تنهدت ثم استطردت قائلة وهي تسند رأسها إلى صدره: - أتعلم يا سيمو؟ منذ قدومي إلى كازا، مارست عدة مهن: عملت كخادمة في البيوت وتحملت إهانات السيدات وتحرشات الأسياد.. وعملت في الشركات وفي المحلات التجارية وزيد وزيد.. وكلهم ضيّعوني في رزقي، فها الذي «يحرث بي» طوال النهار وفي النهاية يرمي لي ب«جوج فرانك»، وها الذي ينكرني في رزقي ويرمي بي في الشارع كما يرمي بقشرة موز.. أما الآن فأنا على الحالة التي تراني عليها الآن. - أخبريني كيف تركت الدوار وجئت إلى المدينة؟ - أووه.. تلك قصة طويلة، قد طيّبت مسامعك بها منذ تعارفنا. - متى؟ لا أذكر أنك أفشيتِ لي يوما سرّا من أسرارك. رفعت رأسها ناظرة إليه باندهاش، ثم قالت: - الظاهر أن كثرة الشرب و«التبواق» بدأت تفقدك ذاكرتك. - ربما.. الحق أني لا أذكر.. أصبحت فعلا أنسى كثيرا هذه الأيام.. أتعلمين؟ إن حبك هو الذي أنساني كل شيء.. أنظري إلى ذقني.. نسيت أن أحلقه منذ أسبوع. - آه يا لسعادتي.. ما دام الأمر كذلك فسأحكي لك قصتي على الرحب والسعة. وبعد أن أشعل كل منهما سيجارته، وأفرغا ما تبقى من «الروج» في كأسيهما، عادت لتحط رأسها على صدره الكثيف الشعر، وانطلقت تحكي له... - أنا بدوية كما تعلم. قبل أن أبلغ سن الرشد، فرض علي أبي الزواج من رجل خشن في مثل عمره.. رفضت.. لكن أبي لا يتراجع عن كلامه أبدا.. وفي النهاية لم أجد من حل أمامي سوى الهرب من الدوار... - وإلى أين توجهت؟ - جئت مباشرة إلى هنا. - ولماذا كازا بالضبط؟ - كانت على لسان كل أهل الدوار.. ومن لم يأت إلى «الغْرْب» فكأنه لم يسافر قطّ، وكل من يريد التنزه أو تغيير الجو يسافر إليها. - وكيف استطعت التأقلم مع جو المدينة وأنت لا تعرفين عنها شيئا؟ تنهدت ثم قالت: - كان ذلك صعبا جدا.. في البداية مكثت عند امرأة نزحت من الدوار منذ زمن، أعطتني عنوانها إحدى صديقاتي في الدوار، وهي التي دلتني على عائلة اشتغلتُ عندها كخادمة... - هه.. يالك من شيطانة! - ولماذا؟ - أتذكرين يوم التقيتك في البار لأول مرة؟ لا زلت أذكر حين تسلمت مني العربون وتظاهرت بأنك تتوجهين نحو المرحاض لتخرجي من الباب الخلفي للبار... - أجل هاهاها.. يومها لم أكن أعرف أنك أكثر شيطنة مني.. فعلا كنت أنوي أن أستخدم معك حيلة «الخاوية في العامرة»، لكنك كنت ذكيا فلحقتَ بي وأمسكتني... - (قاطعها) أتعلمين يا السعدية؟ أنا وأنت نتشابه في كثير من الأشياء...