للمسائية العربية/ الدكتور : صديق تاور كافي – أستاذ جامعي وكاتب صحفي أصبحت هناك أزمة سنوية في كل الجامعات تقريباً اسمها طلاب دارفور، تتمثل في الرسوم الدراسية التي تتمسك بها إدارة الجامعة كشرط لاعتماد الطلاب ومنحهم الحق في الدراسة والحصول على الشهادات، بينما يتعثر هؤلاء الطلاب في استيفاء الرسوم بسبب ظروفهم الأسرية المفهومة، وبسبب ارتباط الأمر بأكثر من حلقة مؤسسية، ابتداءً من السلطة الانتقالية ووزارة المالية وإدارة الجامعة المعنية وإدارة القبول. وتدريجياً أخذت المشكلة تعقيداتها من كونها مشكلة خاصة بطلاب سودانيين ينسبون لاقليم يعيش حالة عدم استقرار أمني وأزمة سياسية واضحة أحد إفرازاتها وضعية هؤلاء الطلاب أنفسهم، الى مشكلة سياسية جهوية واجتماعية ذات طابع مختلف عن مشكلات الاوساط الجامعة التقليدية، ولها خطورتها ما لم يتم التعامل معها بما فيها من حساسية وبما تستحق من جدية. وعلى سبيل المثال فقد «دخل طلاب دارفور في جامعة بخت الرضا في اعتصام يوم 16/11/2009م احتجاجاً على ما قالوا أنه «استهداف مقصود؟!!» وتضييق على طلاب الاقليم بالجامعة، لم يسلم حتى أبناء دارفور في مدينة الدويم منه. ودعا الطلاب إدارة الجامعة الى ضرورة الاستجابة الى مطالبهم المتمثلة في وضع حد للاستهداف الذي يتعرضون له، بالاضافة الى المطالب الاخرى. وذكرت طالبة أن التضييق وصل درجة الاستفزاز وعزوف أصحاب الركشات عن نقل أبناء دارفور، واستخدام العبارات النابية بحقهم. فيما ذكر د. محيي الدين الجعلي ممثل عمادة الطلاب في الجامعة أن الإدارة اجتمعت بمدير الشرطة الذي أكد ان الاجراءات القانونية قد تم اتخاذها بشأن الحريق الذي اندلع بسكن طلاب دارفور، مؤكداً أن مدير الشرطة تحفّظ على الطلاب الذين اُتهموا ولن يطلق سراحهم إلا بكفالة. وقال إن الإدارة توصلت الى اتفاق نهائي بشأن الروابط الاقليمية في الجامعة، وأنها ستعرض طلاب رابطة طلاب دارفور للجنة أمن الدويم- رأى الشعب 17/11/2009م العدد «1341». ? وفي السياق نفسه تأزم الوضع بين طلاب اقليم دارفور بجامعة الخرطوم وإدارتها قبل بضعة اسابيع ولا يزال، بسبب الرسوم وإجراءات التسجيل، بعد أن نظم هؤلاء الطلاب مسيرة سلمية داخل الجامعة بعلم وموافقة ادارتها بحسب بعض المصادر، حملوا فيها مذكرة تضمنت مطالبهم المتعلقة بالانتظام في الدراسة وتفهُّم وضعيتهم باعتبارهم طلابا تتولى جهات حكومية معينة سداد رسومهم الدراسية، بينما كانت الإدارة تشكو من عدم التزام الجهات المعنية في وزارة المالية بالوفاء بالتزاماتها التي تراكمت حتى اصبحت مديونية الجامعة على وزارة المالية تسعة مليارات جنيه «بالقديم»، وانتهى هذا الوضع المتأزم بتدخل الشرطة وفض الموكب السلمي واعتقال ستة طلاب هم الذين قدموا المذكرة نيابة عن زملائهم. وسنوياً هناك مشكلة من هذا النوع في هذه الجامعة أو تلك، لأن الجامعات تعتمد على الرسوم الدراسية التي تتحصلها من الطلاب عموماً في مقابلة بعض التزاماتها، في ظل شُح الدعم المركزي للجامعات والتعليم العالي عموماً، بينما الطلاب فضلاً عن ظروفهم الخاصة وظروف أسرهم مثل سائر الأسر السودانية، فإنهم يستندون في ردود أفعالهم على استحقاق أوجدته لهم اتفاقية ابوجا 6002م يقضي بإعفائهم من الرسوم الدراسية وتضمنه لهم السلطة الانتقالية في دارفور. وبالتالي فهذا الاستحقاق هو جزء من اتفاق رسمي بين الحكومة وحركة جيش تحرير السودان، وأصبح التزاماً مقراً لا تنكره وزارة المالية الاتحادية التي «أكدت التزامها بسداد الرسوم للطلاب من أبناء دارفور الذين التحقوا بالجامعات عن طريق القبول العام، أو الخاص وفق معالجة من مكتب القبول». واوضح الأمين العام لوزارة التعليم العالي عمر عثمان المقلي، أن وزير الدولة بالتعليم العالي أصدر خطاباً لجميع مديري الجامعات يتم بموجبه حساب الرسوم الدراسية للطلاب المستحقين من دارسي البكالريوس»- الصحافة- 30/10/2009- العدد «5885». كما يستند الطلاب على مراسيم رئاسية تمنع حرمان أى طالب من الدراسة أو الجلوس للامتحان بسبب الرسوم، وهذه تشمل كل الطلاب بلا استثناء، ناهيك عن طلاب دارفور ذوي الظروف التي تتجاور أمر الرسوم الى السكن والاستقرار والعلاج وخلافه. فقد «احتشد صباح الاثنين 9/11/2009م عدد من الطالبات من اقليم دارفور بدار حركة جيش تحرير السودان بالموردة يستنكرون المعاناة الشديدة التي يعانين منها من التشرد وعدم وجود مساكن في داخليات صندوق رعاية الطلاب، وانهن لم ينتظمن في الدراسة لذات الاسباب لأكثر من شهر، وأغلبهن طالبات جدد. وقالت الطالبة وفاء آدم إزيرق المتحدثة باسم الطالبات، إن اغلبهن من جامعة ام درمان الاسلامية والقرآن الكريم، وأنهن لجأن الى دار حركة جيش تحرير السودان لأن هناك توجيها بأنهن تم قبولهن على ضوء اتفاق ابوجا، وأن مشكلتهن يحلها السيد مني أركو مناوي رئيس الحركة، وذكرت بأنهن أجرين اتصالات مكثفة مع مسؤولين في صندوق رعاية الطلاب واتحادات الجامعات، ولكن دون جدوى» رأى الشعب- 10/11/2009- العدد «1370». ؟ إذن هناك مشكلة حقيقية لدى هؤلاء الطلاب الذين يمثلون بحكم عددهم قطاعاً واسعاً من طلاب الجامعات السودانية، ولم تكن لهم مشكلة قبل انفجار الاوضاع الامنية والسياسية في الاقليم بالشكل الذي نراه. وحيث أن هذه الأوضاع قد أسفرت عن آلاف القتلى ومئات الآلاف من النازحين واللاجئين والمشردين وفاقدي الاستقرار، فلك أن تتخيل حجم الدمار الذي لحق بالمجتمع هناك بما يجعل أوضاع هؤلاء الشباب الذي يصارعون ظروف فقدان بعض ذويهم، واضطراب أحوالهم المعيشية، امتداداً طبيعياً لتلك الظروف. وهى ظروف تشكل عامل ضغط نفسي للانسان الذي يؤدي أعمالاً عادية ناهيك عن الذي يعمل في حقل الدراسة والتحصيل. ومن ناحية أخرى فظروف هؤلاء بصفتهم طلابا هى حالة مؤقتة، حيث أنهم سوف يقضون عددا من السنوات قليلا ثم ينتقلون الى مرحلة مختلفة. وفي هذه السنوات وبحكم السن وطبيعة المهنة «طلاب» فإنهم سوف يتشكلون ضمن الحالة الطبيعية لكل الشباب في البلد، وتتهيأ لهم فرص التفاعل الايجابي السلمي مع القضايا الكبيرة مثل قضية دارفور نفسها، وبالتالي يتوقع لهؤلاء الشباب أن يكونوا رصيداً للحلول الموضوعية الايجابية لأزمة دارفور من منظور سوداني قائم على الاحتكام اليومي والتجربة والوعي. وفي الجانب المقابل من الممكن لهؤلاء الشباب في حال سد الأبواب أمامهم أو التعامل معهم بأفق غير تربوي، أن يتحولوا الى رصيد سلبي للمجتمع في دارفور وفي السودان عموما، فكل حركات الانفلات الامني وجماعات النهب المسلح ومروجي المخدرات وغيرهم، إنما يتغذون من الفاقد التربوي ومن الشباب المحبط والمغبون. وهناك جوانب لا بد من الوقوف عندها بالنظر الى قضية ابناء وبنات اقليم دارفور في الجامعات السودانية. الجانب الاول هو أن هؤلاء الطلاب هم شباب سودانيون تقع المسؤولية عنهم على عاتق الحكومة المركزية والاقليمية، مثل بقية شباب السودان الذين نقول بانهم كل المستقبل، بغض النظر عن وجود مشكلة في اقليمهم من عدمها، وبغض النظر عن وجود اتفاق موقّع مع هذه الحركة او تلك، ومن هذا المنظور فإن التعامل مع قضيتهم يجب أن ينطلق من أنهم اصحاب حق وليسوا طالبي صدقة او حسنة من الحكومة او من الوزارة او من السلطة الانتقالية او الجامعة، هذه الناحية مأخوذة في الاعتبار معها قرارات رئاسة الجمهورية بعدم حرمان اي طالب من الدراسة بسبب الرسوم، ومأخوذة معها ايضا ان وضعيتهم كحالة خاصة وفقا لاتفاق موقّع من قبل الحكومة، كل ذلك يجعل التضييق على هؤلاء الطلاب بالذات نوعاً من التجاوزات الادارية والمضايقات المتعمدة من باب المكايدة والتعكير فقط. فادارة الجامعة تستطيع ان تستخدم عدة قنوات رسمية للحصول على مستحقاتها المقابلة لهؤلاء الطلاب، فبامكانها ان تتحرك الى الوزارة «التعليم العالي» والسلطة الانتقالية ووزارة المالية والمجلس الوطني وغيرها من الحلقات الرسمية ذات الصلة بمعالجة امر المستحقات المالية، بدلاً من الاستفراد بهؤلاء المستضعفين. وينسى اداريو الجامعات الذين يمارسون التضييق على هؤلاء الطلاب أنهم هم انفسهم قد تدرجوا في مراحلهم الدراسية من بدايتها وحتى نهايتها دون أن يضعوا جنيهاً واحداً في خزينة المؤسسات التي درسوا فيها، فهم نتاج مجانية التعليم حين كانت المدرسة او الجامعة تنفق على الطالب في كل شيء ابتداءً من صابون الغسيل وحتى تذاكر السفر. وقد درس هؤلاء في جامعات العالم الاخرى لما فوق الجامعة من خزينة الدولة التي انفقت عليهم من عرق دافع الضرائب في دارفور او في الجزيرة او دنقلا او جوبا او بورتسودان او كردفان. وبدون هؤلاء وبدون مجانية التعليم ما كان لهؤلاء ان يتبوأوا ما هم فيه الآن، ولا أن يتسيدوا على الخلق يوما. والجانب الآخر يتعلق باخلاق المجتمع السوداني في ما يختص بالنظر الى طالب العلم، فهناك إرث تربوي سوداني فيه تقدير كبير لكل من يرتاد حقل التعليم والتعلم في المدرسة او في الجامعة، فهو محل حفاوة وتقدير واحترام، ويجب ان يُبذل كل جهد في سبيل اراحته، لأن المجتمع يعرف أن العلم والمعرفة استثمار انساني كبير، فهذه الروح يجب أن تسود في حال التعامل مع اي طالب، ناهيك عن الطالب الذي يدرس ضمن الظروف التي يمر بها ابناء دارفور حالياً، خاصة اذا كانت طالبة عبرت كل هذه المسافات بحثا عن مقعد للدراسة في جامعة متخطية ظروف الحرب الاهلية وظروف الفقر والشقاء. واكثر من ذلك ان هؤلاء الطالبات يدرسن في جامعتين المفترض من عنوانهما ان يتعاملا بشكل مختلف مع قضية طالبات دارفور اللائي احتشدن امام دار حركة جيش تحرير السودان يشتكين من التشرد وعدم وجود مأوى لهن كطالبات في السكن الطلابي التابع لصندوق رعاية الطلاب، ولا ندري ما جدوى الصندوق نفسه اذا كان يترك طالبات في السنة الاولى الجامعية يهمن على وجوههن بحثا عن اسكان خارج الجهات ذات الصلة بالتعليم الجامعي. نخشى أن يكون موقف ادارة الصندوق من هؤلاء الطالبات قائماً على اساس التصنيف الجهوي والسياسي. وعموماً لا اخلاق المجتمع السوداني تسمح بما يحدث لهؤلاء الطالبات، ولا اخلاق العملية التربوية والتعليمية، ولا اخلاق الدين الحنيف «الاسلامية والقرآنية». والجانب الثالث الذي يستوجب الوقوف عنده في أمر مشكلة طلاب دارفور، هو تأخر وزارة المالية في تغطية الرسوم الخاصة بهؤلاء الطلاب لدى جامعاتهم. والسؤال الذي ينطرح هنا هو لماذا لا تقوم وزارة المالية بسداد هذه الرسوم في حينها؟ فهي التزام وقَّعت عليه الحكومة ضمن اتفاق واضح ومعروف. وهي اولوية لانها تتعلق بمستقبل اجيال سودانية، ولانها لا تمثل شيئاً في مقابل مجالات الانفاق الاخرى مثل مرتبات الوزراء والولاة والمعتمدين والنواب والدستوريين او نثرياتهم او علاج أسرهم او عماراتهم أو مدارس اولادهم، فلماذا لا تتأخر مستحقات هؤلاء لصالح هذه الشريحة ولو مرة واحدة فقط..؟! يكفي انهم قادمون من منطقة هي من أبرز مناطق الازمات في العالم حالياً، ومآسيها تهد سلاسل جبلية بحالها، وهم الى جانب الرسوم يواجهون ظروف السكن ومصاريف الاعاشة اليومية من وجبات ومواصلات ومستلزمات جامعة «تصوير، دفاتر، مذكرات..الخ»، ويواجهون هموم اهلهم المتوزعين ما بين المعسكرات واطراف المدن وبلدان اللجوء، ويواجهون واجبات التحصيل الاكاديمي والدراسة وضرورات النجاح وهواجس الرسوب او ضياع سنة بسبب الظروف، فاي حمل اثقل من هذا نريده لهؤلاء الشباب..؟! وفي مقدور الحكومة اذا كانت جادة في ما توقع عليه من اتفاقيات، ان تحل مشكلة طلاب وطالبات دارفور في جلسة لا تتجاوز الساعتين من الزمن. وهناك معالجات تحتاج مجرد توجيهات وقرارات، او هناك معالجات تحتاج الى تنسيق جهود بين حلقات يمكن ان تسهم بجزء من المعالجة مثل وزارة الشؤون الاجتماعية، وزارة الشؤون الإنسانية، ديوان الزكاة، ولاية الخرطوم وولايات دارفور والسلطة الانتقالية. ولا نعتقد بأنه يصعب على كل هذه الحلقات مجتمعة او منفردة أن تعالج قضية سكن الطالبات والطلاب من اقليم دارفور في الجامعات او مصروفاتهم الشهرية واعانتهم وهكذا.. وبإمكان السلطة الانتقالية أن تلعب دورها في انفاذ المراسيم الرئاسية الخاصة بهؤلاء الطلاب في ما يتعلق بأمر الرسوم وعدم الحرمان من الدراسة وهكذا معالجات. والاصل هو مجانية التعليم لكل أبناء وبنات السودان، وواجب على الدولة والحكومة أن تصل الى أي مواطن في موقعه بخدماتها، لأن هذا حقه سواء في التعليم او العلاج او التنمية، ودارفور هي نموذج صارخ للأزمة ولكنها ليست النموذج الوحيد، فالأزمة عميقة وشاملة تغطي كل جغرافيا الوطن بلا استثناء، ولكنها فقط تختلف في تمظهرها من منطقة إلى أخرى.