تطفو على واجهة المكتبات بالعاصمة الرباط كتب تتلبس أغلفتها الصقيلة ألوان فاقعة تشبه إلى حد كبير ملصقات الأفلام الهندية ، وبعناوين مثيرة وغريبة : استطيع أن أجعلك غنيا - غير حياتك في 30 يوما – إعمل أقل وانجح أكثر- القراءة السريعة مرفق غالبا بقرص مدمج CD بالفيديو يبسط الإرشادات الضرورية ، وقد لا تخلو جريدة ورقية أو إلكترونية من إعلان عن دورة تكوينية حول تحسين أداء الفرد وصقل مهاراته الذاتية من تأطير المدرب العالمي الحاصل على شواهد من "مراكز دولية" بأسماء رنانة، إنه عصر "التنمية البشرية وتطوير الذات" ، الطريق السيار نحو النجاح والتفوق ، فمن خلال قراءة فصول كتاب أو حضور ورشات تكوينية تستغرق سويعات أو حتى أيام يكون لها مفعول السحر في بعث القوى الخفية والخارقة التي نستبطنها وتخرجها من غياهب الذات إلى مستوى السلوك والحياة . صحيح أن تجربة المؤسسات والمقاولات الاقتصادية قد حققت إنجازات واضحة تنظيميا وإنتاجيا ، لتمكين مواردها البشرية من شحذ مهنيتهم ، عبر تكوينهم المستمر في كيفية تخطيط للمشاريع والعمل داخل مجموعات وإدارة الموارد وتدبير الزمن وتحديد الأولويات... لكن نقل نفس الطرائق إلى الحياة اليومية للأفراد دون مراعاة الفوارق الذاتية ، واختلاف في الطباع وتبدل الملابسات الاجتماعية والنفسية ، يحملنا على طرح أكثر من علامة استفهام عن منطلقات ومناهج وغايات هذا الظاهرة التي تكتسح فضاءاتنا . من الناحية الموضوعية لا يمكن تصنيف ما يسمى "التنمية الذاتية" ضمن أي حقل من حقول العلوم الإنسانية ، رغم تدثرها بقاموس مفاهيمي منحول من علم النفس الاجتماعي وعلم النفس النمو وعلوم الإدارة والاجتماع وإحصاءات وأرقام غير مثبتة، كم أنه ليس بعلم قائم الذات لعدم توفره على مرجعيات ومعايير نظرية رصينة أو وسائل اشتغال قياسية وموحدة أو حتى تقويم علمي لنتائج قد حققها بالفعل ، إلى جانب أن الاشتغال في هذا الميدان لا يخضع حتى الآن لقواعد قانونية أو متابعة من مؤسسات رقابية تسهر على أخلاقيات المهنة من كل تجاوز أو تدليس، إذن فما هي الأسباب والعوامل التي عززت من انتشار هذه الممارسة الغريبة واللاعلمية أو الشبه علمية؟ أول عوامل نجاح "تيار التنمية البشرية وتطوير الذات "وتزايد انتشاره هو الاعتماد على شخصية المدرب coaching ، حيث تتطلب الحضور الكاريزمي و بذلة أنيقة مع جهاز محمول ومن الأفضل أن يكون أخر صيحات اللوح الإلكتروني ، وضرورة تمكن "المدرب" من ناصية الخطابة واللغة التفاؤلية الأقرب للغة أبراج الحظ ، إلى جانب قدرته على استقراء طبيعة الجمهور المتلقي وحسن التخلص ، وهي مطالب يتقاطع فيها مع مهنة التشخيص المسرحي خصوص في شكله الفردي " One Man Show" دون الحاجة إلي تكوين أكاديمي حقيقي ، إذ يكفي وتلميع السيرة الذاتية للمؤطر/المدرب باستعراض الشواهد المعتمدة التي حازها من أكبر المؤسسات العالمية بالولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة ، رغم عدم إتقانه للغة الإنجليزية وعدم مغادرة قدميه للحيز الجغرافي لبلده الأم ، إلا أنه استطاع تحقيق هذه الاستحقاقات التي مكنته من أن يشتغل مستشارا دوليا لدى مؤسسات جامعية إقليمية ودولية وممارس لعلوم ما أنزل الله بها من سلطان : علم ديناميكية التكيف العصبي والعلاج بمسارات الطاقة الحيوية ، فتحول هذا الباب مشروعا لكل شخص يبحث عن الوجاهة الاجتماعية أو الاسترزاق المادي أو الاحتيال و حتى من تكون لهم نوايا إصلاحية ، فيصبحون جميعا بشكل تلقائي أخصائيين نفسين واجتماعين باستطاعتهم تنظيم جلسات علاجية جماعية خارج الدوائر الطبية . أما العامل الثاني الذي ساعد في اتساع نطاق الندوات والمحاضرات المتخصصة في "التنمية الذاتية" فيعود لسياسة ترويجية ودعائية ناجعة و التغلغل في شبكة المجتمع المدني واستغلال العلاقات العامة والوسائط الإعلامية المختلفة واختراق للمؤسسات التربوية والجامعية وإنشاء مراكز تدريبية قارة ذات أهداف تجارية محضة تستخدم أحدث الأساليب التسويقية بمنهجية " ما يريده المحبطون" وادعاء القدرة على إيجاد حلول سحرية للمشاكل الشخصية للفرد وتلبية حاجياته و تحقيق انتظاراته بوسائل سهلة وسريعة لا تستغرق أكثر حصة أو حصتين تدريبيتين مع المدرب الملهم ، الذي يمتلك المفاتيح والأسرار التي تقلب التجارب الفاشلة إلى نجاحات المبهرة . في ما يخص العامل الثالث والأهم في نمو مراكز تطوير القدرات الذاتية بشكل عشوائي هو استهدافها لشريحة بعينها ، تعاني من مشاكل اجتماعية بنيوية كالبطالة والفقر والتفكك الأسري والإحباط والخوف من مآلات المستقبل ، وتضافر المتاعب السيكولوجية والطموحات الشخصية ، مما جعلهم جاهزين أمام غواية الخطاب المضلل الذي يعدهم بإكسير النجاح ، لمساعدتهم على تجاوز كل الإخفاقات بل تحويل المتدرب/الزبون إلى شخصية قيادية تغير عالمها جذريا بتفجير المارد الكامن داخلها وإخراج الطاقات التي تخفيها إلى السطح فيما يشبه الصورة الساخرة لتأثير أعشاب السبانخ على شخصية بوباي Popeye الكاريكاتورية التي تمنحه القوة الخارقة، إنها إذن الوعود الزائفة التي تسقط ضحاياها في شرك دورات مكلفة ماديا وإيهامهم أن زر تغيير الواقع ينطلق بأيقاظ العملاق النائم في ثنايا الباطن وتحميله مهمة إنقاذ العالم بمعزل عن الأحوال والشروط الاجتماعية والاقتصادية التي لا ترتفع أو تنقلب لمجرد الحماس والرغبة الذاتيتين . يمكنننا الجزم أن "التنمية الذاتية" هي نكوص علمي حقيقي لكونها أسست مبادئها على الانطباعات الحسية الشائعة داخل المجتمع بدون تمحيص نقدي ، مع المبالغة في ادعائها صناعة القادة وتحقيق النجاحات المؤكدة ، رغم أن جل المشتغلين في هذا الميدان كاستشاريين أو مدربين ليس لهم انجاز بارز يشهد على نجاعة أساليبهم ، غير قدرتهم على تضليل الجمهور عبر محاورة الإستهامات البدائية للزبون/المتدرب ، مما جعلهم أقرب إلى محترفي الدجل والقمار ، حيث التلاعب بضحايا لمكاسب مادية دون اعتبارات أخلاقية أو تعليمية أو عقلية.