في كل مرة تبدأ إسرائيل مهرجان التقتيل في حق الفلسطينيين، تخرج كبريات الصحف العالمية بعناوين بارزة تدين المجزرة وتتساءل «ما السبيل إلى تجنب تجدد المجزرة؟» أو «يجب على الإنسانية ألا تسمح بمحرقة جديدة». لكن تلك الصحف ووسائل الإعلام لا تتحدث عن المجازر التي ترتكبها إسرائيل في حق الفلسطينيين، بل تعود قرابة ثمانين عاما إلى الماضي وتتحدث عما جرى في الحرب العالمية الثانية بين النازيين الألمان واليهود! لن نأتي بشيء جديد إذا قلنا إن هذا العالم منافق حتى النخاع، عالم يرى أحشاءَ أطفالٍ ورضعٍ أمامه مباشرة على التلفزيون، وبالألوان، ثم يحس بالرعب ويقول إن ما جرى في الحرب العالمية الثانية، بالأبيض والأسود، لا ينبغي أن يتكرر، وكأن إسرائيل تملك كل الحق في ارتكاب المحارق ضد الفلسطينيين لأن اليهود عانوا من المحرقة، وأن تدمير البيوت والمستشفيات والمدارس على رؤوس الشيوخ والأطفال لا يساوي شيئا أمام ما جرى لليهود قبل عشرات السنين، وأن أمراء الدم في تل أبيب من حقهم أن يفعلوا ما يشاؤون، فمهمتهم الرئيسية هي القتل وإراقة الدماء حتى ينفسوا عن أحقادهم… لقد كانوا ضحايا للنازية فمن حقهم أن يوغلوا دمارا وقتلا في الفلسطينيين. مشكلة إسرائيل هي مع نفسها أولا. هذا الكيان لا يعرف حتى الآن ما يفعله بحكاية «الهولوكوست» النازي ضد اليهود. في البداية، كان زعماء الصهيونية يتحدثون عن ستة ملايين ضحية، ثم خفضوها إلى ثلاثة ملايين، وفي النهاية استقر رأي الكثيرين منهم على المليون، لكنهم ظلوا يتلاعبون بالأرقام على هواهم حتى يرتكبوا ما شاؤوا من المحارق في حق الفلسطينيين بدون أن يجرؤ أحد على نهرهم. إسرائيل تعتبر النازيين الألمان عدوهم التاريخي، لكنها لا تصب انتقامها على ألمانيا التي تمنحها تعويضات سنوية كبيرة جدا منذ الحرب العالمية الثانية، بل تصب كامل حقدها على الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم فجأة يزدحمون في المخيمات أو يملؤون القبور بعد أن أصبحت فلسطين هي إسرائيل في لمح البصر. لقد أدى الفلسطينيون ثمن جريمة لم يرتكبوها، ولازالوا إلى اليوم يؤدون الثمن من دمائهم وأرواحهم. وقبل أيام، عادت من جديد حكاية المحرقة النازية ضد اليهود، عندما صرح نتنياهو بأن الزعيم الفلسطيني أمين الحسيني هو من كان وراء فكرة إحراق اليهود في الحرب العالمية الثانية، وهو ما جعل قصة المحرقة تكون موضع تساؤل داخل إسرائيل نفسها. لقد كانت تصريحات نتنياهو فضيحة حقيقية أرعبت المدافعين عن «المحرقة النازية» لأنه، فجأة وبدون مقدمات، نزع المسؤولية عن هتلر ووضعها في عنق الحسيني، مما جعل أعتى المصدقين لحكاية المحرقة يصابون بالدوار، والدوار عادة ما تكون له نتيجتان لا ثالث لهما، إما أن يتسبب في صداع أبدي أو أن يستفيق صاحبه ويستعيد وعيه الحقيقي. اليوم وضع نتنياهو العالم أمام مشكلة حقيقية، وهو من ارتكب المحرقة، والإسرائيليون كلهم يتساءلون: هل كان الزعيم الفلسطيني الحسيني يملك كل هذا النفوذ على ألمانيا النازية حتى يأمر هتلر بحرق اليهود؟ وأكثر من هذا أن هتلر انصاع لأوامر الحسيني ونفذ ما أمره به! إنها حكاية تشبه حكاية الجدات قبل النوم، بل تشبه أكثر تلك الحكايات السوريالية عن السلحفاة التي نافست الأرنب وسبقته أو الخروف الذي تعارك مع الأسد وانتصر عليه… حكايات ممتعة لكن لا أحد يصدقها. لكن أغرب ما في الحكاية هو أن الإسرائيليين يقولون عن المحرقة إنها بدأت في الثلاثينيات من القرن الماضي، وإنها استمرت في الحرب العالمية الثانية، بينما كان اللقاء الوحيد بين هتلر والحسيني سنة 1941. هناك حكمة مغربية بليغة تقول: «اتْبعْ الكذاب حتى لباب الدار»، ويبدو أن هذا ما يحدث بالضبط لأمراء الدم في إسرائيل الذين يجدون أنفسهم ضحايا لأنفسهم قبل أن يكونوا ضحايا للآخرين. إنهم مستعدون لتغيير رواياتهم للتاريخ في أي وقت يرونه مناسبا.. مستعدون لنزع المسؤولية من هذا ووضعها في رقبة ذاك متى استدعت الظروف ذلك. وعندما أطلق نتنياهو تصريحه الأخير فإنه فعل ذلك مباشرة من ألمانيا، حيث رأى أن الظروف يجب أن تدفعه إلى تخفيف العبء عن الألمان في حكاية المحرقة، فوضعها مناصفة بين هتلر والحسيني، أي بين مسيحي ومسلم، وربما يأتي يوم ينزع فيه الإسرائيليون مسؤولية «الهولوكوست» عن الألمان بشكل تام، ويضعونها بالكامل على عاتق الفلسطينيين، أما تفاصيل ذلك فليست مشكلة، فهم بارعون في قلب الحقائق إلى درجة مرعبة.