نتناول في هذا الجزء الدلالة اللغوية والاصطلاحية لمفهومي الغاية والعدد: 1- مفهوم الغاية: أ- الدلالة اللغوية والاصطلاحية للغاية: الغاية في اللغة: المدى والراية والنسبة إليها غائي، جمع غاي، وغايات، كساعة وساع وساعات، وأصل الغاية غيت، قلبت أولى الياءين ألفا لتحركها بعد فتحة"[1]. وتطلق في الاصطلاح على معان منها: المسافة والفائدة، ومنها الانتهاء المقابل للابتداء، وهذا المعنى هو المراد بالبحث.[2] ذلك أن المراد بمفهوم الغاية: "دلالة اللفظ الذي قيد الحكم فيه بغاية، على نقيض ذلك الحكم بعد الغاية".[3] فإذا كان النص الشرعي مقيدا بغاية، كان الحكم في المسكوت عنه ما بعد الغاية بخلاف المنطوق ما قبلها. ب- أدوات الغاية: أدوات الغاية عموما: "إلى، وحتى، ومِن" وهذه الأدوات، قد تأتي للغاية ولغيرها، لكنها إذا جاءت للغاية فلا خلاف بين أهل الأصول أن ما بعدها بخلاف ما قبلها[4]، وهذا كقوله تعالى: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الاَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ" [سورة البقرة، جزء من الآية: 187]. ومن نحو: ضممت المسك في داري من السوق، ورأيت الهلال في داري من خلال السحب، أي انتهت الرؤية والشم إلى ذلك الموضع[5]، فكلها تفيد أن ما بعدها بخلاف ما قبلها. ج- تحرير الخلاف حول دخول الغاية في الكلام ونتحدث هنا عن الخلاف الطويل الذي صاحب هذا المفهوم، ويظهر في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِذَا قُمْتُمُ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمُ إِلَى الْمَرَافِقِ" [سورة المائدة، جزء من الآية: 6]؛ فإن الآية أوجبت غسل اليدين إلى غايةٍ هي المرافق، ولم يصرح بحكم ما بعد المرافق -وهو المسكوت عنه- أما حكم المرفقين بالذات فهو محل النزاع، فعلى القول بدخول الغاية في الكلام فيجب غسل المرافق، ويسقط الغسل عما بعد المرافق، أي عن العضد، بناء على المفهوم، وعلى القول بأنها لا تدخل؛ فإن الآية تنفي بمفهومها وجوب الغسل على المرافق ومعه العضد أيضا. وقد حكى غير واحد من الفقهاء المالكية الخلاف فيها[6]، وممن أجاد في نسج خيوطها وجمع أشتاتها، وتحقيق أقوالها، القاضي ابن العربي (ت543ه) الذي خصص لها المسألة الخامسة والعشرين في تفسير الآية الكريمة من كتابه: "أحكام القرآن" فقال رحمة الله تعالى عليه: "اختلف العلماء في وجوب إدخالهما في الغسل، وعن مالك روايتان، وذكر أهل التأويل في ذلك ثلاثة أقاويل: الأول: "أن "إلى" بمعنى "مع" كما قال تعالى: "وَلاَ تَاكُلُواْ أَمْوَالَهُمُ إِلَى أَمْوَالِكُمْ" [سورة النساء، جزء من الآية: 2]، معناه مع أموالكم.[7] الثاني: أن "إلى" حد، والحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه، تقول بعتك هذا الفدان من ها هنا إلى ها هنا، فيدخل الحد فيه، ولو قلت من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة، ما دخل الفدان فيه.[8] الثالث: أن المرافق حد الساقط لا حد المفروض، قاله القاضي عبد الوهاب[9]، وما رأيته لغيره"[10]. وقد بين ابن العربي وجه هذا القول: "وتحقيقه أن قوله: "وَأَيْدِيَكُمْ" يقتضي بمطلقه من الظفر إلى المنكب، فلما قال إلى المرافق، أسقط ما بين المنكب والمرفق، وبقيت المرافق مغسولة إلى الظفر، وهذا كلام صحيح يجري على الأصول لغة ومعنى[11]. ولهذا قال أكثر علماء المالكية إن لم نقل جمهورهم: إن المرافق داخلة في التحديد[12]، فيجب غسلها في الوضوء ويسقط ما بعدها بالمفهوم. 2- مفهوم العدد أ- الدلالة اللغوية والاصطلاحية للعدد: العدد في اللغة اسم من عد بمعنى الإحصاء والإفناء، عد الدراهم يعدها عدا حسبها وأحصاها[13]، هذا مضمون المعنى اللغوي، وليس فيه ما يشير إلى ارتباطه بالمعنى الاصطلاحي للمفهوم، ذلك أن معناه "دلالة اللفظ الذي قيد الحكم فيه بعدد نقيض ذلك العدد". أي أن تعليق الحكم بعدد مخصوص يدل على انتفاء الحكم فيما عدا ذلك العدد، زائدا كان أو ناقصا".[14] ب- صور العدد: لمفهوم العدد انطلاقا من التعريف ثلاث صور: 1- أن يكون مفهومه مفهوم مخالفة باعتبار الزيادة على المذكور والنقص عنه، كقوله تعالى: "فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً" [سورة النور، جزء من الآية: 4]، فمفهومه أن الزيادة عليها والنقص لا يجوز؛ 2- أن يكون مفهومه مفهوم مخالفة باعتبار الزيادة، ومفهوم موافقة باعتبار النقص، كقوله صلى الله عليه وسلم لمن: "أَسْلَمَ عَلَى أَكَثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ أَمْسِكْ أَرْبَعاً"[15]، فمفهومه أنه لا يمسك أكثر من أربع، وأما أقل منها فله إمساكه؛ 3- أن يكون مفهومه مفهوم مخالفة باعتبار النقص، ومفهوم موافقة باعتبار الزيادة، نحو: من سرق ثلاثة دراهم قطع، فمفهومه أن من سرق أقل منها لا يقطع، وأما من سرق أكثر منها فيقطع بالأحرى[16]. يتبع ----------------------------- 1. "محيط المحيط"، ص: 272. (غيي). 2. "أصول الفقه في ثوبه الجديد"، ص: 160. 3. "معجم أصول الفقه"، ص: 285. و"أصول الفقه الحضري". ص: 123. 4. انظر: "بداية المجتهد"، ابن رشد، (1/295). 5. "نفائس الأصول"، (3/1165). 6. نذكر من بينهم: الإمام المازري في شرح التلقين (1/143 - 144). وابن العربي في القبس، (1/121). والأحكام، (2/58 - 59). والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن، (6/42). والشنقيطي في أضواء البيان، (2/35). 7. فيكون بهذا القول: "إلى المرافق" بمعنى مع، فتدخل في الكلام. ونص عليه القاضي في التقريب. (1/414). وقد فرق بين إلى وحتى التي لا تدخل الغاية في الكلام إلا بدليل على حين قال الباجي بأن لفظ "إلى" لا يستلزم هذا الدخول، انظر: "المدخل إلى الفقه"، ولد باه، ص: 53. 8. أصل هذا القول للمبرد كما حكاه ابن رشد في "المقدمات"، (2/560). 9. هو أبو محمد عبد الوهاب علي بن نصر البغدادي الفقيه أخذ عن الأبهري، وتفقه على كبار أصحابه كابن القصار وابن الجلاب والباقلاني، من تآليفه: النصر لمذهب مالك، والمعونة في مذهب عالم المدينة، وشرح رسالة ابن أبي زيد، وشرح المدونة، والإفادة في أصول الفقه، (ت422 ه). "شجرة النور الزكية"، ص: 103-104. 10. "أحكام القرآن"، (2/58 - 59). 11. نفسه. 12. انظر: "الجامع لأحكام القرآن"، (6/42). و"أضواء البيان"، (2/35). 13. "محيط المحيط"، ص: 58 (عد). 14. "معجم أصول الفقه"، ص: 286. 15. الترمذي، كتاب النكاح باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، حديث (1128) ابن ماجة كتاب النكاح باب لرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، (ح:1953). 16. "منار السالك إلى مذهب الإمام مالك"، ص: 81-82.