المغرب حاضر بقوة في الترشيحات لفئات السيدات لجوائز ال"كاف"    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    وزارة الاقتصاد والمالية: المداخيل الضريبية بلغت 243,75 مليار درهم عند متم أكتوبر 2024        في لقاء مع الفاعلين .. زكية الدريوش تؤكد على أهمية قطاع تحويل وتثمين وتسويق منتجات الصيد ضمن النسيج الإقتصادي الوطني    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    الذهب يواصل مكاسبه للجلسة الرابعة على التوالي    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب    استئنافية ورزازات ترفع عقوبة الحبس النافذ في حق رئيس جماعة ورزازات إلى سنة ونصف    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    مقتل 22 شخصا على الأقل في غارة إسرائيلية على غزة وارتفاع حصيلة الضربات على تدمر السورية إلى 68    ترامب ينوي الاعتماد على "يوتيوبرز وبودكاسترز" داخل البيت الأبيض    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية        اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    الفتيان يواصلون التألق بالفوز على ليبيا    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    الحكومة تتدارس إجراءات تفعيل قانون العقوبات البديلة للحد من الاكتظاظ بالسجون    بوريطة يستقبل رئيسة برلمان صربيا        ولد الشيخ الغزواني يهنئ الملك محمد السادس بمناسبة عيد الاستقلال    العصبة الوطنية لكرة القدم الاحترافية تقرر تغيير توقيت انطلاق ديربي البيضاء    توقعات أحوال الطقس لنهار اليوم الأربعاء    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية    تفاصيل نجاة فنانة مصرية من الموت        تلاميذ مغاربة يحرزون 4 ميداليات في أولمبياد العربية في الراضيات    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    روسيا تبدأ الاختبارات السريرية لدواء مضاد لسرطان الدم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتابة والسفر بين القراءة والشهادة.. كيف صاغ المبدعون المعاصرون رحلاتهم؟
نشر في المساء يوم 07 - 10 - 2015

1 – يأتي هذا الملف ليضيء العلاقة الرابطة بين السفر والكتابة، وذلك في سياق ما بات يعرف بالرحلات المعاصرة التي لم يتحقق إيلاؤها المكانة والاستحقاق الموضوعي. والواقع أن الملف حصيلة تجميع لأبحاث ودراسات قدمت ضمن ندوة أشرف عليها مختبر السرديات التابع لجامعة الحسن الثاني/ الدارالبيضاء، وعقدت تحت عنوان: «سرديات السفر»، حيث تولت نخبة من الباحثات الشابات قراءة التجارب الرحلية المعاصرة لكل من الناقد والمهتم بأدب الطفل العربي بنجلون، والروائي عبد العزيز الراشدي، والقاص والسينمائي محمد اشويكة، إلى الكاتب المصري أيمن عبد العزيز.
2 – إن ما أبانت عنه الدراسات، الدواعي التي أنجز بمقتضاها ووفقها السفر الذي يبقى في شق منه سياحيا، أو معرفيا، يستلزم استكشاف المكان الذي تحقق الحلول فيه، حيث المقارنة تفرض نفسها عن قصد، أو في غيابه. بمعنى أن ثنائية الأنا/ الآخر تظل حاضرة بهدف التمعن والتفكير في مسألة التقدم وما إن كانت تجمع بين الحداثة والتحديث. فالتمعن والتفكير وليد رؤية المثقف المبدع الذي يركز على دقة الالتقاط وضبط التفاصيل. إنها الرؤية الفنية الجمالية، وليست العادية التي ترى الأشياء بعيدا عن إثارة «قلق» السؤال.
على أن هذه الدراسات لم تكتف باستنطاق دلالات الدهشة، وإنما جسدت آليات الكتابة السردية المعتمدة في الرحلة، علما أولا بأن كتاب هذه الرحلات المعاصرة مبدعون تداولت أسماؤهم، وبالتالي فهم متمكنون من قواعد وجماليات الكتابة والتأليف التي لا يمكن أن تكون إلا سردية روائية، إذا ما ألمحنا لكون العديد من النقاد والدارسين يعتبرون أدب الرحلة نواة تأسيس جنس الكتابة الروائية، إذ أن العديد من الرحلات المعاصرة أنجزها روائيون راكموا آثارا تتفاوت مكانتها وقيمتها الأدبية: خليل النعيمي، إبراهيم عبد المجيد، يوسف المحيميد، حسونة المصباحي، عبد الكريم غلاب، شعيب حليفي، عبد العزيز الراشدي ومحمد اشويكة.
3 – إن الأمل والغاية من تقديم هذا الملف:
أ قراءة ودراسة الرحلات المعاصرة، واستحضار تلك المتداولة التي «قعدت» إذا حق لهذا الأدب : ابن بطوطة، ابن جبير، ابن فضلان وغيرهم، لتتم المقارنة وكشف جوانب التداخل والتقاطع.
ب رسم صورة أمام التلقي الواسع للاطلاع والتعرف على عينة من الرحلات المعاصرة.
ت تشجيع الدارسين والدارسات المغاربة الشباب، في محاولة لتوسيع قاعدة الكتابة والتأليف والاهتمام، وإن كان شرط القراءة والممارسة يؤخذ بعين الاعتبار.
السفر نحو الآخر عند أيمن عبد العزيز
لمياء جوهري
الكتاب الذي سنعرضه «المغرب في عيون مصرية. أسطورة المكان والنساء والتاريخ الحي» للكاتب المصري أيمن عبد العزيز، يصنف ضمن الرحلات السياحية. فإذا كان لكل كتاب قصة، ولكل رحلة قصة، فإن لكاتبنا قصة سفره التي جعلها قصة كتابة، حيث إن كل رحلة تثوي خلفها دوافع وأهداف لشق طريق الارتحال. وأيمن عبد العزيز يبين مقاصد رحلته كالتالي: «كانت رحلتي الأولى وفاء لنذر نذرته منذ سنوات، فبعد أن قابلت أول فتاة مغربية أحببتها، عاهدت نفسي أن أزور المغرب في الوقت الذي تسمح فيه الظروف، لأرى إن كانت تلك الفتاة نتاجا طبيعيا لبلد وثقافة متميزة ومختلفة عنا في مصر أم أنها كانت قصة استثناء وضعت الأقدار كل منا في طريق الآخر. من هنا بدأت قصتي كما بدأت قبلها قصص كثيرة وستبدأ بعدها قصص أكثر، وكل رحلة قمت بها للمغرب كان وراءها بالأساس امرأة…».
صورة الآخر في الرحلة السياحية:
إن الآخر حاضر في ذواتنا بالفعل والقوة، فلا يستطيع نفينا، باعتبارنا ذواتا وأنوات أخرى، ولا نحن بدورنا ننفي حضور الآخر فينا. فالذات رهينة بشرط وجود آخر ليكتمل الحضور. ومن ينفي آخره ينفي ذاته.
إن الآخر إشارة إلى كل ما هوغير النفس المستقلة، بمعنى كل ما هو غير نفسي. وتحديد الآخر يتعلق تبعا بموقع الناظر إليه، أي أن الموقع الذي يحدده الإنسان لنفسه، الفرد والجماعة، هو بدوره الذي يحدد الآخر، وباختلاف المواقع يختلف الآخر.
خرج أيمن عبد العزيز من وطنه بحثا عن آخره، وقد جسده واختزله في أنثى، النصف الآخر لأناه. إذ إن رحلته السياحية كانت سفرا لمعرفة هذا الآخر. ومنه تطرح الصورة إشكالات ترتبط بمسألة الهوية، خاصة أنه في الذهنية العربية التصق مفهوم (الأنا والآخر) بالشرق والغرب، لكن كاتبنا يدعو قراءه إلى التعرف عليه، بما هو هوية عربية ومجتمع مغربي يتفرد بخصوصياته العرقية والفكرية الثقافية والجغرافية. إنه المغاير للأنا المصرية ذات الهوية العربية بخصوصياتها الثقافية والفكرية. ومن ثم نسائل النص:
– هل الأنا والآخر العربيان متناقضان؟
– كيف تنظر الأنا العربية إلى آخرها العربي؟
– ما هي تجليات الصورة التي كونها هذا المسافر عن الآخر؟
إن العنوان «المغرب في عيون مصرية» يشير إلى جدلية (الأنا والآخر)، وبطريقة أخرى نحور العنوان ونقول إن أيمن عبد العزيز يتساءل:
– كيف يرى المصري المغربي؟ أو كيف تنظر الأنا المصرية إلى آخرها المغربي؟ أو كيف هو الآخر بالنسبة إلي أنا؟
سنقف عند هذا الآخر باعتباره متعدد الدوائر ومتنوعها، فهو إنسان وعنصر أساس في بلورة فكرة الهوية، بحيث يتم تشكل القيم والأعراف والاختلافات بين الشعوب، انطلاقا من القياس والمقارنة بين الأنا والآخر.
الأنا والآخر تشابه واختلاف:
فتحت الرحلات عموما نافذة عن الأنا يطل منها على الآخر، فجل الرحلات التي قام بها الرحالة تعد سجلا عن أحوال الأمم ووثيقة للرؤى والتصورات حول المجهول ثقافيا ومعرفيا.
– فهل الآخر مختلف تمام الاختلاف مع الأنا أم يتقاذفان معا نفس الكرة، لكن باحترافية كل لاعب في تحصين مرماه؟
– هل الآخر نتاج عقلية وثقافة متميزة ومختلفة؟
سافر أيمن عبد العزيز من مصر إلى المغرب سفرا نحو الآخر المغربي عموما لكشف خصوصيات هذا البلد الذي يتشابه ويختلف في الآن مع الأنا. وبالتالي سعى إلى اكتشاف مدى التوافق والتناقض مع طبيعة الآخر الذي يقربه ويبعده.
ونجد من الملاحظات التي سجلها أيمن، وهو يستجلي صورة الآخر من خلال الاحتكاك به في الساحة المغربية، أن طريقة تعامل الإداريين في مصالح الشؤون القانونية تختلف بين المغرب ومصر، إذ أثنى كما عقب في الآن ذاته على جهازهم الإداري في مصر، ونال من الجهاز المغربي الذي له تعاملات مستفزة تجاه المواطن. يقول في (ص46): «لاحظت وتألمت جدا لانتشار الرشوة لتمرير أي معاملة رسمية في مصلحة أو إدارة أو وزارة بشكل منفر جدا.. وهو ما جعلني أفتخر بأداء الجهاز الإداري في مصر… رغم أننا نعتبره متخلفا ومليئا بالمفاسد.. حتى لو علا صوتك بالشجار مع هذا الموظف أو ذاك فيمكن بعد دقائق أن يتراجع الموظف عن موقفه وتحصل منه على ما تريد، عكس المغرب الذي لا يمكن تمرير أي معاملة مهما كانت بسيطة إلا بعد دفع معلوم..».
ومن المفارقات أيضا بين بلده والمغرب أنه سجل إعجابه بثقافة المغرب، وكيف أنه البلد الذي يرفرف فيه العلم في أي مكان، وحتى المغاربة فخورون بولائهم الفائق له، عوض المصريين الذين يهمشون اهتمامهم به، يقول في (ص60):
«…تشاهد علم المغرب مرفرفا بفخر وشموخ تتداعى إلى الذهن صورة العلم المصري الذي يندر أن تلاحظ وجوده في الأحوال العادية وإن وجد تجده غير ظاهر إما لصغر حجمه أو لاختفاء وبهتان ألوانه بفعل الزمن والتلوث».
كما لاحظ تشابها في بعض العادات، التي لا تختلف عن الثقافة الشعبية لكلا البلدين، يقول في (ص)155: «صليت الجمعة في أحد المساجد… مثلما هو الحال في مصر ينتشر بعض الباعة المتجولين حول المسجد عقب صلاة الجمعة مباشرة…».
وخصص أيمن عبد العزيز بابا يقارن فيه بين مفردات اللهجة المغربية وما يقابلها بالمصرية، وجعل هذا العمل، أي جمع المفردات المغربية، دليلا مختصرا لفهم اللهجة، وتقريب الآخر للتواصل مع الشعب المغربي. وعلى ذكر اللهجة، صادف الكاتب في سفره موقفا من أحد الشباب المغاربة المتعصبين للهجة المغربية، وعدم تقبله لفرض الآخر لهجته المصرية عليه وفي بلده. ورد هذا القول في (ص40): «..بينما أتكلم مع صديقي باللهجة المصرية بصوت غير مرتفع إلا أن سيدة مغربية كانت تجلس أمامنا عرفت من حديثنا أننا مصريين وتبادلنا معا بعض الكلمات مما أثار حفيظة وغضب شاب.. فهمت من كلامه لتلك السيدة أنه يستنكر عليها التحدث معنا بلهجة مصرية دون أن نتحدث نحن بالمغربية». وكثيرة هي المحطات التي وقف عندها أيمن عبد العزيز، فصور الاختلافات التي تخلق الهوة بين الأنا والآخر، وكيف أن هذا الآخر يشكل إما مصدرا للخوف وعدم الثقة أو مصدرا للأمان والمساعدة والمساندة في رحلة السفر.
وحاول الكاتب رصد صورة الآخر من خلال رسم واقعي، وليس انطلاقا من مرجعيات مسبقة أو صور جاهزة، بل من رؤية واقعية لما ترصده تجربته اليومية واحتكاكه بسكان المغرب بعيدا عن التعصب. ومن ثم حاول أن يؤسس صورة الآخر مقارنة والأنا، ثم بناء وعي للذات يقوم على فهم البقية لبعضها، وكل ذات لذاتيتها تحقيقا لشرط التفاعل رغم الاختلاف، كما عمل على إعطاء صورة عن الأنا المصرية بالنسبة لتمثلات الآخر. يقول: «بطبعي أراعي أن أتصرف بحرص وحذر وبطريقة محترمة مع الجميع وبشكل خاص مع الأشخاص الذين لا أعرفهم جيدا… وعندما أكون خارج مصر أتصرف وفي ذهني دائما أن أترك أثرا طيبا كمثال على الشخصية المحترمة المتحضرة…».
تبقى هذه الرحلة نموذجا للرحلات السياحية، القائمة على دقة المقارنة.
الأنا والآخر في أسفار العربي بنجلون
خديجة الزاوي
يتمحور كتاب «أن تسافر» حول السرد الرحلي محتضنا بين دفتيه مجموعة من الأسفار التي قام بها العربي بنجلون نحو الدول العربية والغربية ثم الآسيوية، مستأنسا بعمق التجربة ومعتمدا على عنصر الذاكرة، فبعض هذه الرحلات كتبت في عين المكان، وبعضها الآخر كتبه المؤلف حين عودته إلى الوطن، فكانت غايته الأولى اكتشاف دول لم يزرها من قبل أو هي دعوة من اتحاد كتاب، أو وزارة أو مساهمة في ندوات ثقافية.
تندرج هذه الرحلات ضمن السير الذاتي بوصفها سردا حقيقيا لتجربة عاشها المؤلف، فهو يحكي أحداثا حقيقية ويصف أماكن وأشخاصا صادفهم أثناء رحلاته، فتراوحت مواضيعها بين ما هو ديني ثقافي سياسي واجتماعي حيث تمتزج الأحداث بين الوصف والسرد وبين الحكي والتشخيص. وارتأى العربي بنجلون تصنيف كتابه ضمن الرحلة المعاصرة مع وصفها بأنها فن سردي يتخذ السفر موضوعا له، وليس تدوينا تاريخيا وجغرافيا صرفا بعيدا عن الأدبية.
تعكس رحلات العربي بنجلون مجموعة من القضايا الجوهرية التي شيدت فضاء السرد الرحلي.. ولعل من أهم القضايا التي توقفنا في رحلات بنجلون نجد:
جدلية الأنا والآخر، إذ تعد مسألة عريقة في تاريخ الفكر البشري، وأصبحت أكثر حضورا في النصوص الرحلية، فرحلة الأنا إلى الآخر هي محاولة لاكتشاف الذات واكتشاف الآخر الذي يعكس هوية ثقافية وإيديولوجية مختلفة، كما يحيل على الوعي السائد في كل بلد.
صورة الآخر العربي:
قدم بنجلون صورة الإنسان العربي في تجلياتها الإنسانية والأخلاقية، كما سعى من خلالها إلى إبراز القيم التي تستند إلى مبادئ عربية وإسلامية، وهو وعي أفرزه الكاتب تجاه الآخر العربي الذي يسوده الانبهار المتواصل، منذ بدء الرحلة، وذلك لما رآه في المدن العربية من مآثر حضارية في مصر، ليبيا، الكويت، الأردن، البحرين، ثم قطر، ولم يجد لها ما يماثله أو يضارعه في بلد آخر. فأبرز بنجلون مجموعة من المشاهد التي باغتته أثناء رحلاته، راصدا المنجزات التي يحتفي بها كل بلد، ليضعنا أمام مقارنات كثيرة تظهر انبهاره واستغرابه، منها سخاء الإنسان الإسكندراني، يقول: «الإنسان الإسكندراني لم يتغير طبعه، برغم مرور السنين فمازال سخي اليد، باسم الوجه، عذب اللسان، وسواء كان عاملا بسيطا أو موظفا ساميا». كما أظهر إعجابه بالمكتبات والمسارح والفضاءات الثقافية التي تحتفل بها القاهرة وأبدى اندهاشه من الأردن، حيث المقاهي والمطاعم لا تقتصر على الأكل فقط، بل تتجاوز ذلك إلى لقاءات ثقافية وقراءات في مكتبات خاصة.
صورة الآخر الآسيوي:
عرض المؤلف مجموعة من المقومات التي جعلت الآخر الياباني متفوقا في ميادين مختلفة، حيث وقع في دوامة الدهشة والانبهار الشديدين، واعتبر أن طوكيو مدينة متجانسة مع الثنائيات الضدية، لأن الإنسان الياباني لم ينس تاريخه وحضارته، وفي نفس الوقت هو مواكب لعصره الحاضر وما يفرضه من تطور علمي وتقني وتحديث فكري يشيد بالنظام السائد.
صورة الإنسان الأوربي:
تحدث المؤلف عن مدى انبهاره واندهاشه من المكتبات، فقدم صورة الآخر المنظم، إذ يعقد مقارنات يبين فيها سبب تقدم الدول الغربية، وكيف تخلفت الدول العربية، فكانت نظرته تتراوح بين الانبهار والرفض، أي رفضه عقلية الإنسان الغربي، قائلا: «أعرف كيف تساوي عقلية الغربي الشرف والاحترام والإخلاص والبغاء والدعارة والعهارة كما تساوي بترسانتها الحربية البرية والجوية والبحرية…». فينطلق الكاتب من مظاهر الاستهتار الأخلاقي وانحطاط كرامة الإنسان، حيث يقول: «فبقدر ما يمتلك الغربي ترسانة من الحقوق بقدر ما يوظفها في مجالات حاطة بإنسانيته وكرامته»، مضيفا أن الغربيين في حاجة إلى تلقين أجيالهم القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية. ويمثل لذلك حينما يصف برلين بأنها مبهرة، لكنها تصدم الآخر بشحوب وجوهها وذيول عيونها، فرغم تقدم ألمانيا علميا وثقافيا وصناعيا، ورغم ضمانها حقوق الإنسان، فمازالت تعاني مشاكل شتى كظاهرة التشرد وغيرها من الظواهر الاجتماعية. كما تساءل المؤلف عن كرامة المرأة، حيث يتحول جسم المرأة إلى سلعة، فاعتبر أن برلين تجمع بين النقيضين، وتجلى ذلك من خلال قوله: «فهي فقيرة من جهة ومن جهة ثانية جذابة». ورغم العناية الفائقة بالثقافة والموسيقى والتشكيل والآثار فإن سلوك البرلينيين فظ. أما في فرنسا فقد استغرب المؤلف للوجوه الشابة التي كانت تؤثث المشهد السياسي، فتفكير الفرنسي يتمحور حول التوحيد ولملمة الشمل، أما العربي فهو يفكر في التفريق، وعلى إثر ذلك قدم صورا رافضة للآخر قائلا «إن الغربي لا يرى الصداقة الحقة إلا في ما يجنيه من مصالح… وإن كانت لرحلتي فوائد فهي أنني أدركت بنفسي وتأكد لي أن الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا إلا إذا ذاب أحدهما في الآخر». وهذا الشاهد تمثيل قوي عن الاختلاف بين الشرق والغرب. فمصالح الدول الغربية تطغى على المواقف السياسية والإنسانية، حيث لم تهتم بالقضية الفلسطينية وغيرها من القضايا التي تمس العالم العربي، لذلك أسس السارد لعالم سردي تحكمه العلاقة بين الأنا والآخر وتوجهه رغبة الاكتشاف، واستدعاؤه تفاصيل حسية وواقعية ينتقل من خلالها من نسق إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، فقد رسم بنجلون لوحة تمتزج فيها صور مختلفة، حيث تدخل الأنا في علاقة مع الآخر وتتماس مع الواقع. وكما لاحظنا، فإن الآخر أصبح محط انبهار أحيانا ومحط رفض (أي رفض مظاهر الاستهتار كالسلوكات الأخلاقية والقيم الإنسانية). فرحلة الأنا نحو الآخر هي محاولة اكتشاف الذات واكتشاف الآخر الذي يعكس هويات ثقافية وأوعاء مختلفة.
ويمكننا القول في النهاية بأن أسفار العربي بنجلون قدمت مجموعة من الصور تشمل المزاوجة بين الوظيفة السياسية والثقافية والاجتماعية، ففي بعض المواقف عبر عن إعجابه بالآخر، وفي أخرى كان رافضا محتكما لمجموعة من القيم الإنسانية والأخلاقية، مبديا مظاهر تحفظه من أوربا، فاستطاعت هذه الرحلات أن تقدم مستويات العلاقة مع الآخر، سواء العربي أو الغربي أو الآسيوي، والتعبير عن إيديولوجيات مختلفة.
الآخر في يوميات سندباد الصحراء لعبد العزيز الراشدي
ياسمين سدري
لا بد في البداية من التأكيد على بعض المعطيات المتصلة بالجنس الرحلي باعتباره جنسا يتناسل ويتشكل باستمرار، حاملا لتجارب وخبرات يمتزج فيها اليومي بالمتخيل. ويعتبر القرن التاسع الميلادي بداية التأريخ للرحلات العربية المكتوبة، إذ تنوعت الكتابات الرحلية في مجالات متعددة في التاريخ والجغرافيا وفي الأدب والخدمات السفرية، لذا فالرحلة تعد من أولى الأشكال التعبيرية والأكثر انفتاحا على كافة الحقول وبأشكال مكتملة أو جزئية. لقد اعتبرها فلاديمير كريزنسكي بطبيعتها متعايشة ومشاركة للتاريخ والميثولوجيا والأدب دون الحديث عن الإثنوغرافيا.
ويعد مؤلف «يوميات سندباد الصحراء» لعبد العزيز الراشدي عملا وفنا نوعيا امتزجت فيه القضايا الحابلة بالرموز والدلالات التي تدور رحالها حول الأنا والآخر. ولعل هذا أيضا ما سعى إليه أدب الرحلة في الثقافة العربية منذ قرون عديدة، حيث ركز على نقل صورة عن الآخر (الغرب) كآخر مغاير وكصورة معكوسة عن الأنا.
ومؤلف «يوميات سندباد الصحراء» لم يخرج عن هذا المألوف، ففي نصوصه الرحلية القصيرة كشف عن مكنونات الذات في علاقتها المزدوجة بين العربي والغربي، وهذا ما سأركز عليه في ورقتي التي ستتناول قضية علاقة الدهشة بالكتابة باعتبارها قضية أولى، ثم قضية الآخر ودهشة الذات، والقضية الثالثة قضية الآخر وصدمة الذات، وأخيرا علاقة الكتابة بالصورة.
أبتدئ بقولة عبد العزيز الراشدي: «كان الوجل والارتباك يأخذانني في الركوب، الآن تغيرت أخاف أن أفقد دهشتي مع الوقت وأفقد ماء الكتابة». فهذه القولة تبرز لنا مدى علاقة الكاتب بالدهشة وعلاقة هذه الأخيرة بالكتابة، إذ أن الكتابة وليدة الدهشة، ففي نظر الكاتب الدهشة من الآخر الغريب والمختلف واللاعادي الذي يحاول كتابته بطريقة مناسبة، وعفوية في صورة شكلت نصا رحليا يعكس شغف الذات بالصورة.
إن الرحلة إلى سويسرا، التي تشكل عنوان النص الأول، تكشف من الوهلة الأولى الدهشة التي تمتلك الذات بوجود الآخر كأنا، رغم ما شعرت به الذات من اعتيادية وألفة وهي تكتشف مطار جنيف. هذه الاعتيادية التي كانت سببا في خوف الذات من فقدان دهشتها كان وراءها اعتياد الكاتب السفر، بل التمرن عليه، يقول: «فقد تمرست، واعتدت، المسارات تأخذني إلى ما تشاء»، لكن تلال أرض سويسرا المخضرة والمنازل الصغيرة المصنوعة بعناية والسيارات الصغيرة والطرق الجيدة ترفع ذهن الكاتب وتدعه سارحا في عالم دهشته إلى أن تأتي صوفي لتعلمه بوصوله إلى بلدة لافيني حيث ستكون إقامته. تقلق الذات من حين إلى آخر وهي تغير المكان، يقول: «شعرت بحزن خفيف ولَّده المكان الجديد كعادتي مع كل مكان». ولعل هذا القلق ناتج عن الدهشة من هذا الاختلاف القيمي والمعرفي وحتى التنظيمي الذي نال إعجاب الذات، وهذا الإعجاب تولده الدهشة التي قال عنها حتى أرسطو «إن الدهشة هي أصل الفلسفة» لتكون في هذا النص الرحلي أمَّ الكتابة.
لقد أعجبت كريستين الفرنسية بالتنظيم الجيد لأمور الحياة في سويسرا، أما مارسيلا الأمريكية فقد أثارها الأمن الذي يسود سويسرا، أما البولندي فقد أغرم بالنبيذ السويسري، في حين أعجبت شيري الإيرلندية بالحياة الهادئة التي فتحت لها مجال الكتابة، أما كاتبنا فقد أعجب بكل شيء، يقول: «وأنا معجب بكل شيء، بالنظافة، والأمن، وما يدور في الفلك». وهذا يدل على أن كل شيء هناك بدا للكاتب غريبا.
من الدهشة في النص الرحلي إلى سويسرا إلى صدمة الذات في النص الرحلي الثاني «خريف باريس»، فرغم جمال باريس، فإن الكاتب سيشعر بالألم، يقول: «لقد ابتكرت كلمة الهملسة، فلم تعد باريس بالنسبة لي مدينة الأنوار، بل أصبحت مدرسة الألم رغم جمالها البرّاق المفزع». لقد راع الكاتبَ مظهر المتسولين والمتشردين في ذاكرته عن المغرب. إنها صدمة الذات من الوجود الغيري في باريس. نفس أساليب التسول في الحافلات، ما جعل الكاتب يتساءل عما إذا كان حقا في ميترو باريس، أم في حافلة تربط بين الرباط وسلا، لكن تعود الذات من ذاكرتها وهي تشعر بالألفة، خاصة أن هذا الواقع لا يختلف عن واقع موطنها الأصلي.
هكذا تتبدى من خلال الرحلتين علاقة الأنا، باعتبارها وعيا فرديا منشغلا بمصالحه ومنحازا لذاته، كما جاء في معجم للاند، أو تلك الذات العاقلة القادرة على العودة إلى ذاتها كما عبر عن ذلك معظم الفلاسفة، والغير باعتباره الأنا-الآخر، الشبيه والمختلف، القريب والبعيد، الصديق والعدو. إنها الأنا التي ليست أنا وليست إياه كما عبر عن ذلك سارتر، والتي تتسم بكونها علاقة اكتشاف، وعلاقة عودة تفتح أفق مساءلة الذات والماضي، ليشكل بذلك الغير معبرا عن طريقه تكتشف الذات ذاتها، ولعل هذا ما عبرت عنه فاطمة المرنيسي بقولها: «إن أثمن متاع يملكه الأجنبي هو اختلافه»، إذ ركزت على الاختلاف واللاتشابه، حيث تغدو معرفة الآخر اكتشافا مزدوجا، واكتشافا لعالم آخر.
لقد امتزجت القضايا في ذات عبد العزيز الراشدي وكأنه يعيش حيوات متعددة في حياة واحدة، فهناك ذات الأديب وذات الرحالة، وذات الإثنوغرافي، فالرّحالة مكتشف لأنحاء الأرض وواصف لأقوام البشر ومبرز لحقائق تاريخية عظيمة، والإثنوغرافي يهتم أساسا بوصف طبائع البلدان وخصال أهلها وأسلوب حياتها.
إن الصورة تشكل في هذه اليوميات حافزا أم محركا قويا لدهشة الكاتب التي ترميه بين أحضان الكتابة، والدليل أنه حينما تسربت إلى عالمه الألفة، لم يكتب إلا قليلا، وهذا ما عبر عنه في نص «هواء بيروت» قائلا: «لم أكتب الكثير من الأمور عن بيروت في زيارتي الأخيرة، أصبحت الألفة تتسرب إلى الرّوح». لهذا لاذ إلى الصمت والسكوت والإنصات، ولكن في مدينة إنزكان تهاطلت الصور وانسابت الحروف لتتجسد الكتابة التي تتيح له حياة من نوع آخر، فمن الصورة إلى الكتابة يتشكل النص الرحلي الراشدي، وهو في مدينة إنزكان وفي صيفها وعلى نغمات موسيقية على رشفات القهوة، يقول: «ترتدي اللغة طراوتها ويبلغ النص أشده، فاللغة لعبته، والكتابة وجودها الأصلي والصورة روح الكتابة».
يمكننا تصنيف النصوص الرحلية للراشدي إلى رحلة داخلية ورحلة خارجية، فالأولى تذكر حديثه عن مراكش وأكادير وإنزكان، أما الثانية فتتجلى في حديثه عن رحلته إلى سويسرا وفرنسا والقاهرة ولبنان وسوريا وعمان، التي تشكل فضاءاتها العلاقة الحميمة بين الأنا والمكان، والمطر، والحب والصورة، وأخيرا بين الأنا والكتابة كفعل متألق تمارسه الأنا التي لا يمكن أن يكتمل نضجها إلا عن طريق التجربة الفردية فقط، بل إنها تتشكل وتنضج بانفتاحها على تجارب الغير وصوره.
السفر وإشكالية الانكتاب
محمد اشويكة
الكتابة سفرٌ متعدد، فهي تتيح للذات الكاتبة مغادرة عقالها للإبحار في عوالم الخيال واللغة والحلم.. ومن هنا فالسفر مغامرة وارتماء في أحضان المجهول؛ إذ من الصعب جدا أن يكتب الكاتب ما رآه بالضبط، وأن يصف مشاهداته عبر دلائل اللغة لأن الانفلات ميزة السفر والكتابة معا.
تطرح الكتابة حول السفر إشكالية الانكتاب، فما يسمى الرحلة يظل حاملا لبصمة صاحبه وهمومه وانشغالاته، ومهما حاول أن يكون موضوعيا يظل غارقا في تفاعلاته مع ما حوله رغم الاستعانة بالتاريخ والدلائل والخرائط.. قد نظن أننا نسافر في الأرض أو إلى ما سواها، ولكننا نغترب في ذاتنا: نغادرها ونعود إليها…
يستفز السفر الكتابة ويجدد آلياتها لأن تبديل «المحَال» من تبديل الأحوال، وتغيير الوضعيات من دواعي التأمل واستدعاء الخواطر المنسية، والذكريات المتقادمة بفعل انحباس طاقة التجدد. إن التنقل من مكان إلى آخر يبعث على استنهاض الطاقة الكامنة في أعماقنا، تلك الطاقة التي تحتاج إلى محفزات غير تلك التي اعتادت حواسنا وعقولنا التعامل معها وإلا فَلِمَ يتجدد المرء بفعل كل ما هو سَيَّار ومتغير؟
أعتقد أن الكتابة لا تتطور إلا بفعل سفرنا نحو ذوات وثقافات وحضارات وتضاريس أخرى.. فالتثاقف عمليةُ سفر تزودنا بِمَعِين الحياة ونسغها. السفر تجديد للذات، والناس، والعلاقات.. واكتشاف للتناقضات التي يمكن أن تحجب عنا الحقائق، فغالبا ما يخلق الإنسان الألفة التي من شأنها أن تطمس كل الاختلافات الحاصلة فيما بينه وبين الآخرين، بل هناك من لم ينتبه إلى أن السفر كتابة مضادة للكتابة ذاتها، فقد اعتدنا أن الكتابة تتحقق عبر النص، في حين أن ما يستطيع الكاتب إخراجه عبر النصوص لا يشكل إلا جزءا يسيرا مما يفكر فيه وهو يسير ويخترق الآفاق، سواء بفعل عملية الترحال أم التأمل، فحينما نكتب يتعطل السير، أما حينما نسافر فلا يتوقف حبل التأمل: ترى أيهما أجدر بالاهتمام؟
يثير السفر فينا شهية الاكتشاف فلا نعبأ بالإرهاق الذي يصيب البدن، لذلك نرى بأن السائح يُغَالِبُ التعب والنوم سعيا للبحث عَمَّا لا يراه وكأن الماثل أمام ناظريه لا يقنعه، وليس حقيقيا. السياحة نظرة جامحة لما حولها. نظرة فضولية. نظرة تتسم بالجشع والطمع فيما لا يظهر وينجلي…
لكل مسافر مبتغاه.. نسافر قصد عمل.. من أجل شخص.. لاكتشاف مكان.. ولكل مسافر ما نوى…
أحمد لمسيَّح: كُنتُ مُجرَّدَ صَدًى للِسِّياسِيّ
قال: ما عجزت عن تحقيقه في الفصحى أحققه في الدارجة
أحمد لمسيح، زَجَّالٌ مغربي، أو هكذا اخْتارَ أن ينتمي للكتابة الإبداعية. فهو تركَ الكتابة بالعربية، التي كان أصْدَرَ فيها ديواناً واحِداً، لم يَعُد بعدَه إلى الكتابة بالعربية، بل تَفرَّغ كُلِّيَةً للعامية، وراكَم عدداً من الدواوين، التي أصبحت بين الكتابات التي حَرِصَ فيها لمسيح على الخُروج حتّى من الصُّورة القديمة التي كانت فيها السِّياسة تأكُل كُل شيء، وتظهر هي وَحْدَها في الصُّورة، فيما الشِّعر يبقى خارج الإطار. اختار السي أحمد أن يكتُبَ، رغم أنَّ العامية هي لغة تعبير شفوي، وليست لغة إملاء وتدوين. وهذا الاختيار، كما يفضح لمسيح نفسَه بنفسه، هو نوع من الامتنان للعربية، التي أكَّدَ أنَّه لم ينجح في الكتابة بها، لكنه، وهو يكتب بالعامية، حاوَل أن يُفَصِّحَها، أو جعلها تغتني بالشِّعر الفصيح. ولمسيح واحد من رواد هذه القصيدة، التي أصبحت اليوم تَجُرُّ خلفَها أجيالا من الزَّجَّالين ممن وَعَوْا بصورة دقيقة أنَّ الإبداع غير مشروط بلغة دون أخرى، أو بتعبير دون آخر، بعيداً عن اللَّغَط الأيديولوجي، الذي حَاوَل أن يخرج بالعامية عن سياقها الشعري الجمالي، ويستثمرها في دعواتٍ مغلوطة، تقصد إلى التشكيك في تاريخ اللغة العربية، وفي قدرتها على الحياة، وعلى التَّجَدُّد، الذي هو من صميم اللغات الحيَّة، حين تجد نفسَها في قلْبِ كتابة وإبداعٍ حَيَّيْنِ.
حاوره – صلاح بوسريف
– ما الذي حَذا بك إلى الخُروج من الكتابة بالعربية الفُصْحَى، التي أصْدَرْتَ فيها ديوناً واحِداً، هو «الرياح التي تأتي» 1976، وتفرَّغْتَ تماماً للكتابة الزَّجَلِيَة؟ هل لذلك علاقة باللغة، أم بتصوُّرِك لمفهوم الكتابة، أم لموقف ما من اللغة نفسها؟.
أعرف أن حواري معك سأستفيد منه أنا أوَّلاً، قبل أن يُفِيدَ القارئ. هذا السؤال يجعلني أحس كأنَّنِي في بداية وفائي للكتابة بالعامية، فأنا كنتُ غافلاً عنه. لماذا؟ لسببٍ قد يبدو غريباً، هو أنني كنتُ أعتقد بأنني، حتماً، سأنتمي للشِّعر المكتوب بالفُصْحَى. والزجل كان بالنسبة لي كتكملة للفعل السِّياسي الذي كُنَّا نمارسه في السبعينيات. كتابة قصيدة بالزَّجَل، كأنني أُوَزِّعُ منشوراً، أو أكتب على الجدران، أو أشارك في مظاهرة، أو شيء من هذا القبيل. فأنا كنتُ أتوهَّم بأنني أُمارس هوايةً، وربما سأُقْلِع عن الكتابة بالزَّجَل، فإذا بي في اللحظة التي طَرَحْتُ فيها سؤالاً جذرياً، وتراجيدياً في نفس الوقت، هل ما أكْتُبُهُ يستحقّ أن يطلب شهادة الانتماء، أو شهادة الإقامة في مملكة الشِّعر، وجدتُ قصائد مثل «بْلادِي»، التي كانت تُوَزَّع في الثانويات والجامعات، تُنْسَخ وتنتقل من يَدٍ إلى أخرى، فتساءلْتُ مع نفسي: هل هذا شِعر؟ فوجَدْتُ أنَّ ما فيه من شِعار أكثر مما فيه من ماء الشِّعر. في تلك اللحظة سمحتُ لنفسي بأن أنتزع الاعتراف بأنني أكتُبُ الزَّجَل، وهذا الزَّجَل هو شِعر، أو ينتمي إلى الشِّعر، بغض النَّظر عن لغته، وسَأُدْرِكَ بأنني غير مُجْدٍ في كتابة الشِّعر بالفُصْحَى، وربما ليست هناك ثقة في النفس. وحتى أكون دقيقاً، أدْرَكْتُ بأنني ضعيف في الكتابة بالفُصحى، وربما مُوَفَّق بعض الشيء في الكتابة بالزَّجَل. وهناك أمْرٌ آخَر، هو أنني، وعدد من الزملاء الذين يكتبون بالزَّجَل، وَجَدْنا أننا كُنَّا مُنْشَغِلِين بهذه المُرافَعَة المُضْمَرَة، والثاوِيَة حتَّى في كتاباتنا، وهي أن نَنْتَزِعَ الاعتراف بالزَّجَل كشعر، وليس كقول، وربما حتَّى في الفُصحى نجد القَوْلَ كثيراً. فالكوكبة التي انطلقتْ في السبعينيات لم يستمر فيها الكثيرون، بنفس التطوُّر والتدرُّج والانزياح عن الشفوي. اليوم، هناك شُبّان، وأنا سعيد بصداقتي معهم، يكتبون الزَّجَل بوعي، وبجموح، ربما في التجريب، بعيداً عن الذين ما زالوا يعتقدون واهمين بجماهيرية النص الزَّجَلِي، وأنَّه للقاعات وللجماهير. فهُناك من لا يزال يُراهِن على الأذن في الكتابة الزَّجلية. – في هذه النقطة بالذات، أريد أن أعود معك إلى مسألة الوعي بالمسافة بين الكتابي والشفاهي في تجربتك. حين أعود إلى دواوينك أجد أنَّ نصوص السبعينيات، وبعض نصوص الثمانينيات، أيضاً، هي نصوص الأذن، نصوص شفاهية، أو هي نصوص إنشادية خَطابِيَة، وليس فيها وعي بالكتابة. الوعي بالكتابة سيأتي لاحِقاً، هل كنتَ تكتب من منطلق القاعة، أو الجمهور، من منطلق أيديولوجي، أساساً، وهذا واضح في نصوصك هذه، أم كنتَ تكتب من منطلق ضرورة إحداث نَقْلَة داخل الكتابة الزجلية نفسها؟. في بداياتي سِرْتُ بِمُتناقِضَيْن: الأوَّل، أن أكتُبَ زجلاً لا يُسايِر ما كان قبلي، كلمات الأغاني، الملحون، العيطة، وكل التعابير التي يمكن أن نضعَها في خيمة الزجل. فأنا، في هذا، كنتُ مٌتأَثِّراً بالنموذج المشرقي، اللبناني والمصري بالخصوص. وفي نفس الوقت، كنتُ مشدوداً لِما أُسَمِّيه تَمَلُّق الجمهور، أو كنتُ مُجرَّد صَدًى للسِّياسي. لم أكُنْ صَوْتِي، كنتُ استرجاعاً للفعل السياسي. كنتُ أكتُب وكأنني أسعى إلى دغدغة وكسب عواطف الجمهور. وقد وقَعْتُ في هذا الشَّرَك، وربما أدْمَنْتُ قَدَر القاعاتِ وحماس الجمهور إلى أن باغتني سؤال زلْزَلَنِي، وهو ما أشرْتُ إليه في جوابي السابق. فأنا، وبإلحاح من أصدقائي، حين نشرْتُ دواويني الأولى، التي تدخل في هذا السياق، سَمَّيْتُها «سلسلة الكلام الأول»، حتَّى أُمَيِّزَها عن باقي الدواوين. إذن، هناك من يظل مُقيماً في قصيدته الأولى التي وُفِّقَ فيها، ويُعيدُها بأشكال أخرى، ويبقى سجين هذه القصيدة، وهُناك من يُدافع باستماتة عن التَّجريب في الكتابة الزجلية. فأنا اسْتَمَعْتُ مُؤخَّراً إلى تسجيل للراحل الطيب لعلج يقول فيه: أنا ضِدَّ التجريب في الزَّجَل، لأنَّ هذا التجريب يَجُرُّ الزَّجَل إلى المعميات، وإلى المُبْهَمات، وإلى التجريد، والزجل يجب أن يكون سهلاً، في مُتناول الجميع. – سأعود معك إلى هذه النقطة في ما بعد، ولكن ألا ترى أنَّ الزجل لم يكن وحْدَهُ ضحية الخطاب السياسي، بل حتَّى الشِّعر الفصيح، خصوصاً في فترة السبعينيات، وجزء من الثمانينيات؟ هل هذا الجو العام هو الذي جعل توجُّهَك إلى الزجل يُسايِرُ هذا المنحى العام، أم فكَّرْتَ في الزجل باعتبار أنه ربما يُتيحُ لك مواجَهَةً مع الجمهور، والحضور في ما هو سياسي بصورة أكثر؟ ثم، ألم تكن تُدْرِك بأنَّ الزجل لم يكن يُنْشَر في الجرائد، وفي الملاحق الثقافية، وكان مرفوضاً؟. مرَّة كنت جالسا بجانب رجل إعلام وثقافة ووزير، وأيضاً سفير سابق، كُنَّا سنقدم دواوين المرحوم حسن مفتي، بحكم أنني كتبْتُ مقدمة أعماله، فقال إنني أُحَبِّذ أن تبقى العامية في المسرح، وفي الأغنية، وألاَّ تدخل عالَمَ الكتابة. بصدق، أنا أُحِسّ في السابق بأنه كان هُناك تسامُح حقيقي، بما فيه مثل هذا الموقف من العامية، أو مما يُسَمَّى الثقافة الشعبية. لم يكن هناك من يحتاج إلى الدفاع عن الدارجة، ولا مَنْ يُهاجِمُها، لأنَّ هذا الإرث، الذي انطلق من الأندلس، كتبَهُ شُعراء كانوا يُجِيدُون الشِّعر الفصيح، ابن قُزْمان وغيره، ثم هناك كثير من شعراء الملحون كتبوا الشِّعر الفصيح أيضاً. – أحمد شوقي، الذي كُرِّس أميراً للشُّعراء، وهو مَنْ هُوَ، كتب بالعامية أيضاً. نعم، وهُناك الصُّوفيون، مثل الحرَّاق والفشتالي وغيرهما كتبوا بالعامية، مثلما أجادوا في الشِّعر الفَصيح، ولكن مع هبوب الرياح الشرقية القومجية، بدأنا نرى خطاباً آخَر، ونجد أنَّ حزباً يُنادي عليك لتشارك في مهرجان خَطابي، أو انتخابي، أو في مناسبة سياسية، ليُؤثِّثَ بك ضجيجَه، أو ليُجاوِرَ صَوْتَكَ كُرْسِيَه، لا ينشُرُ لك في جريدته. في البداية، كُنَّا نتسلَّل إلى الجريدة، عبر صفحات مشاكل المجتمع، لم نَكُن مقبولين في الصفحات الثقافية، ولا في الملاحق. هُناك جريدة مغربية لا تنشر الزَّجَل لِحدّ الآن، بصورة نهائية، وقطعية. مُسايَرَة السِّياسي، في الإبداع، أو في الكتابة الإبداعية، كان نوعاً من الانخراط في السياق العام الذي كان فيه اليسار حاضراً بقوة، ليس في المغرب فقط، بل حتَّى في المشرق، فَكُنَّا نجد الدَّعْمَ في بعض الشُّعراء، مثل صلاح عبد الصبور، الذي كان يُغَرِّد في وُجوديته، وفي تناوله الإنساني للحياة، وفي اختياره لغة خالية من الشقشقة البلاغية القديمة.. – في هذا بالذات كان مُتأثِّراً بنظرية إليوت، التي هي نوع من توظيف الكلام العام في الشِّعر، وهو في كتاباته عمل في نفس هذا التوجُّه، وهو ما كان يذهبُ إليه الراحل عبدالله راجع بدوره. نعم، فمثل هذه الأصوات، كانت تأتي من خارج الصوت الجماعي الواحِد، أو المُحَدَّد، الذي كان يتمثل في القصيدة التحريضية، وكأنَّ الكتابة عن الحب، وعن العشق، وعن العزلة، وكُل ما يرتبط بالذات، كان يُعْتَبَر نوعاً من التَّبَرْجُز، فتمجيد الطبقة العاملة، وتمجيد المواطن، كان هو كل شيء، وغيره لا يستحق أن نلتفت إليه، أو نهتم به. – ولعلَّ ديوان الشاعر محمد عنيبة الحمري «الحب مهزلة القرون» هو تعبير عن هذا التَّوجُّه. نعم، وسيرُدُّ عليه مصطفى الزّباخ ب«أصنام الشَّرّ». – لكن، رغم كل هذا، لا بُدّ أن أسألكَ، وأنت شاعرٌ يكتب الزَّجَل، هل عندما تقرأ ديواناً زجلياً، تقرأه بسهولة ويُسْر، علماً أن العامية ليس لها لا نحو، ولا صرف، ولا قواعد، ولا إملاء، فهي لغة مفتوحة على الريح؟. إن كان يُقال إنَّ العربية تُفْهَم لِتُقْرَأْ، فالزَّجَل يعيدُ قراءة القصيدة لتستطيع قراءتها بصورة سليمة. ولكن مع تعوُّدِي على قراءة ما يُنْشَر، بدأتُ أعرف إملاء ورَسْم كُل واحد من الزَّجَّالِين، أي طريقته في الكتابة، وهُناك اختلاف كبير في الرَّسْم والإملاء. هُناك من حاوَلُوا توحيد رسْم الكلمات في الزَّجَل، ولا أعرف أين وَصَلُوا في هذا العمل. وأنا، كان عندي موقف مُتَنَطِّع، ربما، إذ كنتُ أقول: دَعُوا النَّاس يكتبون، ولا تَهُمّ باقي المشاكل الأخرى. فعلاً، أنا حين أقرأ لبعض الأسماء أوَّل مرَّة، لا أعرف سَاسْها مَنْ راسْها. وهذه مشكلة كبيرة. – ألا ترى أنَّ هذا يعود بنا إلى جوهر الزَّجَل، الذي وُجِدَ ليكون شفاهياً، ويُنْشَد، ويُقْرَأ، وليس لِيُكْتَبَ، وهذا كان مطروحاً حتَّى في المسرح؟. أنا تدرَّجْتُ، في تجربتي، من الممارسة الشفوية إلى الممارسة الكتابية، وهذا كان انتقالاً انتحارِياً، كما كان رهاناً، واحْتِمال الخسارة فيه أكثر من المَكَاسِب. هذا الانتقال صاحَبَه هَمّ نظري، كنتُ أكُرِّر فيه قوْلَةً هي: «الدَّارِجَة وَلْدَتْنِي، ولَكِنْ العَربِيَة اللِّي رَبَتْنِي». حتَّى كلمة زجل تعلَّمْتُها من العربية، ومن العربية تعلَّمْتُ معنى الملحون، ومعنى الكثير من الأشياء، رغم المخزون الشفوي الذي كان عندي، فالمعرفة جاءتْنِي من العربية. لذلك تعلَّمْتُ من شعر الحداثة، والشِّعر الصُّوفي أكثر مما تعلَّمْتُ من الملحون، ومن العيطة، وغيرهما. السؤال الأساسي الذي طرحْتُه على نفسي وسط الطريق هو أنَّ الزَّجَل يجب أن يستقل، ولا يمكنه أن يستقل إذا لم يذهب إلى الشِّعر، لأنَّ الزجل كان مجرَّد ضيفٍ عند فنون أخرى. إمَّا نجده في المسرح، أو في الغناء.. لم يكن مِلْكَ نفسه. وهُنا أشير إلى أن هناك من يعتبر أنَّ إصدار ديوان يُبِيح له الانتماء إلى الكتابة. أحياناً يكون هذا الدِّيوان مُجرَّدَ «تَقْيادْ» و»تَكْناشْ»، بمعنى الكنانيش التي كانت عبارة عن تدوين فقط، بينما أجد شاعراً يقرأ قصيدتَه، وحين أتلقَّاها أُحِسّ بأنَّها تنتمي إلى عالم الكتابة، وربما لو قرأتُها على الصفحة، لَتَمَتَّعْتُ بها أكثر من السَّماع والإنصات. في ديواني الأخير وصلتُ إلى قناعةٍ، هي أنَّ هُناك نصوصا حين أفكِّر في قراءتها في القاعة أجدها مُسْتَعْصِيَةً عَلَيَّ، وهُنا أدْرَكْتُ أنَّني بدأتُ أكتُب الشِّعر. – ألا ترى أنَّك في هذا انْحَرَفْتَ بالزَّجَل عن الطريق الذي كان يسير فيه، وأدْخَلْتَهُ في منعطف الكتابة، خصوصاً، في تجاربك الأخيرة؟. الكثير مِمَّا قُلْتَه لي صحيح، لدرجة أنَّ الشَّذْرَةَ الواحِدَة يمكن أن نقرأها بالنُّطْق الفصيح، وبالنُّطْق العامِي. بالنسبة لي، هُناك محنة، وأنت من مُجرِّبيها، هي محنة الكتابة، فهي جسيمة، وشاقَّة، فمن لا يعيش هذه المشقَّة في الكتابة لا يحترم القارئ. لماذا نتوهَّم بأنَّ هذا الذي نقوم به من تجريب يَضُرّ بالإبداع، إذا كان الشِّعر في أساسِه يُكْتَب للنخبة، وليس للعامَّة؟ من جهة ثانية، كأنَّنِي أريد أن أقول للعربية الفُصحَى أنا لم أَخُنْكِ، لم أتخلَّ عنك. فأنا أغْتَنِي، وأتعلَّم يومياً من العربية لأكتب العامية، فأنا عندما أكتُب، أكتب باستعداد من يكتب القصيدة الفصيحة. فمن يعتبرني أخرِّب الزَّجَل بهذا الفعل، أو بهذا النوع من الكتابة يُقَدِّم في حقِّي شهادةً أعتز بها لأنَّ الإبداع هو بدعة، وخروج عن النمط، وبحث عن أفق جديد، مُغاير في الكتابة. فما عجزتُ عن تحقيقه في الفُصْحَى، وهنا أنا أعترف لك بهذا، أُحَقِّقُه في الدارِجَة، أولاً، للرفع من قيمة الدَّارجَة، وأقدرها، فالدَّارجة ليست لغة الشارع، والشَّتْم، والكلام النَّابي، والنَّمِيمَة، فهي فيها إبداع، وفيها جمال. – هُنا أنقُلُك إلى مشكلة تتعلَّق بالدارجة، هل تقبل أن تكون ضمن مقررات عيوش، التي يدَّعِي بأنها ستكون بديلاً عن العربية الفصحى، خصوصاً في المراحل الأولى من التعليم؟. إذا خُيِّرْتُ، فأنا أفُضِّل أن أُدَرَّسَ إلى جانب القصيدة المكتوبة بالفُصْحَى، والقصيدة الأمازيغية، والقصيدة المكتوبة بالفرنسية، أو بالإسبانية، أي ضمن الشِّعر المغربي بصفة عامة، لا كمبرر لاختيار أيديولوجي، ربما المُسْتَهْدَف فيه هو الأمازيغية والعربية بالدرجة الأولى، لتمييع مأسسة اللغة الأمازيغية في التعليم. عيوش وغيره لا يعون أنَّ لنا دوارج، وليست دارجة واحدة. فكلام يُعْتَبَر مُخْجِلاً في منطقة هو في غيرها كلام عادي، لا يخلق أي نوع من الحَرَج، أو العكس. الدارجة التي يفهمها الجميع هي دارجة التلفزيون والراديو. هل الدارجة التي تتداول بين الأجيال الجديدة في الشارع يمكن أن
نفهمها نحن؟ فهي دارجة غير الدارجة التي نعرفها. – في نفس هذا المعنى، هل أنت توافِق على هذا التوجُّه نحو التدريس بالدارجة، أو بالعامية المغربية، أم ترى أنَّ الكتابة بالدارجة، أو بالأمازيغية، تعبير عن التنوع الثقافي في المغرب، بعيداً عن كل الحذْلَقات الأيديولوجية الفارغة؟. أستغرب لبعض المثقفين، ولبعض الزَّجَّالِين بالخصوص، أنهم تحمَّسُوا لهاته الدعوة الملغومة، والمُلْتَبِسَة، رغم أنني أدافع عن الكتابة بالعامية كحق إبداعي، أعني خارج كل الدعوات التي هي ترويج مغلوط لأفكار مغلوطة. يمكن أن تتم الاستعانة بالدارجة في تفسير بعض الأمور في القسم، وفي الدرس، وهذا يحدث في كل البلدان، ولكن الدرس يبقى عربياً. وأنا أتساءل: لماذا يعود بنا هؤلاء إلى نقاش ودعوات فشلت في الثلاثينيات في مصر ولبنان، فسعيد عقل مثلاً، كشاعر عربي كبير، أفْسَدَتْه السياسة، لأنَّه كان يدعو إلى العامية، وكتَبَ بها. أنا أرتاح حين أجد قامات فكرية، أو إبداعية كبيرة، تعترف بالتنوُّع الثقافي واللغوي، ولا تحصر نفسَها في ادِّعاء يكتفي بلغة دون أخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.