الأمة المغربية، كباقي الأمم لها محطات تاريخية عديدة تحتفي بها فتشكل مناسبة لاستخلاص الدروس والعبر واستشراف المستقبل . ومن أبرز هاته المحطات ذكرى عيد العرش التي يخلدها المغاربة هذه السنة وسط آلام وأمال ووسط تحديات وإشراقات. ولعل السؤال الذي يطرح: لماذا نحتفل بهذه الذكرى وغيرها من الذكريات الوطنية ؟ للإجابة عن هذا السؤال أشير إلى المعطيات التالية : 1- إن التاريخ لا غنى عنه في أية نهضة حضارية منشودة باعتباره يسهم في بناء الذاكرة وتفعيلها وتقويتها، إذ لا يمكن لأي أمة أن تنهض بذاكرة مشوهة ومترنحة، فالوعي التاريخي وقراءة التاريخ أساس صناعة الإنسان وصناعة مستقبله . 2- إن التاريخ كله معاصر إذ يصعب الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، فاستشرافه يقتضي فهم الماضي لاستيعاب الحاضر واستشراف المستقبل. 3- إن الشعوب المتحضرة تخلد ذكريات كل من أسدى إليها معروفا أو جلب إليها خيرا أو دفع عنها شرا أو مكروها سواء كان حيا أوميتا فتعرف به الأجيال لشحد الهمم وتقوية الوجدان والتحفيز على العمل الإيجابي وعلى البناء المستمر وتقوية العلاقات والنسيج الاجتماعي. 4- إننا نلاحظ اندثار أو تراجع الذاكرة التاريخية خصوصا لدى الشباب والأطفال فهم يعرفون الكثير عن الممثلين والرياضيين وعن حضارات وعادات وتقاليد شعوب ودول أخرى، في حين نجد الشح أو العدم عندما يتعلق الأمر بالوطن ورموز الوطن وتاريخ الوطن ويفسر ذلك بمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية منها :الانفتاح الإعلامي الذي تعيشه البشرية وما أحدثه من تحولات اجتماعية وثقافية وقيمة، إضافة إلى الحرب على الوعي التاريخي لإذابة الخصوصيات وتنميط السلوك والأخلاق والممارسات . إن الاعتبارات السالفة وغيرها تفرض بالضرورة إعادة الاعتبار للذاكرة الوطنية الأصلية المنفتحة وذلك باعتماد عدة آليات منها إحياء المناسبات الوطنية بما يليق بها من قدر وجلال لتعريف الأجيال بها من أجل التأمل والاعتبار وضمان الاستمرارية والتماسك والحفاظ على الوحدة . يعد عيد العرش مناسبة لإحياء ذكرى وطنية لها دور أساس في ترسيخ الوعي الوطني والإجماع الوطني حول وحدة الوطن والدين والمصير. كما أن هذه المحطة التاريخية العظيمة مليئة بالعبر والدلالات ومن أهمها دور العرش في إذكاء روح الوحدة الوطنية وجمع كلمة الأمة والوقوف على ما يمكن أن يسبب الفرقة والشتات لأبناء هذا الوطن . وإذا أردنا أن نستحضر في هذه المحطة الفكر الوحدوي والعمل الدال على الرغبة في جمع شمل الأمة المغربية فبالتأكيد لن يسعنا المقام ولا المقال ولكن يكفي أن نشير إلى بعض العناصر وهي كالأتي: 1- البيعة : فالعرش المغربي مستمد أصالته وعمقه من كونه قائما على البيعة الشرعية وهي أقدس عقد وعهد بين الملك والشعب. والعرش كما يحس به المغاربة ليس نظاما للحكم فحسب بل مع ذلك إلى جانبه رسالة حضارية ممتدة عبر العصور والأجيال وخطاب متوازن من السلف إلى الخلف، هذه البيعة ترتكز على عمق تاريخي ومرجعية دينية ذات أثر سياسي فظل الدين منذ الفتح الإسلامي للمغرب أساس مبدئي ووطني . فمنذ عهد إدريس الأول وزواجه بكنزة الأمازيغية – هذا الزواج الذي كان بقدر إلهي- صنع التآلف والوحدة وتشكلت من خلاله المواطنة المبنية على الرحم، فكان الاندماج العرقي بين إدريس الشريف العربي وكنزة الأمازيغية، فاختلط الدم المغربي فحصل التآلف والإدماج المبني على الرحم في صناعة نسيج اجتماعي موحد قوامه الدين، مصدقا لقول الله تعالى "يأيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلنا كم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، فكان للرحم وظيفة أساس، بالمعنى التعبدي والروحي، في خلق لحمة جامعة موحدة، بل إن العمران البشري في مغربنا بمعناه الواسع تكون على هذا التعارف والزواج، وهذا من لطائف تاريخ المغرب. ثم إن بيعة المغاربة لإدريس الأول وتنازل عبد الحميد الأوربي عن الجاه والسلطة والنفوذ لم يكن في حد ذاته حبا في إدريس الأول ولكنه دلالة على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال حب النسب الشريف.وهنا نؤكد على أن حب المغاربة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تجسد من خلال هذه البيعة، هذا الحب الذي ظل متميزا على مر العصور والأجيال، وقد اتضح ذلك من خلال ما أنتجه المغاربة في الأدب الصوفي وفي المديح وفي المواجيد ومن خلال قصائد الحجازيات والنجديات …كما أن المغاربة أصروا على الحج والذهاب إليه ولو في فترات غاب فيها الأمن، فعرضوا أنفسهم لخطر الموت وقطاع الطرق من أجل زيارة رسول الله عليه الصلاة والسلام . ومن خلال ما سبق يتضح بجلاء إن للبيعة بالمغرب تعبديا. ومن خلالها تحقق الاستقرار للمغرب، ولعل البلدان التي حكمها الاستقرار حافظت على قيمها النبيلة وتقاليدها الراسخة في وقت ضيعته بلدان أخرى وهذا ما أبرز عمق أصالة الإنسان المغربي وتميزه حضارة وثقافة وتدينا. وقد ظل للعلماء حضور أساسي في هاته البيعة… وظلت مؤسسة إمارة المؤمنين محافظة على استقرار المغرب ووحدته بمشاركة كل المغاربة بمختلف شرائحهم لترسيخ هذه الوحدة ودرء الأخطار التي تهددها. وقد تأتي على المغرب فترات عصيبة فيكون لمؤسسة إمارة المؤمنين دور حاسم في نزع الخلاف كما حدث خلال مناقشة قضية الأسرة، فجمع أمير المؤمنين، نخب الأمة وعلماءها للنظر في هذا المشروع المجتمعي وبعد عمل اللجنة وجهدها تدخل أمير المؤمنين أمام ممثلي الأمة فأعلنها بشكل صريح وواضح بأنه لا يحل حلالا ولا يحرم حراما فوقف الجدال الذي عرفته الساحة الوطنية طيلة أشهر متعددة. 2-المذهب المالكي : إذا كان المغاربة قد اختاروا نظام إمارة المؤمنين المتمثل في الملكية فإنهم اختاروا في الجانب الفقهي مذهب الإمام مالك لتحصين أنفسهم والحفاظ على وحدتهم، ولقد ظل لمذهب إمام دار الهجرة، أنس بن مالك، رحمه الله تعالى، اثر في صناعة الإنسان المغربي وتاريخ المغرب ووحدة المغرب بالنظر إلى الخصائص العامة التي ميزت هذا المذهب إلى يومنا منها : إن المذهب المالكي قوي في المغرب مقارنة مع المشرق ، حيث تعايش مع مذاهب أخرى ، فتباين حجم تواجده من بلد لأخر ، لكن المذهب انفرد بالمغرب ، وبالغرب الإسلامي عموما، مع العلم أن مذاهب أخرى تواجدت معه في نفس الرقعة الجغرافية، لكنها تلاشت أو تميزت بحضور ضعيف . إن المذهب المالكي يلائم بنية الإنسان المغربي ، فصار المذهب الرئيسي، ولم يعد مذهب الخاصة والسلطان فحسب ،بل أصبح أيضا مذهب الثقافة الشعبية العامة وكتبت فيه تصنيفات بالعربية والأمازيغية …فترسخ وجوده بالمقارنة مع مذاهب أخرى. - كما يعد المذهب الملكي أوسع المذاهب أدلة واستدلالا واستيعابا لمشكلات متعددة، متجددة، ولم يظل مذهبا جامدا بل شهد اجتهادات داخل المذهب لرموز علمية مغربية في الكثير من القضايا مما أضفى عليه الطابع المغربي . إضافة إلى ما سبق يتميز المذهب المالكي بمجموعة من القواعد الفقهية التي ينفرد بها أو يتفوق في استعمالها مقارنة بمذاهب أخرى، مثل مراعاة الخلاف وقاعدة الجمع أولى من الترجيح وقاعدة العمل ومراعاة العرف والمصالح المرسلة وقاعدة التيسير …هذه الخصائص جعلت المذهب المالكي يسهم في نشر ثقافة التالف والجمع والائتلاف والانسجام مع احترام التعدد، فرسم لوحة فنية رائعة وجميلة دعمت ورسخت الوحدة وعصمت المغرب من الصراعات المذهبية ورسخت وحدته وميزت شخصيته الوطنية والدينية . وقد كان لإمارة المؤمنين وظيفة رئيسية في ترسيخ هذه الوحدة والحفاظ عليها وتدعيمها وتقويتها باستمرار،ويتضح ذلك جليا من خلال خطاب جلالة الملك محمد السادس الذي ألقاه أمام علماء الأمة يوم 30 ماي 2004 بقوله "وإذا كان من طبيعية تدبير الشؤون الدنيوية العامة الاختلاف الذي يعد من مظاهر الديمقراطية والتعددية في الآراء لتحقيق الشأن العام، فإن الشأن الديني على خلاف ذلك، يستوجب التشبث بالمرجعية التاريخ والوحدة للمذهب المالكي السني الذي أجمعت عليه الأمة والذي نحن مؤتمنون على صيانته، معتبرين التزامنا دينيا بوحدته المذهبية كالتزامينا دستوريا بالوحدة الترابية والوطنية للأمة حريصينا على الاجتهاد الصائب لمواكبة مستجدات العصر. وقد تعزز هذا التوجه من خلال رئاسة أمير المؤمنين للمجلس العلمي الأعلى وتأهيل الحقل الديني بإعلان ميثاق العلماء وتوسيع خريطة المجالس العلمية ومجال الوعظ والإرشاد وإشراك المرأة فيها، وإطلاق قناة محمد السادس للقرآن الكريم وتأسيس الرابطة المحمدية للعلماء …وجاءت التعديلات الدستورية الأخيرة لترقى بالمجلس العلمي الأعلى إلى مؤسسة دستورية تعتمد فتواه في قضايا الشأن العام حفاظا على وحدة المغاربة . وإذا كانت الثوابت والخصائص التي ذكرناها هي التي تفسر التماسك والتعايش بين مكونات المجتمع المغربي وتعد أكبر ضمانة لتقوية الجبهة الداخلية واستمرارا لوحدة، فإنه استشرافا للمستقبل لابد أن نستحضر في هذه المناسبة بعض المؤشرات والمظاهر التي تنذر بتراجع هذا التماسك الداخلي وضعف روح المواطنة. حيث تتدخل فيها عوامل خارجية وأخرى داخلية ويمكن الإشارة إلى بعضها بشكل مقتضب كما يلي : 1- ضعف فعالية التربية والتعليم وتراجع دوره في غرس قيم الوحدة والمواطنة وتعزيزها لدى الأجيال . 2- تراجع دور الأسرة في التربية، وتوجيه الناشئة بسبب ظهور مؤسسات قوية ومؤثرة بخطابها وتوجيهها منافسة للأسرة، وربما شكلت بابا لترسخ قيم مناهضة لعقيدتنا وحضارتنا . 3- ضعف مؤسسات تأطير المجتمع وخاصة فئات الشباب حيث تكشف الإحصائيات هزالة النسب المؤطرة داخل مؤسسات مجتمعية . 4- ظهور بعض النزعات المتطرفة التي يتميز خطابها بتناقضه مع الوحدة الوطنية والتنكر لثوابت الأمة المغربية . 5- العولمة وتداعياتها على المجتمع والانفتاح على الأفكار والتصورات والتبارات بدون ضوابط وفي ظل غياب أو ضعف الخطاب الوحدوي . وإذا استحضرنا هذه التحديات فينبغي أن نستحضر كذلك أننا نحن المغاربة قاطبة علينا أن نحمد الله تعالى على وحدتنا التي يعتبر الإسلام والنظام الملكي اللحمتين الرئيسيتين لهاته الوحدة والسد المنيع لكل المحاولات التي تستهدف تماسك المجتمع وبالتالي فمسؤولية الحفاظ على هاته الوحدة والاستقرار مسؤولية جماعية تستدعي انخراط الجميع للحفاظ على هاته اللحمة وعلى الأمن والاستقرار وفي هذا الصدد لابد من إجراءات عملية لترسيخ هاته الوحدة وهذا التماسك منها : 1- إصلاح منظومة التربية والتعليم والبحث العلمي وإصلاح المؤسسات حتى تنخرط في تكوين الإنسان المغربي المعتز بانتمائه ومقدساته والمدافع عنها والمستفيد من مستجدات العصر. 2- التحصين الروحي والفكري لأبناء هذا الوطن من التشيع والتطرف والتنصير والتطبيع، ومن المثلين والراغبين للإفطار في جهارا في رمضان باسم الحرية….وهنا لابد من تفعيل المجالس العلمية وامدادها بالوسائل المادية والبشرية للقيام بوظيفتها على الوجه الأكمل وجعلها فضاءات لكل العلماء والفاعلين للاستفادة من كل الطاقات الوطنية القادرة على العطاء والإنتاج الفكري والعلمي. 3- إنتاج خطاب ديني إعلامي قوي مؤثر ومنافس يستفيد من كل الوسائل وضمان حد أدنى من حضور هذا الخطاب في كل وسائل الإعلام الوطنية ….وفي هذا الصدد ينبغي التنويه بالجهد الذي تقوم به قناة محمد السادس وفي نفس الوقت لابد من التأكيد على ضرورة تطوير برامجها حتى تستجيب لحاجيات المغاربة بجميع فئاتهم العمرية وشرائحهم الاجتماعية. 4- تشجيع كل المبادرات التي تسعى إلى تعميق التماسك الداخلي للمجتمع ومساعدة كل الأطراف والهيئات والمنظمات بالوسائل المساعدة لتقوم بدورها في التأطير والتوجيه وإشاعة فكر الوحدة والتلاحم من أجل مواجهة التحديات . 5- إرجاع الثقة للمجتمع في مؤسساته من خلال محاربة كل أنواع الفساد وتعيين الأكفاء الأمناء في المناصب والمسؤوليات وتعزيز دور المراقبة والمحاسبة في كل مجالات الحياة . خلاصة: إننا ونحن نخلد ذكرى عيد لعرش نؤكد أن الملكية في المغرب كنظام للحكم يعد رسالة حضارية لها امتداد عبر العصور والأجيال لابد من الوعي بها من طرف الأجيال اللاحقة التي تعد مسؤولة عنه ومسؤولة عن إثرائه وإغنائه والإضافة إليه، ففي شخص الملك تتجدد الوحدة والإجماع والالتحام. وفي شخص الملك يلتقي الحاضر بالماضي والمستقبل هذا الالتقاء الذي صنعه الإسلام على مر العصور، وصنعه العلماء، وصنعته الملكية بالتزامها الدائم بالوحدة ودرء كل الأخطار الخارجية. فلا مستقبل لهذا الوطن إلا بالإسلام الموحد الجامع وبالملكية الموحدة الجامعة فقوة الملكية في قوة الإسلام وصدق الله العظيم القائل في محكم التنزيل قي سورة آل عمران "واعتصموا بحبل بالله جميعا ولاتفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم، إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا".