لحسن كجديحي ... ومما لا جدال فيه, أن ما ساعد على تكريس واستمرار هذا الوضع في واقعنا المعيش الخبرة المناوراتية والواقع السلطوي المتجدر, إذ إنه مع انتصار اللغة الخشبية والقوى المساندة لها في الصراع على السلطة مع أصحاب المشاريع الهادئة, ثم قيامها بتدبير وإحكام الولاء لأبنائها من بعدها , وهو الأمر الذي نجم عنه تحوّل نظام الاستقرار إلى نظام اللااستقرار لا دور للإرادة الشعبية فيه, وقد كان من نتيجة ذلك أن انتفى مبدأ الفصل بين السلطات, إذ أصبحت جميع السلطات تابعة أو مدمجة في سلطة المال والنفوذ التي يمارسها هؤلاء الأبناء الورثة, وعلى هذا الأساس, نظر إلى موضوع تداول السلطة على أنه من الأمور المستبعدة في الذهن الجماهيري, حيث حل محلها القبول بواقع السلطة المطلقة وشبه المطلقة طيلة الفترة التي يتواجدون فيها في المنصب، وبغض النظر عن الإنتظارات الجماهيرية سواء كانت مادية أو معنوية.وهكذا أصبح المصير الوجودي بأكمله مرتبطاً بشخصية الزعيم الفرد أو الزعماء الأفراد. وهكذا اتسم الهاجس الأمني ( الذي اعتبر شرطا أساسيا للاستقرار)بالسلبية الشديدة تجاه قضية حماية المواطنين, حيث ظل توجها لا متوازنا لا يقر للواقع وجودا, ولا يعرف لحريات الأشخاص حرمة خاصة منهم السياسيون. إذ إنه رغم تخويله مؤخرا بعض الصلاحيات والحقوق للمواطن في مقارعة بعض المسؤولين الذين استولوا على السلطة بأساليب غير شرعية أو غير الملتزمين بتطبيق قواعد اللعبة السياسية, إلا أنه سرعان ما ركز بعد ذلك ببيان حقوق المال والجاه دون أن يعير اهتماماً يذكر لحقوق المواطن وحرياته, فأصبح هذا الهاجس متخماً بمبادئ طاعة السلطة, أيّا كانت صورتها أو أسلوب ممارستها, كما أصبح دوره منحصراً في تبرير سياسات الأمر الواقع المتبعة من جانب المسؤولين, وذلك تحت ستار حماية القانون تارة, أو حماية الدولة وتأمينها ضد أعدائها من الداخل ومن الخارج تارة أخرى, ومن هنا, فقد كان من الطبيعي أن تترسّخ في الذهن الجماهيري مقولات تعمّق من الاستبداد السياسي لهؤلاء المسؤولين, وتحول دون قيام المواطن بدوره الإيجابي في تجديد البناء السياسي الاجتماعي للمجتمع المتزن. وهكذا تأسست أنظمة سلطوية تقوم على أساس محو التوازن القانوني, والانفراد بالسلطة, ونفي التعددية السياسية والفكرية في ظل هيمنة تنظيمات سياسية متواطئة تتدّعي المعرفة المطلقة بالحقيقة السياسية, وتحتكرها, ولا تقبل على وجه الإطلاق أي معارضة لسياستها, وقد كان من نتيجة ذلك أن تفاقمت الأزمة الديمقراطية, فأصبحت مبادئ الحقوق السياسية للمواطن, ومنها حق العيش وإبداء الرأي مجرد مبادئ شكلية لم تحظ بالتقدير من جانب السياسات المتعاقبة، كما تحوّلت الانتخابات والاستفتاءات إلى حفلات لتدعيم المال والجاه.وأمام هذه الترسبات انفلت الأمن وضاعت الحقيقة. و توافرت مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية ذات الصلة بالواقع السياسي والاقتصادي والثقافي لتكريس هذا الواقع والحيلولة دون نموّ البناء الديمقراطي فيه.ناهيك عن عدم القدرة على إشباع كثير من الحاجات الاقتصادية والاجتماعية لدى السكان, مما جعل الإحساس بعجز الدولة عن الوفاء بمسؤولياتها أمرا واقعا لدى الفئات الاجتماعية, ومن ثم الحرص على التغطية على إجراءات وممارسات المسؤولين المتسرعة, أو بمعنى أدق وأوضح صرف أنظار غالبية السكان عن التفكير أو المطالبة بحقوقها السياسية في ممارسة السلطة, أو المطالبة بتقييد سلطات هؤلاء المسؤولين.وهكذا ظل توزيع الدخل متسما بالخلل الشديد ما بين فئة محدودة للغاية تتمتع بالثراء الفاحش, وغالبية تعيش في فقر مدقع, كما لم تؤد برامج التنمية والتحديث في كثير من الأحيان إلى تصحيح ذي شأن في هذا الهيكل الخاص بتوزيع الدخل, حيث لايزال كثير من الأفراد, يواجهون العديد من الأزمات التنموية نظراً لفشل هذه البرامج والإجراءات التنموية في تحقيق أهدافها المرجوّة, حيث تصل نسبة الفئات المهمّشة اقتصادياً في بعض الأحيان إلى أكثر من 70%, وقد كان من نتيجة ذلك أن أصبحت غالبية الفئات الاجتماعية منهمكة في تلبية احتياجاتها اليومية الحياتية, ومن ثم الخروج عن المشاركة الإيجابية في العملية السياسية, وهو الأمر الذي سمح بظهور فئات تعصبية تارة، وفئات ساخطة مستعدة للقيام بأي شيء تارة أخرى.لاشك في أن ما نسعى إليه هو الحرص على إقامة تعددية سياسية لاحتواء المطالب الاجتماعية المتزايدة وتدعيم البناء الديمقراطي للمجتمع, وغير هذا يعتبر من قبيل العبث السياسي الذي لن يكون مناسباً, ونحن على أبواب نهاية القرن الواحد والعشرين, إذ إنه مع ضعف القاعدة الاجتماعية للعديد من السياسات لدى رجل الشارع بسبب إخفاقها الذريع سواء على صعيد إدارة الأزمات التنموية الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, أو بسبب ما نجم عن تمتّعها بالسلطة المطلقة طيلة فترة تدبيرها للشأن العام من كوارث سياسية واجتماعية واقتصادية. فإن من المأمول أن تشهد السنوات المقبلة تحوّلات إيجابية في طريق التداول السلمي للسلطة, نظراً لعدم وجود بديل آخر سوى فتح الطريق أمام مزيد من العنف السياسي, وإن لم يكن بالضرورة على غرار ما حدث في بعض البلدان. ولعل أبرز آليات تحقيق ذلك التوازن الدينامي هو آلية الحلول الوسط بما يحفظ للمجتمع درجة ملاءمة من الاستقرار القائم على التعدد، وهذه الآلية هي التي تميز المجتمع المتزن والمتناغم عن أسلوب النظم التي تبث الكراهية بين أفراد المجتمع الواحد. أليس جميلا أن تتقدم الحريات إلى مواقع الصدارة ضمن أولويات الواقع المغربي بعد طول تعثر وسط المهملات المخزنة في خلف دواعي الهاجس الأمني المزعوم؟