هذا هو المقال الثالث عشر مِن هذه السلسلة التي عنْوَنْتها ب: "من غرائب حفظ المغاربة والأندلسيين لكُتب الحديث"، وأُحِبُّ في هذا الجُزْء قبْل أن أورد نصابَ هذا المقال مِن حُفاظ كتب الحديث مِن أهل هذه الجهة المغربية أن أمهد لذلك بتمهيدٍ على العادة الجارية في جميع مقالات هذه السلسلة، والتي جرت بجلب ثلاثة من أعيان الحفاظ مع تعيين محفوظهم من كتب الحديث. إن اجتماع الحفظ والفهم في الشخص الواحد يُوَلّد عجبا، كما أن الحفظ يجل ويسمو بجلالة الحافظ وسموه، فليس حافظ غاية مرمى سهمه استظهار المحفوظ -وذلك أمر خطير في نفسه- كحافظ يضيف إلى الحفظ البارع الفهمَ الدقيق. وهؤلاء الأئمة الذين هم نصاب هذا الجزء جميعا ممن اجتمع فيهم الحفظ والفهم؛ فلم يكونوا مجرد حفاظ، بل كل منهم جليل حافل، وإمام فاضل، قد ارتضع من أثداء صنوف العلوم حتى ارتوى، فما شئت من معرفة بالقرآن وعلومه، والحديث وفنونه، والفقه ومسائله، والأصول وقضاياه، وفنون العربية من لغة ونحو وصرف وبلاغة. هذا كله مع قريحة نفاذة، وحافظة وقادة. وللوقوف على شاهد هذا الكلام المجمل؛ فإنني سأزيد في نصاب هذا الجزء من الأئمة إلى ما ذكروا به من حفظ الكتب ما وصفوا به من طول اليد في الفنون، لتكون تلك النصوص مجلية لحقيقة الحال، وهو أن الحفظ الذي اتسم به علماء المغرب والأندلس لكتب الحديث كان حفظا من الدرجة العليا، والطبقة الرفيعة. فأما أول هؤلاء الحفاظ المذكورين بالتفنن في الصنوف المتعددة من المعرفة فهو الحافظ الإمام المحدث المقرئ أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن علي التجيبي المرسي التلمساني (610). حكى عنه تلميذه ابن الأبار أنه استظهر على شيخه أبي عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن محمد الخزرجي الغرناطي (567ه) كتاب التيسير لأبي عمرو الداني، والملخص للقابسي[1]. وهذا الأخير في الحديث، فهو تلخيص لموطأ مالك رضي الله عنه. وأما ثانيهم فهو الإمام القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمان العامري الغرناطي (699ه) الذي كما قال من ترجمه: "كان صدراً جليلاً فقيهاً مضطلعاً، من أهل النظر السديد والبحث الأصيل، حافظاً للمسائل مشاركاً في كثير من الفنون... ختم سيبويه تفقهاً، وقرأ الفقه، واستظهر كتاب التلقين، وحفظ كتاب الأحكام في الحديث، وعرضها في مجلس واحد، وقرأ أصول الفقه، وشرح كتاب المستصفى شرحاً حسناً، وقرأ الإرشاد والنهاية، وكان صدراً في الفرائض والحساب[2]. فهذا الإمام علاوة على محفوظه من كتب الفقه كالتلقين، ومعرفته بكتب اللغة ككتاب سيبويه، وتفننه في الأصول بحيث وصف شرحه على المستصفى بالحسن كان يحفظ كتاب الأحكام في الحديث، بل وعرضها في مجلس واحد. وأما ثالثهم فهو الإمام علي بن أحمد بن حديدة الأندلسي (719ه). حفظ الموطأ، وقرأ صحيح مسلم ببجاية على ابن كحيلة، وأخذ التصوف عن خطيب مالقة أبي عبد الله الساحلي وأبي علي المرجاني، وتعانى الوعظ والكلام على الناس[3]. وسأعود في المقال المقبل إن شاء الله إلى هذه القضية عينها، مستعرضا طائفة أخرى من هؤلاء الحفاظ. يتبع ----------------------------- 1. "التكملة لكتاب الصلة" 2/39. 2. "الإحاطة في أخبار غرناطة" 1/164، "الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب" 1/183-184. 3. "الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة" 3/80-81.