«والقلم وما يسطرون» صديقي حرمة الله، «كفى قلم الكتّاب عزاً ورفعة مدى الدهر أن اللهَ اقسَمَ بالقلمِ» إنهم قادرون على أن يضعونا في زنزانة، قادرون على أن يضعوك في زنزانة، لكنهم لن يقدروا أبدا على أن يضعوا الزنزانة في عقولنا وفي عقلك. إنها معركة خاسرة من قبل أن تبدأ، تلك التي يخوضها منذ قرون الطغاة والدكتاتوريون وآخرون من أشباه الملوك والرقباء ضد الكلمات. كيف صدقوا أن بإمكانهم وضع الأصفاد في أقدام الكلمات والقوافي والأبيات والأفكار؟ أبا سفيان، عندما زرتني أخيرا، وكانت تلك المرة الأولى التي نتقابل فيها، قلت لك إننا أصبحنا مجرد أشخاص مازالوا يقتفون أثر الحقيقة ويبحثون عنها، وإننا كنا دائما مجرد مساجين في حالة إطلاق سراح مؤقت، يعرفون أيضا أن الشك هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة. الله وحده يعلم كم تعتمد مهنتنا على تيقننا مما نكتبه ومما ننقله إلى القراء. حكم عليك القضاء بخمسة أشهر حبسا موقوف التنفيذ. وهو ما أريد منه أن توضع بالقوة أمام أمر واقع، أي ألا تعود إلى الكتابة، حتى تترسخ في ذهنك الرقابة الذاتية، حتى تصبح أنت سجان نفسك. إن إرجاعك إلى السجن لتقضي ما تبقى من عقوبة جائرة، بعد محاكمة غير عادلة، هو في حد ذاته تحرير لك، مع ذلك فإن لا شيء في العالم يمكن أن يضاهي غباءهم. صديقي حرمة الله لم أصدق أبدا أننا كنا نمارس مهنة الصحافة في «أجمل بلد في العالم»، كما يدعون وكما مازال البعض منا يصدق ذلك. لا يمكن أن يوجد الصحفي الحقيقي إلا في دولة القانون، في دولة يحكمها فصل حقيقي وفعال بين السلط، في دولة القضاء فيها مستقل بالفعل، وبعيد عن يد السلطة التنفيذية. نحن نناضل منذ نصف قرن من أجل بناء دولة القانون هذه، وهو الشرط الذي لا غنى عنه من أجل –أؤكدها- من أجل وجود وممارسة الصحافة بالشكل الذي تمارس به في الدول الديمقراطية بحق. في مواجهة صفة الأمير وفي مواجهة السلطة التنفيذية، عدالة مستقلة هي وحدها التي ستكون قادرة على حمايتنا من استبداد الأقوياء. أبا سفيان، لقد قلنا، وكنا مخطئين في ذلك، إن النظام يتعقب أثرنا، وكان ذلك خطأ فادحا، لأن النظام في الحقيقة لا يتعقبنا نحن لكن يتعقب الحقائق التي تعريه، التي تكشفه. النظام لا يلاحقنا، ولا يريد أن يكمم أفواهنا، وهنا أيضا خطأ فادح آخر ارتكبناه. النظام يريد فقط أن يبقى المواطن وأن يبقى الشعب غارقا في الجهل، وألا يكون للشعب إلا مصدر واحد للمعلومات، ذلك الذي يروجه عبر وسائل إعلامه السمعية-البصرية وإداراته العمومية. إن الحق في الوصول إلى المعلومة هو حق يتبوأ مكانة مهمة بين حقوق الإنسان. إنه ذلك الحق الذي يراد أن يُحرم منه الشعب، ولهذا، عليه أن يدفعنا إلى أن نكون رقباء أنفسنا، وذلك حتى لا نكون مرجعا آخر للإخبار. صديقي حرمة الله، النظام، من غبائه، لم يفهم بعد أن الصحافة في حد ذاتها قد تغيرت تماما. اليوم، صار بإمكان كل مواطن وكل مواطنة أن يتحولوا في لمح البصر إلى صحفي محقق بفضل التكنولوجيا الحديثة ووسائل الإعلام المتطورة بما فيها الأنترنت والهواتف النقالة وآلات التصوير الفوتوغرافية الرقمية، هذه الآلات التي صغر حجمها وكبرت فعاليتها. قناص تارجيست ومثيلوه الذين ينتشرون في مناطق أخرى نجحوا في وضع أشرس حراس النظام تحت المراقبة. أصبح كل مقهى للأنترنت في أصغر أحياء المدن عبارة عن وكالات للأنباء تبث المعلومات بثا حيا على الأنترنت، ليس فقط المعلومات بل أيضا الصور. أما المدونات ومنتديات الحوار فقد أصبحت جرائد حقيقية، حيث يمكن للمواطنين من خلالها التعبير عن مواقفهم وأن يحكموا على أداء حكامهم بكل حرية. وإن دل كل هذا على شيء فإنما يدل على كم هو مخز أن يوضع الصحفيون تحت الرقابة لأننا أصبحنا نعد بالآلاف كمستعملين للأنترنت وبالتالي كصحفيين. أبا سفيان، يتهمنا النظام بأننا لسنا موضوعيين أو أننا نفتقر إلى بعض الموضوعية. من جهتي أنا، أقول إنني لم أكن أبدا موضوعيا، وإنني لن أكون أبدا كذلك، لأن ذلك ببساطة مستحيل. كل إنسان هو نتاج تربية معينة، تعليم معين في إطار وسط اجتماعي واقتصادي معين وثقافة معينة تشربها ودين معين ترعرع فيه منذ ولادته. بالنسبة إلي، أنا لست موضوعيا وإنما أنا ذاتي، وأتحمل نتائج ذاتيتي أو انحيازي، لأنني أعبر عن نفسي وعن إحساسي، عن معيشي، عن تأثراتي، عن قناعاتي التي تصنع ما أكتب. لا يمكن أن نطلب من الصحفي أن يكون موضوعيا، وإنما أن يكون نزيها وصادقا. عندما أكتب فإنني أكتب بكل النزاهة الممكنة، أعبر عما أشعر به، أكتب ما يبدو لي هو الحقيقة، ما يتوافق مع قيمي في اللحظة التي أخط فيها الكلمات على الورق أو اللحظة التي أرقن فيها الكلمات على لوحة مفاتيح الحاسوب. صديقي حرمة الله، لست وحدك خلف تلك القضبان الغبية، كلنا معك هناك، لأن بداخلك قطعة من كل واحد منا. بإعادتك إلى السجن تم وضع سجانيك في السجن. أما هم فإن التاريخ سيذكر، من خلال كتاباتنا ومن خلال كتاباتك التي ستخلد عبر القرون، أسماءهم وأفعالهم الدنيئة وغباءهم المتجلي في رغبتهم في وضع قيود في أقدام الكلمات ورغبتهم في صلب الأفكار، فهكذا سوف تعرف الأجيال القادمة من هم جلادو العهد الجديد وماذا كان مفهومهم الحقيقي للمفهوم الجديد للسلطة. أبا سفيان، لم يعرف المغرب أبدا مثل هذا العدد من المتابعات القضائية ضد الصحافة والتي وصل عددها إلى 36. ولم يسبق أبدا أن بلغت الغرامات مبالغ فلكية مثل التي بلغتها اليوم. بالنسبة إلى جريدة «لوجورنال إيبدومادير»، وصل المبلغ إلى 300 مليون منحت لصهيوني يحتفل بكل اغتيال جديد لواحد من الزعماء الفلسطينيين. في حالة «المساء»، تجاوز المبلغ الذي يطالب به.. وكيلان للملك الثمانمائة مليون سنتيم. أما بالنسبة إلى مجلتي «تيل كيل» و»نيشان»، هنا أيضا وصلت الغرامات مئات الملايين من السنتيمات، وهو ما لم يحصل أبدا في عهد الحسن الثاني وإدريس البصري. لقد بات من المؤكد أن الإصدار القادم من موسوعة غينيس للأرقام القياسية سوف يتضمن اسم بلدنا المغرب الذي حطم رقما قياسيا جديدا بإدانته لفؤاد مرتضى، صاحب قضية الفيسبوك، ومن خلال عدد القضايا التي تلاحق الجرائد ومنع بعض الصحافيين من الكتابة لمدة عشر سنوات وأكثر. صديقي حرمة الله، البعض يريد أن يرى فينا سلطة رابعة، نحن لسنا كذلك، لأنه لا وجود إلا للسلط الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، أما جعل الصحافة سلطة رابعة فهو اعتداء على الديمقراطية. نحن سلطة مضادة للسلطة التي تملكها الأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية، ودورنا هو أن نبقي على السلط الثلاث وممثليها تحت أعيننا طوال الوقت. وهذا هو الدور الذي لا يريد لنا النظام أن نقوم به، وأن نتحمل عواقبه. حسبت أنه بعد الرسالة التي وجهتها إلى الملك بشأن ما تعرض له طفلك الصغير سفيان، أن تحقيقا سيفتح وأنه سيتم الضرب على أيدي المسؤولين عن تلك المعاملة غير الإنسانية والمتوحشة في حق طفلك، لكن لا شيء من ذلك حدث، غير أنني أعرف أن سفيان لن ينسى أبدا ما حدث، وأن جيله بأكمله سوف يتعلم مستقبلا بما تعرض له. وهذا يكفيني لأن لا قيمة لأحكام الأشخاص مقارنة بأحكام التاريخ. صديقي حرمة الله، وأنا أخط إليك هذه الكلمات، لا يغيب عن ذهني أبدا أن أفراد القوات المسلحة الملكية، الذين يقضون الآن عقوبات سجنية لأنهم استنكروا ما اعتبروه ظلما واستبدادا، حيث انضموا إلى أديب والجلطي والزعيم الذين أصبحوا مفخرة الجيش المغربي. أبا سفيان إن اليأس ليس من شيمنا وليس السيف أصدق أنباء من الكتب وأخيرا أذكرك ببعض ما كنت قد كتبته إلى زميلنا المرابط حين كان يعيش محنته: في أجمل بلد في العالم تذبح الكلمات قربانا للآلهة في أجمل بلد في العالم يجلد الضحك قربانا للآلهة آلهة من لحم ودم في أجمل بلد في العالم هزمناهم لأن الحرية لا تهزم دخلنا بوابة الحياة من بوابة الموت ها نحن نرابط منذ خمسين عاما في حناجرهم قال المستشار للآلهة كمموا أفواههم ثم اقتلوهم بالجوع أو الظمأ أو بسيوف من خطوط حمراء تنحى شيعتهم وتبقى كلمتكم هي العليا في أجمل بلد في العالم يداس الإنسان وتقدس «العمارية».