كاد أهل السياسة أن يوقفوا المفهوم على ميدانهم دون التساؤل: هل يمكن أن تكون الحرية بمفهومها السياسي الجزء الظاهر من جبل الجليد؟ في ثقافتنا العربية الإسلامية ضيعنا وقتا ثمينا في مناقشة هل نحن مخيرون أم مسيرون؟ والإجابة بديهية: نحن هذا وذاك. وضع الفلاسفة الغربيون الحرية في أعلى مقام كقيمة القيم وأرقى حالات الإنسان، وأوصلها سارتر وتلامذته إلى مصاف السريالية. أنت حرّ حسب هذه الرؤية ولو كنت مقيدا في زنزانة تنتظر الإعدام. المهمّ أن تواصل قولك "لا" للدهر بكل جبروته، وآنذاك كم سيبدو صغيرا أمام رفضك المتكبّر لقوته حتى وهو يسحقك. موقف جميل لا علاقة له بالحرية وإنما بالتفكير السحري، لأنك -شاء الفيلسوف أم أبى- مقيّد ومحدود الفعل ومنعدم القوة الحقيقية، ولا أظن فيلسوفنا الهمام مستعدّ لأخذ مكانك ليقول هو "طز" للدهر، مظهِرا مدى عظمة الإنسان وقدرته على تجاوز كل الحدود التي تقيده وكل القوى التي تسحقه. يجب العودة بمفهوم الحرية إلى المستوى الفردي والعملي للخروج من التنظير الفضفاض الذي جعل من الحرية أساسا إشكالية فلسفية أو سياسية، وهي قضية أوسع. **** عودة إلى البديهيات والمستويات الفعلية والفاعلة التي نواجه فيها سؤالا كبيرا: "ما الذي يحدّ من حريتنا؟"، وتحديا أكبر "كيف نكون أحرارا؟". لنبدأ بالتذكير بأن الحرية عمليًّا هي قدرة الشخص على التحكم في مجرى حياته في ظل المشاكل والصعوبات والعراقيل التي لا تخلو منها أي حياة اجتماعية.. وأيضا في ظل القوانين التي سنّها الله من قانون الجاذبية إلى قانون "كل نفس ذائقة الموت" (الأنبياء، الآية 35)، وبالطبع في ظل القوانين العادلة التي يسنها البشر من احترام إشارات المرور إلى عدم المس بحياة وكرامة وممتلكات الغير. في هذا الإطار الذي يضع الحدود الضرورية لكي لا تتحول الحرية إلى فوضى، تصبح هذه الأخيرة قدرة الشخص على أخذ القرارات التي تتماشى مع مبادئه ومصالحه دون إكراه أو تضييق. هي آليا نقيض التبعية، إذ أين توجد هذه الأخيرة تختفي الحرية، والعكس بالعكس. بالطبع نحن لا نخلط بين تبعية الرضيع لأمّه أو التلميذ للمربي، وبين التبعية التي لا تضيف لمصالحنا وإنما تنقص منها. من مكونات هذه التبعية السلبية من جهة وجود وضعية موضوعية تفرض حدودا لأفعالنا وتضيّق دائرة الخيارات، ومن جهة أخرى وجود إرادة خارجية -مشخصة أو غير مشخصة- تمنع وتمنح في ظلّ شروط تفرضها علينا بنوع أو بآخر من العنف. إذا سمينا "اللاتبعية" استقلالية، فسنجد أنه لا حرية لنا بدون هذه "الاستقلاليات" الخمس: - الاستقلالية الفيزيولوجية وتتمثل في عدم احتياج المرء لأي معونة طبية لقيام جسده بوظائفه الطبيعية من المشي إلى الإنجاب. شتّان بين من لا يحتاج لأي دواء، ومن حياته رهن بحقن الأنسولين اليومية أو غسيل الكلى الدوري، وكم صدق من قال "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه سوى المرضى". -الاستقلالية الاقتصادية وتتمثل في القدرة على إطعام عائلته بعمل شريف محمي قانونيا لا يخضع لأهواء هذا المشغل أو ذاك. - الاستقلالية السياسية وتتمثل إن كنت تعيش تحت نظام استبدادي، في الجهر برأيك غير مستسلم لأي نوع من التخويف، وإن كنت تعيش في نظام ديمقراطي، في ممارسة كامل حقوقك ومنها المواظبة على استعمال حقك الانتخابي. - الاستقلالية الفكرية وتتمثل في القدرة على استقاء الأفكار من مختلف المصادر وتكوين الرأي الخاص في كل الأمور الدينية والدنيوية بغض النظر عن المواقف السائدة وحتى ضدها، خاصة أن يكون المرء قادرا على تفحص أفكاره والحذر منها بنفس الشدة التي يتفحّص فيها ويحذر من أفكار الآخرين. - الاستقلالية العاطفية وتتمثل في القدرة على حب الآخرين وعلى تحمّل عدم محبتهم، وفي كل الحالات على عدم البحث الدؤوب عن اعترافهم والحكم على الذات انطلاقا من أحكامهم. أحسن مثال على هذه الحرية قدرة المسؤول -أيا كان مستوى مسؤوليته- على اتخاذ القرار الذي تمليه المصلحة العامة والضمير، وهو يعلم أن ذلك سيضرب شعبيته إن كان له شعبية، أو سيزيد في عدد خصومه وفي خطرهم. إنها أصعب وأرقى أصناف الاستقلالية الشخصية، ووجودها لا يكون إلا بوجود مقومات بالغة العمق والتعقيد مثل النضج والتوازن والاعتدال والتحكّم في النفس. وراء هذه القدرة دلالة أهمّ هي تخلّصك من كل أصناف الخوف: الخوف من كل أصناف النقد والفقد ولو كان فقد الحياة نفسها. انتبه لكون هذه الاستقلاليات مترابطة ترابط الأصابع الخمس في اليد الواحدة. اقطع إصبعا أو غيّب استقلالية، فإذا بالمنظومة كاملة في ورطة. عن أي حرية نتحدث إذا كنا جياعا لكن لنا الحق في التظاهر وفي وضع مظروف في صندوق؟ أي حرية نعيش والمرض يقعدنا حتى وو كنا نملك أموال قارون وسلطة قيصر؟ انتبه أيضا أن الجذع المشترك الذي يحمل هذه الاستقلاليات الخمس هو سعي الذات الدؤوب لتحقيق مصالحها ومبادئها باستغلال كل ما يوفره محيطها من موارد مادية ورمزية ومعنوية، وأنه بقدر ما تضيق أمامها الخيارات بموانع من داخلها أو من خارجها، بقدر ما هي ضعيفة الحرية، والعكس بالعكس. **** بديهي أنه لا وجود لأي صنف من الاستقلالية في حالة كاملة وثابتة.. نحن نمرض فنفقد مرحليا أو نهائيا جزءا كبيرا أو صغيرا من استقلالنا الفيزيولوجي.. نحن نفقد عملنا لنسقط في البطالة أو لنعوّضه بعمل أحسن. ثمة مراحل من الحياة يتوفر فيها الاستقلال الفيزيولوجي والاقتصادي ويغيب فيها تماما الاستقلال العاطفي. الجمع بين الأصناف الخمسة يكاد يكون من باب المعجزة، ومعنى هذا أن حريتنا بطبيعتها دوما متغيرة ومنقوصة. هل بالإمكان تقييم مدى درجة الحرية التي نحن عليها في لحظة ما من صيرورتنا؟ ممكن رغم صعوبة الأمر. ولأننا في عصر مهووس بالترقيم وإعطاء العلامات لا للأطفال فقط وإنما حتى للدول، فلنعتبر أن الاستقلالية في أي من الميادين المذكورة تصنّف حسب خمس درجات كالآتي: - استقلالية منعدمة (نعطيها علامة صفر): مثلا مريض مشلول بجلطة دماغية في قسم الإنعاش، عاطل عن العمل دون موارد، رعية خائفة وعاجزة في نظام استبدادي، مواطن بالاسم في ديمقراطية لا يمارس أيا من الحقوق التي تسمح بها، أمّيّ يعيش على الإشاعات، غير محبوب ولا يطيق عدم محبة الناس له. - استقلالية ضعيفة (علامة 1): مريض بحاجة دائمة لعلاج يجده بصعوبة، عامل يومي، رعية يمارس المقاومة السلبية في نظام استبدادي، مواطن يتكلم في السياسة ولا يهتمّ بها، نصف متعلّم ''ثقافته'' الوحيدة التلفزيون، شخص في مشاكل دائمة مع الناس يتخبط في البحث عن الاعتراف ولا يجده. - استقلالية متوسطة (علامة 2): بحاجة دائمة لعلاج لكنه متوفر، عامل في القطاع الخاص تحت رحمة المشغّل، متعلم يستقي أفكاره من الجرائد، يحتجّ أحيانا على وضعه كرعية أو يذهب للانتخاب بين الحين والآخر، له من الأصدقاء ما له من الأعداء. - استقلالية كبيرة (علامة 3): بصحة جيدة وليس بحاجة لأي طبيب، عامل لحسابه الخاص أو في وظيفة قارة تدرّ عليه دخلا محترما، يستقي أفكاره من الكتب، يشارك في الاحتجاجات ضد الدكتاتورية ويمارس دائما جل حقوقه الديمقراطية، له عدد من المحبين يفوق عدد أعدائه. - استقلالية مطلقة (علامة 4): صحة الرياضي الرفيع المستوى، عمل مربح جدا ونافع جدا ومحبوب جدا، قادر على النقد البناء وإثراء الثقافة، مناضل ضد الدكتاتورية ومشارك فعّال في بناء النظام الديمقراطي، يعطي للآخرين ولا ينتظر منهم شيئا. **** يتضح من هذا المنظور أن الحرية -التي نعطيها جميعا كل القيمة التي تستحق- "سلعة" نادرة باهظة الثمن حتى داخل المجتمعات الثرية والديمقراطية، فما بالك بالمجتمعات الفقيرة والاستبدادية. والآن تفحّص وضعك وضع لنفسك علامة أمام كل عنصر من العناصر الخمسة التي تبني الحرية الحقيقية. قد تجد نفسك في أعلى درجات السلم وأنت تجمع 20 نقطة.. هنيئا لك بكل النعمة التي تتمتع بها. نعم أقول نعمة، هل ثمة نعمة أكبر من ترويض المرض والفقر والجهل واستبداد الآخرين بنا أكان استبداد السياسي أو استبداد الحبيب؟ هنيئا لك سعادتك أيضا، أليس بديهيا أن الحرية والسعادة وجهان لنفس قطعة النقد؟ قد تجد نفسك في أدنى درجات السلم وأنت لا تجمع إلا 5 نقط.. تشجّع فالحياة عقيدة وجهاد، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. أغلب الظن أنك ستحصل على عدد بين هذين العددين، وأنك ستلاحظ أن ترقيم اليوم ليس ترقيم البارحة، وقد لا يكون ترقيم الغد. اجعل مشروعك رفع درجة استقلاليتك حيث ثمة نقص، لأن الحرية مشروع متواصل وليس حالة نملكها أو لا نملكها. لا تنس أيضا أن ظروف الحرية وشروطها الصحية والسياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية والنفسية يصنعها أشخاص أحرار، ومن ثم فإعانة الآخرين على تحقيق المزيد من حريتهم ضرورة لحريتك. لا تنس أبدا القانون الذي سنّه منديلا: أن تكون حرّا ليس أن تتمتع أنت بالحرية، وإنما أن تسعى ليتمتع بها كل الناس. * المصدر: الجزيرة