يمسك أحدهم برأسه ويضعه فوق ركبتيه وينطلق في عويل وبكاء هستيري، أو يجيبك بشهيق وزفير منقطع النظير: «كلما تذكرت أنني كنت هناك إلا وألعن اليوم الذي فكرت فيه أن أسلك سبيلا انتهى بي أضحوكة من بعد عز وجاه، لكن انظر إلى حالتي اليوم لا أجد من يتصدق علي بسيجارة رخيصة أحرق بها ما تبقى من فسحة للتنفس»، يحكي نور الدين باسم مستعار، ولحكاية الأسماء المستعارة مع نظرائه حكاية غريبة، فكل من تعرض لمصير نور الدين إلا ويرفض إطلاقا أن يعرف الناس أنه مر من تجربة «الروفولي»، فمن هم فئة «الروفولي»؟ وكيف يعيشون بعد عز وجاه؟ وكيف رحلوا إلى المغرب؟ وما هي مجهودات إعادة إدماجهم وتأهيلهم في بلدهم الأصلي؟ المبعدون قسرا من أوربا في مثلث الموت الممتد من خريبكة إلى قلعة السراغنة مرورا بإقليم بني ملال، كلما سألت عن أحد عناصر «الروفولي» إلا ووجدته، تعددت أسماء المدن الأوربية إلا أن السبب واحد في إبعادهم من «نعيم أوربا»، هم «قلة قليلة بالنظر إلى العدد الكبير من المهاجرين، وهم يؤدون ضريبة الاغتناء السريع والفاحش دون التفكير في عاقبة ما ينتظره من ذل وهوان عندما يعود صفر اليدين إلى موطنه»، يقول خالد: «أفضل أن أعود إلى بلدي معززا مكرما وسالما من كل مكروه على أن أغامر مغامرة غير محمودة العواقب، وينتهي بي الحال منبوذا، لا يرق لحالي حتى أقرب المقربين مني». في صيف 2007، فوجئت دورية للأمن ببني ملال بجثة شاب معلقة بين أشجار الزيتون قبل أن يتم التعرف على صاحبها، «هو شاب من ضواحي بني ملال، اختار الانتحار على حياة الذل التي أصبح يشعر بها، كان لا يجد ثمن السجائر، وكان أهله فقراء لا يملكون ما يسدون به رمقهم، لذلك ربما ندم على أنه لم يستثمر وجوده بالخارج في ما ينفع أهله أو يسد به ضيق الحال، بعد أن طال مقامه مهاجرا وعاد إليها روفولي». «الروفولي» كلمة أصبحت مصطلحا متداولا للتعبير عن كل من أبعد من أوربا وأعيد إلى بلاده، ولن تتعب كثيرا لتجد أحد هؤلاء المبعدين، ومن كثرة ترديد هذه الكلمة أصبحت تنافس كلمة «الحريك» في نيل مكانة وسط الاستخدام اللغوي اليومي، «أصبحت كلمة «روفولي» لا تزعجني كما كنت سابقا، كنت أهم بخنق من يقولها في وجهي، واليوم من كثرة ترديدها أصبحت عندي عادية حتى أنني كلما سمعت شخصا ينادي بهذا المصطلح إلا ولبيت الدعوة اعتقادا مني أنه يقصدني»، يقول «عبد الرحمان س» الذي أبعد من إيطاليا قبل سنوات بتهمة المتاجرة في المخدرات الصلبة، مغامرات وتجارب عديدة تثير الاستغراب، وتبين كيف وجد عدد من المغاربة أنفسهم منخرطين في شبكات خطيرة من «المافيا» يجمع بينها هدف واحد، الربح السريع بأقصر الطرق. ومن خلال الحديث مع بعض العائدين قسرا إلى بلدانهم، يتبين أن هناك فئة قليلة تعتبر نفسها رحلت عن طريق الخطأ، فوجدت نفسها ضحية حملة عنصرية لم تفرق بين الصالح والطالح، خصوصا أولئك المهاجرين الذين لم يتمكنوا من تدبر أوراق الإقامة بأوربا، لكنهم فئة قليلة أمام العدد الكبير من ذوي السوابق في المتاجرة في المخدرات. معاناة ويأس مجالسة مجموعة من «الروفولي»، والحديث عن التجارب السابقة ليس بالأمر الهين، «كنت أنام طول النهار في الأيام الأولى وأستيقظ ليلا كيلا يراني أهل الدوار ويضيفونني إلى لائحة المبعدين، وسرعان ما وجدت حلا مؤقتا لأتأقلم، فقد اختبأت عن قريب لي أحرس له إسطبلا للأبقار بالليل مقابل علب سجائر»، يحكي جواد. ينقلك الحديث عن تجارب «الروفولي» إلى عالم من المغامرات الشبيهة بالأفلام البوليسية، يتحدث «عبد الرحمان س» عن تجربته بمرارة، «جربت كل أنواع المخدرات، سواء بطريقة الشم أو عن طريق التدخين بما يسمى «الستانيولا»، كنا نستعمل الكوكايين «كراك» أي عن طريق الشيشة، وكنت أصرف في استهلاك المخدر في الليلة الواحدة ما بين 500 إلى ألف أورو يوميا، وكنت أبيع أحيانا كميات يصل مبلغها إلى 300 مليون سنتيم في الليلة، خلال أربع سنوات استطعت أن أروج بضاعة بلغت قيمتها أربعة ملايير سنتيم من الأرباح»، يؤكد عبد الرحمان وهو يتحدث ل«المساء» أن «مالكي شركات كبرى من المدمنين كانوا يقصدونني للتزود بالمادة البيضاء، وعادة ما أفلست عائلات بكاملها بسبب الإدمان»، لكنه يجهش بالبكاء عندما يتذكر أن «كل تلك الأموال التي كنت أروجها ذهبت أدراج الرياح، ورحلت إلى المغرب مفلسا، والآن أعيش حالة التشرد»، قبل أن يختم بأنه يحمد الله «على أنني سجنت وعدت إلى أرض الوطن حيا أرزق، فلو بقيت على تلك الحالة لعدت إلى بلدي في صندوق خشبي جثة كما هو شأن من سبقني في هذا الدرب». الحديث عن الذين قتلوا وهم بإيطاليا أو إسبانيا سرعان ما يخبو بسرعة، إذ بمجرد ذكر سيرة المقتول تطوى الصفحة، «لم يقتلوه هدرا ربما أراد أن يتلاعب بالعصابات الخطيرة، كيف يريد البعض أموال «الغبرة» (الكوكايين) دون عواقب، من لعب مع الكبار عليه أن يتحمل نتيجة اللعب سواء بالخسارة أو الربح المصطنع»، يقول المصطفى الأستاذ بالتعليم الثانوي بالفقيه بن صالح، مستحضرا العديد من رفاق الدراسة الذين كان يعرفهم بمناطق مختلفة من الإقليم، خاصة بأولاد يوسف، عدد الوفيات المنحدرين منها بأرض المهجر 35 شخصا لم يعرف بعد مرتكبو الجرائم أو المصدر الحقيقي للوفاة بالخارج سوى علاقة من بعيد أو قريب بالمخدرات، أشهرهم ذلك الفتى ذو 15 ربيعا الذي احترف بيع المخدرات، وفي إحدى مطاردات الشرطة الإيطالية له ابتلع «بوستينة» علبة مغلفة بالبلاستيك من الكوكايين، لكن العلبة تحللت بداخل جسمه فأردته قتيلا. «يسهل سقوط الشباب في أيدي بعض المافيات في غياب فرص العمل والخوف من اللجوء إلى التسول بعد الفشل في تحقيق الحلم الذي هاجر من أجله، ثم الطلب المتزايد للعائلة لتسديد حاجياتها أو تسديد الديون التي تم صرفها في عملية «الحريك»، يلجأ البعض إلى المبيت تحت القناطر، أو داخل مساكن جماعية مهجورة، ليبدأ الشخص بتعاطي الكحول والمخدرات قصد تناسي الأوضاع التي يعيشها، فيتحول بعدها إلى مدمن ثم تاجر لتسديد مصاريفه، وغالبا ما يسقط في يد إحدى الشبكات، يصبح بعدها ملاحقا من طرف بعض المافيات، وقد يتعرض بعضهم للتصفية الجسدية بعد خلاف ولو بسيط مع شبكات المتاجرة بالمخدرات الصلبة»، يحكي «عبد الكريم ب» المهاجر بايطاليا، قبل أن يضيف: «المغاربة آخر من اقتحموا شبكات المخدرات بإيطاليا في بداية التسعينيات إلى جانب الألبان، وكان قد سبقهم إلى ذلك مهاجرون من عدة دول عربية كتونس ومصر، في حين يتصدر الإسبان والإيطاليون إلى جانب تركيا لائحة أكبر مروجي المخدرات في أوربا، وتبقى إسبانيا نقطة انطلاق معظم أنواع المخدرات، بدءا بالهيروين الذي يجلب من تركيا وباكستان (جودة غير مرتفعة) والكوكايين من كولومبيا والحشيش من المغرب وباكستان ليوزع بعد ذلك داخل التراب الأوربي». تعددت الوسائل هناك اليوم «روفولي» من نوع آخر أقل عددا من «الروفولي «السابقين، وهؤلاء يغامرون بأجسادهم وببطونهم الكبيرة، «لقد كان المغامرون سابقا يغامرون بأموال ضخمة لكن شبان اليوم سلكوا طريقا آخر، عن طريق تهريب الحشيش والكوكايين بطريقة «البلوط»، يحكي عبد المجيد المهاجر حديثا إلى إسبانيا، ويضيف شارحا: «يتناول المغامر كمية من الحشيش أو الكوكايين مغلفا بالبلاستيك ويقوم بتهريبها من مدينة إلى أخرى، ويتسلم مقابل كل غرام من الحشيش أورو واحد، و10 أورو لكل غرام من للكوكايين بعد أن «يتغوط» ويخرج الحشيش أو الكوكايين في فضلاته، ومنهم من يتناول أزيد من كيلوغرامين في الحمولة الواحدة»، الأمر لا يقتصر على الشبان بل يتعداه إلى الفتيات، يؤكد محمد متحدثا عن فتاة «أدخلت السنة الماضية سيارة فاخرة ذات دفع رباعي، ولأنها أقل عرضة للتفتيش فإن كبار تجار المخدرات يراهنون عليها». لكن كلما طور تجار الحشيش والمخدرات أساليبهم، تمكن الأمن من إعاقتهم، والنتيجة جيوش من «الروفولي» تضاف إلى جيوش العاطلين ببلدهم الأصلي، حيث «تشير بعض المعطيات غير الرسمية إلى أن قرية صغيرة كأولاد يوسف ببني ملال، التي لا يتجاوز عدد سكانها 3000 عائلة، يقارب عدد المبعدين قسرا «الروفولي» بها مئات الأشخاص. إطعام جيش بملعقة إبراهيم ذهباني مسؤول تنموي في برنامج «ألبمار»، ومسؤول عن مكتب بني ملال لجمعية أصدقاء وعائلات ضحايا الهجرة السرية، يصف حالة اليأس التي يكون عليها المبعدون من أوربا «الروفولي» أول الأمر: «كنا نجد صعوبة في إقناعهم بالانخراط في مشروع إعادة تأهيلهم وإدماجهم في مشاريع تنموية خاصة، لقد كانت تتملكهم أزمة ثقة بالذات، ومنهم من كان يقارن بين ما كان عليه وما آل إليه وضعه، فيحسر، فيتكرس عنده الإحساس بالعجز». لكن ظهر بريق أمل مع مشروع «ألبمار» الذي يروم تقديم المساعدة النفسية والاقتصادية والاجتماعية للمرحلين إلى بلدانهم، سواء من «الروفولي» أو من ضحايا الهجرة السرية، وذلك قصد إدماجهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية في بلدانهم الأصلية، ولأن إقليمي خريبكةوبني ملال ينحدر منهما عدد كبير من المهاجرين السريين العائدين أو من المبعدين من إيطاليا، فإن الضحايا والمبعدينمن هذه المدن يحظون بنصيب وافر من برنامج «ألبمار» الذي أحدث بمبادرة من جمعية أصدقاء وعائلات وضحايا الهجرة السرية بالمغرب، وجمعية «كوبي»، وهي منظمة إيطالية غير حكومية، بالتنسيق مع مؤسسات التكوين والإنتاج، يتلقى 250 مستفيد بين إقليمي خريبكةوبني ملال منحة التدريب التي تبلغ 1500 درهم لمدة ستة أشهر، مع إمكانية استفادة المتدرب من قروض صغرى توفرها الشراكة التي تقيمها جمعية أصدقاء عائلات ضحايا الهجرة السرية مع جمعية زاكورة، «لقد اندمج أغلب الذين استفادوا من فترة التدريب وإعادة التأهيل من عدة أنشطة اقتصادية، منها الحلاقة، تربية الأرانب، المطاعم، السقي بالتنقيط، تربية المواشي، تأهيل السائقين للحمولة الثقيلة (الشاحنات)، فالمشروع قدم لهم فترة من التدريب والتأهيل النفسي والاجتماعي والمهني، لكن أكبر تحد نواجهه اليوم هو كثرة الإقبال على المشروع في الوقت الذي توجد فيه لدينا فرص محدودة ومحددة ببرنامج سينتهي مع نهاية سنة 2008»، يقول إبراهيم ذهباني. لقد قدم مشروع «ألبمار» خدمة كبيرة ل«الروفولي» من أبناء المنطقة، خاصة من الذين عادوا من إيطاليا دون نتيجة تذكر، فعوض احتراف بعضهم للجرائم، وجد هؤلاء بصيص أمل بإقليمي بني ملالوخريبكة، لكن أمام السياسة التي نهجها الاتحاد الأوربي وبعد توقيع المغرب على عدة اتفاقيات تهم ترحيل المهاجرين سيزداد الوضع تأزما، وستضيق المقاهي التي تحمل أسماء مدن إيطالية وإسبانية بمرتاديها في الفقيه بن صالح، أو قاعات «البولينغ» في بني ملال أو مقاهي الدواوير كدوار أولاد يوسف، وسترتفع مؤشرات تعاطي المخدرات والسرقة والإجرام، وتضاف إلى لوائح «الروفولي» نساء تزوجن بهدف الهجرة، أو طمعا في زوج كان يملك أموالا كثيرة، فأعيد إلى بلاده كرها، وأطفال قاصرون هاجروا سرا، يجمع بين الجميع حلم واحد: العودة إلى نعيم أوربا والتخلص من جحيم الوطن.