ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القنص بالصقور.. ولع قبيلة القواسم الذي يقاوم الانقراض
نشر في المساء يوم 05 - 06 - 2015

الصقارة هنا لا علاقة لها بثراء ممالك الخليج. فالصقارون فلاحون بسطاء رسم الزمن الصعب على وجوههم المدبوغة بالشمس تجاعيد تحدث الناظر بأن دوار السماعلة بحد أولاد افرج بإقليم الجديدة الذي ينتمون إليه، لا يختلف في شيء عن باقي قرى المغرب العميق التي تتشابه في الفقر، لكنهم أتوا بنسائهم وأطفالهم وصقورهم إلى مهرجان أصبح موعدا سنويا يجمع عشاق الجوارح من داخل المغرب وخارجه . وانعقدت دورته الثالثة يومي 29 و31 ماي الماضي.
صطفى واعراب
البيزرة أو الصِّقارة تراث إنساني لا مادي، يتمثل في فن تدجين الجوارح، وتسمى في المغرب «بيازة» نسبة إلى الباز أو «الطِّير الحر» كما يسميه القواسم. وقد صنفتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) في نونبر 2010 ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي للإنسانية، وشمل الإعلان 11 بلدا يضم بالإضافة إلى المغرب، بلجيكا وجمهورية التشيك وفرنسا وكوريا ومنغوليا وقطر والمملكة العربية السعودية وإسبانيا وسورية والإمارات العربية المتحدة. وتعتبر قبيلة القواسم في عمق دكالة، وخاصة دوار السماعلة بحد أولاد افرج بإقليم الجديدة، ومنطقة أولاد عمران بإقليم سيدي بنور، المعقل الرئيسي والأخير لتربية الصقور في المغرب.
تاريخيا، تعود أقدم الإشارات حول علاقة المغاربة بالجوارح إلى عصر الوندال، أي إلى المراحل السابقة لدخول الفتح الإسلامي. وخلال الفترات التاريخية التي عاشها المغرب منذ ذلك العهد ظلت تربية الصقور وممارسة القنص بها هواية الملوك والنبلاء، فاستفاد المغاربة من موقع بلدهم فأخذوا من معارف الشرق وأوروبا في ترويض الجوارح الصيادة حتى برعوا فأبدعوا حول نبلها وقوتها الأمثال والأشعار، ورسموها في الوشوم على جلود أجسامهم.
في ضيافة «القواسم»
الصقارة هنا لا علاقة لها بثراء ممالك الخليج. فالصقارون فلاحون بسطاء رسم الزمن الصعب على وجوههم المدبوغة بالشمس تجاعيد تحدث الناظر بأن دوار السماعلة بحد أولاد افرج بإقليم الجديدة الذي ينتمون إليه، لا يختلف في شيء عن باقي قرى المغرب العميق التي تتشابه في الفقر، لكنهم أتوا بنسائهم وأطفالهم وصقورهم إلى مهرجان أصبح موعدا سنويا يجمع عشاق الجوارح من داخل المغرب وخارجه. وانعقدت دورته الثالثة يومي 29 و31 ماي الماضي.
عندما تجالسهم تستأنس سريعا بطيبوبتهم الفطرية وتقرأ في نظرات كل واحد منهم فخرا عجيبا بصقره. سألت ممازحا أحد الصقارين كان يجلس إلى جانبي في الصفوف الخلفية، كم يساوي صقره بلغة المال. بدا السؤال غير متوقع، فرد بجدية بأن صقره ليس للبيع، تماما مثل أبنائه. ومع الإلحاح في السؤال تطوع صقار آخر للرد بأن ثمة صقورا تبلغ أسعارها مليون [سنتيم] كحد أدنى، واسترسل في الأمثلة والأسعار فقال بأن ثريا عربيا اشترى صقرا من صاحبه بعشرين مليون. لكنه كرر كلام صاحبه بأن الصقور التي يحملها صقارو القواسم في ثاني أيام المهرجان ذاك ليست للبيع، بل للاستعراض فقط.
داخل الخيام وخارجها، كان معبرا جدا إقبال أفراد من أسر الصقارين على الاستفادة من فحوص طبية مجانية ونظارات، وزعتها إحدى الجمعيات الأجنبية. أكثر الصقارين فقراء نعم، لكن الولع بتربية الصقور الذي هو في العادة هواية الملوك والأثرياء متمكن منهم حد الهوس. وهو ولع أصبح تحديا ويعاركون ضنك العيش بصعوبة للاستمرار تحمل إكراهاته.
تقع (زاوية القواسم) التي التأمت فعاليات المهرجان من حولها على مسافة 120 كيلومترا على جناح الطير، إلى الجنوب من الدار البيضاء. وهي ليست زاوية بالمعنى الصوفي المتداول للكلمة، بل مجرد مدرسة تقليدية عتيقة لتعليم القرآن. فلا يتلى فيها لا وِرْد ولا ذِكر صوفي كما يحدث في باقي الزوايا؛ إذ المعروف أن الولي مولاي الطاهر القاسمي لم يخلف لذريته طريقة صوفية. وحتى صلة هذا السلف بالصقارة غير واضحة.
أما الولي الصالح الآخر الذي يصرح القواسم بالانتساب إليه فهو سيدي علي بلقاسم، الذي يقع ضريحه بعيدا عن عشيرة القواسم وتحديدا خلف مسجد الكتبية في مدينة مراكش.
ويعتبر القواسم أنفسهم شرفاء ينحدرون من بعض القبائل العربية في المشرق. وقد نالوا رعاية السلاطين خلال العصر الذهبي للصقارة المغربية، الذي انتهى قبل أزيد من قرن، فرعوهم وشجعوهم للحفاظ على تلك التقاليد العريقة، تشهد على ذلك «ظهائر التوقير والاحترام» الصادرة عن سلاطين المغرب والتي يحتفظ بها القواسم في خزانة زاويتهم إلى اليوم. وتوصي الظهائر الحكام المحليين [القياد] بأن «يوقروا» القواسم ويعفونهم من أداء الضرائب. ورغم تفرق أبناء القبيلة عبر مناطق المغرب، إلا أن حب «الطير الحر» ما زال يسري مع الدم في عروقهم..حتى أنني التقيت أحدهم ويعمل خياطا فقيرا ومغمورا في مدينة الجديدة التي توجد على بعد 90 كيلومترا عن «الزاوية»، ومع ذلك يربي في بيته المتواضع صقرا جميلا يطعمه لحما أبناؤه أحوج إليه قبل الجارح!
وما يؤكد استمرار أواصر ولههم الغريب بالجارح أنهم مستمرون في «كسب» الصقور رغم أنهم لم يعودوا يستعملونها في القنص. فالطرائد أصبحت قليلة بسبب انتشار المبيدات الزراعية وندرة المراعي البرية التي تسكنها الطيور والزواحف التي يتغذى على لحمها الصقر. وانعكست الآية بحيث أصبح القاسمي يغذي صقره، لا العكس.
الصقر أقرب إلى القاسمي من أهله!
«كان الآباء والأجداد يحصلون على صقورهم قبل أن تصل سن البلوغ، من خلال صيدها من الأجراف البحرية الواقعة جنوب أسفي وحتى أكادير. وكانت لهم في ذلك طقوس خاصة ووعي بيئي فطري، اكتسبوه بطول الممارسة»، يقول الصقار سعيد طويل الذي يرأس «جمعية القواسم للصيد بالصقور». كانوا يراقبونها طويلا قبل أن يقرروا ما سوف يصيدونه منها. ثم يدربونها بعد عودتهم بطول صبر، حتى إذا صارت قادرة على القنص لا يحتفظون بها أكثر من أربع سنين، إذ يعيدونها إلى حياتها البرية بعد ذلك، لأنها تصير بالغة، كي تتزاوج وتتكاثر. «أما اليوم فلا أحد يفعل ذلك. الصقارون يحتفظون بصقورهم إلى أن تستنفد عمرها وتنفق، ثم يبحثون عن أخرى»، يضيف طويل بحسرة.
ويتم صيد الصقر بعد التعرف على أماكن وجوده في أعقاب فترة طويلة من الترصد لأثره، من طرف صيادين ماهرين، ويستعملون لذلك إما شبكة أو باستدراج الجارح إلى فخ عن طريق حمامة مربوطة بخيط. وبمجرد أسر الصياد للصقر يضع على رأسه برقعا يمنعه من الرؤية ويقيد قدميه، ثم يسلمه إلى الصقار الذي له تجربة طويلة في تدجين الجوارح البرية. وخلال الأربعين يوما التي يستغرقها تدريب الصقر، تنشأ علاقة حميمة بين الصقار وصاحبه، تقوم على مودة وثقة حيث يكتشف كل منهما طباع الآخر؛ إذ تختلف الطبائع من صقر لآخر كما يقول العارفون، مثلما تختلف بين إنسان وآخر. ويأخذ الصقار جارحه خلال مرحلة التدريب إلى رحلات صيد حقيقية لاكتشاف وتجريب قدراته ومهاراته في قنص الطرائد الحية، وتطويعه على الخضوع. والعادة جرت أن يترك الصقار صقره يقتات على الطريدة التي يقنصها. بيد أن الأمور تغيرت كثيرا في السنين الأخيرة، لتقلص أماكن صيد الطرائد التي تنفع في تغذية الصقور على نحو دفع القواسم إلى الاقتصار على تربية الصقور، دون استعمالها في القنص.
وتفيد الملاحظة الميدانية بأن القواسم يشترون من الأسواق القروية الأسبوعية طيور حمام لصقورهم لتتغذى عليها، بعد أن انحسر مجال الصيد على نحو لم يعد يسمح باعتماد الجوارح على الطرائد البرية لغذائها. يفحصون الحمائم جيدا حتى لا تكون مريضة أو بها علة تهدد صحة الصقر الذي سوف يقتات عليها. ويحتفظون بالحمام في أقفاص كبيرة، فيطعمونها له إذ يقدمونها طعاما حيا بمعدل طائر حمام لكل صقر في اليوم. وتتم العملية بالشكل التالي: يخرج القاسمي صقره مرة في اليوم إلى الحقل (في الصباح عادة ) في محاكاة لرحلة صيد، ويجعله يصطاد طير الحمام المربوط إلى خيط كما يفترض به أن يفعل في البرية. وتأتي أهمية هذه الطريقة من كونها تلبي الحاجة الغريزية للصقر إلى الطيران والقنص.
«إن الصقر بالنسبة إلى الواحد منا في مقام أحد أبنائه»، عبارة تسمعها تتكرر في أحاديث كل صقاري القواسم دون حرج. لكن عندما تقترب من تفاصيل حياتهم اليومية تكتشف بأن الصقر أقرب إلى الصقار من أهله جميعا، بدليل أن كثيرا من مربي الصقور الفقراء يقدمون اللحم لتغذية الصقر ولا يقدمونه لأسرهم!.
التهجين يهدد الصِّقارة
أصبح الولع بتربية الجوارح هواية صعبة بعد أن أصبحت الصقور مهددة بالانقراض في المغرب، مثل الكثير من أصناف الحيوان الأخرى المحمية بقوة القانون، الذي يمنع صيدها ويقنن تداولها. وفي هذا الاتجاه تحولت جزر الصويرة إلى محمية طبيعية لأصناف من الصقور البحرية التي منها المتوطن ومنها المهاجر، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصقور الجبلية في الأطلس. لكن الحماية تظل غالبا نصوصا على الورق، إذ تكفي جولة عابرة بين محلات بيع طيور الزينة مثلا، لاكتشاف أن بعضها يعرض للبيع صقورا إلى جانب حيوانات أخرى مشمولة بالحماية. وحسب مصدر مطلع فإن أغلب تلك الجوارح يتم الحصول عليها من خلال عمليات التفقيس الاصطناعي.
ويهدد ذلك بتلويث الصقور التي تعيش في البرية. «لقد أصبح الحصول على صقر يسيرا مع انتشار أجهزة التفقيس، يشرح الصقار سعيد طويل، والمشكل أن بعضهم عندما يهرب منه صقره أو يتخلص هو من صقره فإن هذا الأخير يتيه في البرية فاقدا بوصلة العيش في الطبيعة لأنه نتاج للتفقيس الاصطناعي وليس الطبيعي. والخوف أن يتزاوج هذا النوع من الصقور غير الطبيعية مع تلك التي تعيش في الطبيعية فتنتج عن ذلك أصناف مهجنة، تغزو مواطن الصقر البري».
كما أن مخاطر كثيرة أخرى تتهدد الصقور سواء البرية منها أو المدجنة، ومنها تهور بعض القناصين الذين يطلقون عليها النار إما بالخطأ أو بالقصد، بمبرر أنها تزاحمهم على الطرائد.. فضلا عن مخاطر انتشار المبيدات الزراعية التي تسمم الطيور والفرائس التي تقتات عليها الصقور، فتتعرض بدورها للتسمم والنفوق.
لقد استكانت الصقور المدجنة إلى راحة قسرية أعفتها طويلا من القنص الذي هو غريزة متأصلة فيها، بحيث أصبحت جزءا من الفولكلور المحلي. ومن نتائج ذلك أن الإقبال على اقتناء الصقور وتدجينها لم يعد يغري كثيرا الأجيال الجديدة من القواسم، كما كان عليه الأمر سابقا. وينعكس ذلك بجلاء من خلال أعمار الصقارين الذين حجوا إلى فعاليات المهرجان، كمتفرجين في الغالب لا كصقارين. ولعل ذلك يمثل أكبر تهديد بانقراض الصقارة عند القواسم، ومن المغرب في مستقبل الأيام.

أصل الولع بالصقر أسطورة
في ماضي الزمان، عندما كانت البيازة [الصقارة] مهنة قائمة الذات يزاولها كثير من الناس في مناطق متفرقة من المغرب، كان البيازون في المغرب قاطبة يعتبرون الولي سيدي علي بلقاسم ولِيَّهم الشفيع، فيتوسلون بركته ويزورون ضريحه. غير أن مصنفات المناقب لا تسمح بإلقاء كثير من الضوء على الشخصية التاريخية لهذا الولي، بحيث لا يملك عنه الباحث سوى نزر يسير مما لم يعد يذكره بعض شيوخ القواسم أنفسهم. ومنه أن وفاته كانت حسب البعض في العام 946 ه/ 1539 م أو 951ه/ 1544 م، حسب البعض الآخر. أما عن علاقة السلف البعيد سيدي بلقاسم بالصقارة فلم يعد القواسم يذكرون شيئا. بيد أن أسطورة قاسمية قديمة تمنح العلاقة بعدا غرائبيا إذ تقول:
«كانت لجد الشرفاء القواسم سيدي علي بلقاسم جنية اسمها (أحا) تخدمه، فكان كلما رغب في الخروج للقنص ينادي عليها لتجمع له جميع صقور الغاب كي يصيد بها. وجرت العادة أن يأكل كل صقر الطرائد التي يقوم بصيدها عند ختام رحلة القنص، ولم يكن سيدي علي بلقاسم يحتفظ منها بشيء لنفسه.
هكذا جرت العادة، إلى أن شعر الولي بدُنُوِّ أجله وخشي أن لا تطيع الصقور أبناءه وحفدته من بعده، فطلب من الجنية أن تجمع له صقور الغاب للمرة الأخيرة. ولما اجتمعت بين يديه، قام سيدي علي بربط كل الصقور من قوائمها، ما أثار لديها حالا من الاستغراب. فسألته الصقور لم فعل بها ذلك.. ورد عليها سيدي علي بأنه اضطر إلى تقييدها لخوفه من أن لا تطيع ذريته بعد وفاته. وهنا تدخل صقر حكيم ليقترح على الولي حلاًّ وسطاً، فقال له: (غطّي لنا عِينِينا، لا عينْ شافْت ولا قلب وْجَع!)
وهكذا تم اختراع غمَّاء الصقور الذي صار أحفاد سيدي علي بلقاسم يغطُّون به عيَنيْ الصقر ويسمونه (الكبِّيل)، بدل تقييد قائمتيه، فلا يزيحونه عنهما إلا لحظة إطلاقه للقنص.
ثم اتفق سيدي علي بلقاسم مع حكيم الصقور على الطريقة التي عليها أن تتفاعل بها مع ذريته، قائلا: (غُوتَة واحدة تْرَدُّو [يقصد الصقر]، ولو كان في جُوفْ السّْما).
عقب ذلك الاجتماع مات سيدي علي بلقاسم وهو مرتاح البال إلى أن بَرَكته، التي سوف تتداول بالتواتر بين أبنائه وحفدته من بعده، سوف تضمن لهم ولاء الصقور إلى أن تقوم القيامة».
ولقد نسج الصقارون القدامى حول حماية بَرَكة الولي سيدي علي بلقاسم لهم حكايات وأساطير تترجم في العمق مدى قوة ارتباطهم الروحي به وبزاويته، لكن أغلبها ضاع بضياع الذاكرة الحية. وخلال العصر الذهبي للصقارة المغربية، كانت قبيلة القواسم توفر لسلاطين المغرب بَيّازين حذقين وصقورا جيدة. وفي المقابل كان القواسم يحصلون من السلاطين على رسائل سلطانية (ظهائر التوقير والاحترام) تعفيهم من التجنيد في الجندية ومن الضرائب ويحصلون بموجبها على هبات.
لكن بانتهاء العصر الذهبي، وخلال السنين الأخيرة من القرن التاسع عشر، حدث أن قطع الصدر الأعظم أحمد بن موسى (الذي اشتهر بلقب «بّا احْماد») عن الصقارين المرتبطين بالقصر المساعدات البسيطة التي كانوا يحصلون عليها من دار المخزن (قصر السلطان)، وفرض عليهم أداء الضريبة التي كانت الأعراف السلطانية تعفيهم منها. وكان مبرر الصدر الأعظم في ذلك أن السلطان لم يعد يمارس هواية القنص بالصقور، وبالتالي لا موجب للعناية بصقّاريه الذين انتهت مهمتهم.
لكن ذلك الوزير القوي تراجع عن قراره بعد أن رأى في المنام الولي سيدي علي بلقاسم، يهدده بالانتقام إن هو تمادى في إساءة معاملة الصقارين الذين يقعون تحت حمايته. فتراجع لذلك وأعفى الصقارين من أداء الضريبة وأعاد صرف ما كانوا يحصلون عليه من بيت المال من مساعدات، ونحر ثلاثة عشر ثورا إكراما للولي الحامي للصقارين.
هكذا روى أحد الصقارين المتضررين من قرار بّا احماد لشاهد أوروبي زار المغرب في بدايات القرن العشرين..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.