنبنا الاعتقالات والمحاكمات السياسية التي أساءت إلى سمعة بلدنا. خامسا، كان منتظرا بعد تولي الملك محمد السادس الحكم سنة 99 أن يبادر بإلغاء بروتوكول تقبيل اليد وكذا حفل الولاء لكنه لم يفعل، وقد أصبت شخصيا بخيبة كبيرة عندما قرأت في الصحف بأن ملك السعودية قد أعلن إلغاء تقبيل اليد لأنه "ليس من عادات العرب"، لقد كان ممكنا أن تكون المبادرة مغربية وكانت تلك القرارات ستقوي بلا شك شرعية الملكية داخليا وخارجيا. لا شك أن الملكية عامل توازن حقيقي في الحياة السياسية المغربية، لكنها بحاجة إلى الخروج من التردد نحو تجديد التعاقد السياسي المغربي بين كل الأطراف، عبر الحسم في الاختيارات الكبرى الضامنة لحقوق الجميع حتى نخرج من التناقضات القاتلة، فأنا شخصيا أرى بأن هذا الحسم الذي يمكن لوحده إنجاح الانتقال نحو الديمقراطية لا يمكن بدون السلطة الملكية، ومن ضمن أسس هذا الانتقال اتخاذ النظام لشكل الملكية البرلمانية، التي لا يعوقها الآن سوى الخلافات الحادة بين الأطراف السياسية والمدنية التي لا تقبل بعضها بعضا، حيث تصل مشاريعها المجتمعية حد التناقض المطلق، ما يجعل الملكية كما هي اليوم بديلا للجميع وفوق الجميع، لكن ذلك لا يساهم في التطور المطلوب.19