إن حقائق التاريخ ليست أوهاما وأباطيل تفترض وتقدر، ولكنها وقائع تحدث فتنقل وتروى بصدق وأمانة، وقد يعتريها تحريف وتزويد ولكن الحقيقة خالدة، والذي يضمن خلودها هو أنه لا يكون هناك مؤرخ واحد، وحتى لو اتفق أن جازت مؤامرة التزييف على المؤرخين كلهم؛ فإن الحقيقة لا تعدم (ابن خلدون) جديداً يخلصها من الزيف، ويبرزها ناصعة للعيان. ومن ثم كان المؤرخون على خطر عظيم، حتى قال التاج السبكي في كتابه "معيد النعم ومبيد النقم" في حقهم: "إنهم على شفا جرف هار؛ لأنهم يتسلطون على أعراض الناس، وربما نقلوا مجرد ما يبلغهم من كاذب أو صادق". ونقول هذا؛ لأن للمذكرات صلة بالتاريخ، فقد تفسر ما غمض من أحداثه، وقد تتمم بعض النقص في مروياته، ولاسيما إن كانت بنت وقتها كاليوميات والحوليات التي حرص كاتبها على تسجيلها في حينها، وإن كان ذلك قد يعتمد رواية واحدة من عدة روايات للخبر أو نشره لا تحقيق معها، فليس ضربة لازب، أن تكون مزامنة الحادث دليلا على صدقه بإطلاق، وعلى ذلك؛ فإننا نكتب هذه المذكرات وقد مر على حوادثها سنوات وسنوات، وبعضها مما علق بالذاكرة قبل أن نعرف الأبجدية، فلا ينتظر منا أن نؤرخها ولا أن نحدد وقوعها باليوم والساعة إلا ما كان منها يحمل تاريخه أو يعين وقته على سبيل التقريب، خاصة وأنا ما انتحلت يوما صفة مؤرخ ولا كاتب في التاريخ بمعناه المتعارف إلا تلخيصا أو تأسيسا لعمل فكري وحركة أدبية كما يعلم المتتبع لإنتاجي وكتاباتي.. والخلاصة أن هذه المذكرات هي تسجيل لأحاديثي وعروضي عن مشاهداتي التي أفضي بها لإخواني وأصدقائي في كثير من الاجتماعات واللقاءات عند الخوض في الكلام على الحركة الوطنية ونشأتها ومحاربة الجهل والأمية الفكرية والبدع والضلالات التي كانت منتشرة في المجتمع المغربي، وإعداد الشعب وتوعيته بما يجعله في مستوى الوثبة الأجنبية، وهي الأحاديث التي كانت تحمل المستمعين لها على الالتماس مني بإلحاح أن أكتبها وأسجلها لعموم المواطنين… عن كتاب "ذكريات مشاهير رجال المغرب في العلم والأدب والسياسة" الصفحة 12-13 تأليف العلامة عبد الله كنون قدم له واعتنى به ورتب تراجمه إلى طبقات الدكتور محمد بن عزوز، الجزء الأول: في العلم مركز التراث الثقافي المغربي، دار ابن حزم الطبعة الأولى 1430ه/2010م.