ما هو قوام ذلك الاختراع المدمر لنظام السيسي في مصر، والذي أطلقوا عليه "الشرطة المجتمعية" واستصدروا تشريعاً بإقراره؟ تجارب التاريخ تقول إن تشكيل الآلة القمعية الجديدة لن يكون بعيداً عن الصفوف الخلفية من قيادات حزب حسني مبارك الحاكم، والذي عادت وجوهه تهيمن على السياسة والاقتصاد والإعلام، مرة أخرى. وبما أن مصر تعيش، الآن، في قلب المشهد الأخير من تجربة الثورة الرومانية المضادة، فقد أعطت الصفة القانونية والرسمية لجحافل "المواطنين الشرفاء" الذين شكلوا عصب الكتلة الجماهيرية المستخدمة في تنفيذ عملية الانقلاب، المحمول على ظهر ثورة مضادة والعكس، هذه الآلاف المؤلفة من "ميليشيات الشرفاء" هي وقود ما يسمى "الشرطة المجتمعية"، فهي الأكثر استعداداً للالتحاق بها لعدة اعتبارات، أهمها الذعر من إمكانية حدوث استفاقة مفاجئة من قوى ثورة يناير، تمهد لموجة هادرة، تستعيد حقوقها في العدل والكرامة الإنسانية والحرية. ومن ناحية أخرى، تريد هذه الجحافل التي كانت وقود الانقلاب، وحطبه، ثمن استعمالها في القرصنة على نظام الحكم المنتخب، وهذا الثمن، بالطبع، سيكون وظائف في جهاز دولتهم، يؤمن لهم مورداً مالياً، ووضعاً اجتماعياً، يتيح لهم ممارسة السلطة، بشكل أو بآخر. ويدرك هؤلاء أن الدور الذي لعبوه في خدمة الحلم الانقلابي لا يجب أن يذهب هدراً بلا مقابل، ومن ثم، فإنهم، كما أدوا المطلوب منهم، وفقا للسيناريو الروماني في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، جديرون بمكافآت على طريقة الثورة الرومانية المجهضة أيضا. وبالنظر إلى ما يدور في مصر هذه الأيام، قضائياً وإعلامياً، ستشعر أنك في رومانيا 1989، حينما عزلوا الثوار الحقيقيين عن ثورتهم، وصوروهم على أنهم مخربون وعملاء ومعطلون للاستقرار، وخيّروهم بين عجلة الإنتاج وسيارة الترحيلات، وأطلقوا عليهم جيش "المواطنين الشرفاء". وهنا تتشابه، إلى حد التطابق، صورة عبد الفتاح السيسي، وريث مبارك، وهو يهتف "تحيا مصر"، وقبل ذلك ينادي على "مواطنيه الشرفاء" لمنحه "التفويض والأمر بحرق أعداء الوطن" مع صورة إيون أليسكو وريث شاوشيسكو لحظة توجيهه نداء عبر التليفزيون على "المواطنين الشرفاء"، لكي يتصدوا معه للخونة والعملاء. وكما استدعى أليسكو الآلاف من العمال من المناجم، ثم سلّحهم، لمواجهة الثوار المخربين الأعداء الذين يريدون هدم الوطن، ها هو السيسي يستدعي آلافا من "شرفائه"، للانخراط في الشرطة المجتمعية، للتصدي للحراك الطلابي والتظاهر السلمي لمعارضي الانقلاب. وينبئنا التاريخ بأن "أليسكو"، تلميذ الديكتاتور المخلوع ووريثه قد قام بنشر رجال الصف الثاني في الحزب الحاكم في جميع مفاصل أجهزة الدولة ..وشيء من هذا يحدث في مصر الآن، حيث يحتشد فلول الحزب الوطني، العائدون للهيمنة على الانتخابات النيابية القادمة، ويضعون رجالهم في أخطر مرافقها المستحدثة، وهو جهاز الشرطة المجتمعية. وبما أن ربع قرن تفصل التجربة الرومانية عن نظيرتها المصرية، فإن معطيات عديدة تفرض نفسها، وتنذر بسيناريو أكثر كارثية مما جرى هناك، في تلك الدولة الأوروبية المنهكة، إذ يبدو أن النظام في مصر يدفع الجميع دفعاً لمصير الاقتتال الأهلي، والاحتراب المجتمعي، في ظل هذا الإصرار العجيب على إجبار الناس على الكفر بالسلمية. رئيس تحرير"العربي الجديد"