الجواب عن هذا السؤال باختصار بينه الإمام الخطابي المتوفى سنة 285ه ومختصر ما ذكره أن المحدثين هم صيادلة يقدمون الأدلة كما يقدم الصيدلي العقاقير لكل أدواء الناس، فيأخذ كل مريض من هذه الصيدلية ما يناسب علته، وعن طريق هذا التصور الذي وضعه الإمام الخطابي في تقديري ليس هناك أكثر من هذا، فنحن معاشر المحدثين صيادلة، نقدم في صيدلتنا الجامعة ما يمكن أن يعالج كل قصور أو احتياج في العلوم الأخرى، ومن أقرب الأمثلة على ذلك الكتب التي خرجت أحاديث علماء التخصصات الأخرى التي استدلوا بها في أبحاثهم ولم يعتنوا ببيان المقبول منها من المردود، فقام المحدثون فبينوا هذا، مثل قيامهم بتخريج أحاديث في الكافية (في اللغة)، وتجدين تخريج أحاديث كتب أصول الفقه جميعا، وتخريج أحاديث فقه المذاهب، وتخريج أحاديث شواهد النحو العربي واللغة... وتخرجين من هذا التصور بأن هناك تكاملا، إلا أن هذا التكامل ضعفت ملاحظته بسبب الميل إلى التخصص البحت، فإذا سألت عالما من علماء اللغة العربية المعاصرين يقول تخصصي أصول لغة: يعني تخصص داخل اللغة العربية، فكثرة التخصصات جعلت الإحساس الذي ذكرت في السؤال قائما، وإلا فالعلوم الشرعية جميعها نشأت لخدمة الكتاب والسنة، بمعنى أنها تفرعت عن هذه المنارة ورجعت إليها وكنَّا قبل سنين اقترحنا على الكاتبين في العلوم الأزهرية أن يحرصوا في تأليفهم على الاستشهاد للقواعد بالآيات والأحاديث بدلا من الشعر والعبارات والحكم المنثورة، حتى يظهروا هذه النقطة التي استشعرتها نتيجة هذا الأمر. وكلما رجعت للقرون المتقدمة تجدين كل العلوم رجعت متآزرة وما عليك إلا فتح كتاب "الناسخ والمنسوخ" لابن النحاس من أوائل علماء القرن الرابع الهجري، فهو يروي عن الإمام النسائي مباشرة بالإسناد، قبل أن يذكر الدليل من التخصص من القرآن ويقول ودليله ما قرئ على النسائي ونحن نسمع كذا وكذا... ثم يعقب استعراضه أيضا لآراء العلماء في الكتاب بما يثبت أو ينفيه بما يريك أن كل العلوم في ذهنه متكاملة ويستعملها كل علم في موطنه ليثبت قضيته، وستجدين أن العلوم الشرعية والحديث هما ممزوجان مزيجا من الصعب أن ينفصل إلا في عقول المتأخرين، وإنما هو عند المتقدمين كل هذه العلوم بوتقة واحدة وتخدم كلها الكتاب والسنة. هذا سؤال صعب، لذلك سأجيب عن جزئية منه فقط، فإذا قرأت لدعاة هذه الفكرة التي في السؤال، تجدين أنهم ليسوا على دراية كافية بأن علوم السنة كانت تنقح أولا بأول منذ حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، منذ قال عليه الصلاة والسلام:" بلغوا عني ولوا آية، حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ولا تكذبوا علي، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". هذا هو التأصيل، ما دام النبي - صلى الله عليه وسلم- صاحب السنة قال هذه الكلمة الجامعة التي قلتها لك، وبين أن سنتي حق وإياكم أن تدخلوا عليها باطلا وإلا عليكم عقوبة كذا، لم تدخل شائبة واحدة في علوم الحديث النبوي منذ نطق - صلى الله عليه وسلم- تلك الكلمة من فمه. فأصحاب هذه النظرية لم ينتبهوا لتحديد موقف لهم من الحديث النبوي وهم في طور التحصيل، فيجدون أحاديث موضوعة ورجال كذابين فيقولون: لماذا لا تنقح هذه العلوم؟ الجواب هو أنها نقحت ولكنكم لم تتطلعوا لكي تدركوا ذلك، فالشبهة في أذهان من لم يطلع وليس في العلم، فعلم الحديث منقح ومؤصل منذ حياة النبي - صلى الله عليه وسلم- وعلينا أن نطلع؛ فدعوة الحاجة إلى التنقيح هي ناشئة من عدم الاطلاع على مسيرة السنة وعلى نتاجها الموجود لحد الآن في الرفوف. لو أن كل من يتعامل مع السنة قرأ أصول الاستدلال من كتب الفقه لتغير الاختلاف حول الفتاوى، وحول تقريب الأحكام الشرعية، وضاقت الهوة كثيرا، ووجدت الألفة بين أصحاب المذاهب كما كانت بين أصحاب المذاهب الأربعة وهم أحياء، فقد كان الشافعي يتتلمذ على مالك، وكان محمد بن الحسن الحنفي يتتلمذ على مالك ويروي موطأه ويعقب على ما يرويه عند مالك بقوله: وبهذا نأخذ: يعني أصحاب مذهب أبي حنيفة، حين كان هذا الأمر، كانت أصول الاستدلال هي الحاكم فتفرق بين الخلاف الجزئي والخلاف الأصلي. فالخلاف بين المذاهب الأربعة ليس خلاف تضاد، بل هو خلاف تنوع، وخلاف التنوع لا يمنع الجمع بين وجوهه بطريقة معتبرة. التضارب الذي نستشعره الآن ليس حقيقيا، لقول الإمام البوصيري: فكلهم من رسول الله ملتمس *** غرفا من البحر أو رشفا من الديم أسباب خلاف المسلمين هو ما قلته قبل قليل، فعند الإنصاف واتحاد المنطلقات لن يحصل التضارب في الاستدلال، وعند عدم وجود المنطلقات سيكون هناك خلاف، فلو كان المنطلق واحد وهو ثبوت النص عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وثبوت القرآن الكريم، دون محاولة التشغيب على هذه الحقائق الثابتة سوف لن نختلف، بل سنصل إلى أن هذا الاختلاف نوع من التيسير، وهو اختلاف يصل إلى الجمع، وما كتبه الإمام الشعراني في مقدمة كتابه: "كشف الغمة عن جميع الأمة"، أثبت فيه الشعراني بالاستدلال في أبواب الكتاب أنه ممكن أن يكون هذا الخلاف بتجميع المسلمين لا بتفريقهم، شريطة أن يكون الهم واحدا، وهو تجميع المسلمين وليس تفريقهم. السنة النبوية فيها مناهج تربوية لكل الجزئيات التفصيلية التي يمكن أن تربي الطفل والمراهق والشاب والكهل.. ففي السنة النبوية -بلا ادعاء- كل أصول التربية العلمية لجميع مراحل الإنسان، كل ما على المرء فعله هو الاطلاع ثم التطبيق. يروي مسلم في كتاب الأشربة باب إكرام الضيف وفضل إيثاره، عن المقداد بن الأسود قال: أقبلت أنا وصاحبان لي، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فليس أحد منهم يقبلنا، فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم- فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: احتلبوا هذا اللبن بيننا، قال: فكنا نحتلب، فيشرب كل إنسان منا نصيبه ونرفع للنبي - صلى الله عليه وسلم- نصيبه، قال: فيجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان، قال: ثم يأتي المسجد فيصلي، ثم يأتي شرابه فيشرب، فأتاني الشيطان ذات ليلة، وقد شربت نصيبي، فقال: محمد يأتي الأنصار فيتحفونه ويصيب عندهم ما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيتها فشربتها فلما أن وغلت في بطني، وعلمت أنه ليس إليها سبيل، قال: ندّمني الشيطان. فقال: ويحك! ما صنعت؟ أشربت شراب محمد؟ فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك قال: وعليّ شملة إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي وإذا وضعتها على رأسي، خرجت قدماي وجعل لا يجيء لي النوم، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت، قال: فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم- فسلم كما كان يسلم، ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه، فكشف عنه فلم يجد فيه شيئا، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك حضرت ساعة الموت، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- اللهم أطعم من أطعمني واسق من سقاني، قال: فعمدت إلى الشملة فشددتها علي وأخذت الشفرة فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- فإذا هي حافلة، وإذا هن حفل كلهن، فعمدت إلى إناء لآل محمد - صلى الله عليه وسلم- ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه قال فحلبت فيه حتى علته رغوة فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: أشربتم شرابكم الليلة؟ قال قلت يا رسول الله! اشرب، فشرب ثم ناولني فقلت: يا رسول الله اشرب فشرب ثم ناولني فلما عرفت أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قد روي وأصبت دعوته[1] #_edn1 ضحكت حتى استلقيت على الأرض من الضحك، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- إحدى سوءاتك يا مقداد! فقلت يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا وفعلت كذا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- ما هذه إلا رحمة من الله، أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها؟ قال فقلت: والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتَها وأصبتُها معك من أصابها من الناس. فالجانب النفسي يستخلصه العارف بعلم النفس والتحليل من خلال عبارات كثيرة داخل الحديث مثل "ندمني": أي ولد عنده الشعور بالندم، "ووسوس له" فبات الرجل يتجاذبه شعور الندم والوسوسة، والخوف وعدم النوم، فيأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويدعو له ويزول كل ما كان يعاني منه. أرجو من كل الراغبين والراغبات في الاشتغال بعلوم السنة أن يطلعوا على مصادرها الأصلية أولا، مثل صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، والمسانيد كمسند الإمام أحمد وأبي يعلى الموصلي، ثم كتب شروح هذه المصادر، ثم كتب شروح أحاديث الأحكام مثل نيل الأوطار للشوكاني، وسبل السلام للصنعاني، وأن يطلعوا على كتب قواعد علوم الحديث مثل علوم الحديث للحاكم أبي عبد الله، وكتب الخطيب البغدادي وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر والرسالة للإمام الشافعي، وكتب الأحاديث الموضوعة وكتب الأحاديث المشتهرة على ألسنة الناس. وكتب تخريج أحاديث العلوم مثل تخريج أحاديث منهاج الأصول للبيضاوي تأليف الحافظ العراقي والمعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر للزركشي ونصب الراية لتخريج أحاديث الهداية للزيلعي، والمغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار، وغير ذلك مما سيوضح للجميع أن السنة النبوية وعلماءها قدموا للأمة ما يفي بمختلف احتياجاتها، ويواكب أيضا تطلعاتها المستقبلية. حاورته الأستاذة عزيزة بزامي رئيسة تحرير جريدة ميثاق الرابطة -------- 1. #__edn1 وهي قوله السابق: اللهم أطعم من أطعمنا واسق من سقانا.