ابراهيم الحيسن تمتح الأعمال الصباغية التي يبدعها التشكيلي عبد العزيز أصالح سماتها الأساسية من التصوير الحركي ومن التجريدية الفعلانية المسماة في أمريكا ب Action painting، والتي بدأت إرهاصاتها الأولى وتكرَّست مع الفنان الأمريكي جاكسون بولوك وقبله مع الفنان الفرنسي جورج ماثيو، ولاسيما عقب معرضه التأسيسي الموسوم ب»نحو التجريد الغنائي»، الذي أقامه عام 1947 برواق «لوكسنبورغ» بباريس، قبل أن تتقوى معالم هذا التوجه الفني مع فنانين آخرين أمثال: فرانز كلين وجان ميشيل أتلان وأولفيي دوبري وموريس إستيف وفييرا دي سيلفا.. وغيرهم كثير. وفقاً لذلك، وامتداداً لتجربة «تداعيات الفيض» المعروضة سابقاً بالرباط، يستمر الفنان أصالح في تطويع المادة واللون جاعلاً منهما مفردات تعبيرية لتشكيل اللوحة. هكذا، وعلى مستوى الصيغ والمعالجات البصرية، نجده يرسم مسارات الأثر باعتماد تقنية مختلطة Technique mixte تتحاور فيها الأصباغ والأحبار والمساحيق التلوينية التي يختارها وفق مبررات ذاتية، الشيء الذي يمنحه إمكانية تحويل المادة واستغلال انعكاساتها البصرية على السند.. إن الأثر باحتوائه اللون والمادة إنما يولِّد لنا أنفاساً جمالية لا يُمكن استيعابها سوى عن طريق الوعي والإحساس بمسافات الإبداع.. مسافات غائرة في جسد اللوحة تحتمل لعبة تبادل الأشكال والكتل الملوَّنة حيث البياض النوراني يخترق البني والتكوينات الكحلية ليعلن عن حضوره.. ثمة، إذن، بياض يرسم العراء في مقابل مساحات لونية داكنة منتشرة تظهر كثافة الانفعال. إنها لغة الأضداد القائمة على ترسيم الحدود (أو هدمها) بين اللون واللا لون، بين المرئي واللا مرئي، بين الوجود والعدم.. لذلك يكون من الملائم قراءة لوحات الفنان بأنها نوع من الاحتفاء بالأثر.. بطراوة اللون وبنعومة المادة المتدفقة ضمن نظام بصري حركي يحمل بين بنياته ومطاويه اللونية جزءاً من بصمات الزمن.. هي هكذا لوحاته (ورقياته وقماشاته).. فضاءات تشكيلية تقبل التصادم والتبصيم والتبقيع اللوني الناتج عن الكشط والمحو والدعك والتقطير وغير ذلك من الأساليب الفنية التي يتم نهجها على نحو فعلاني محسوس. وبقدر ما هي لوحات هي أيضاً تبصيمات لونية مصاغة بحرية وبارتجالية قائمة على عناصر التعبير الأساسية المتمثلة في الخط واللون وتشي بالكثير من الحركة والتوتر.. لوحات تنأى عن التشبيه وتتنفس بألوان سائلة تحيا على إيقاع فراغات وبياضات مغرية سرعان ما تمتلئ بصباغة مشعة وذات أمداء واسعة.. إنه بذلك يبني تكويناته الغنائية عبر ألق اللون وعبر الاحتشاد الذي يحوِّل اللوحة إلى سند مفتوح تتماهى فيه الأشكال المرئية واللامرئية وفق خطاب لوني تسوده الشفوف والفواتح من الألوان وبخاصة الأبيض والرمادي إلى جانب ألوان أخرى مشربة بنثارات من الأحمر القاني والأصفر الساجي والأزرق الكوبلتي إلى غير ذلك من الألوان التي تتماجن على سطح القماشة وتمتزج بالخدوش والتخطيطات المنفلتة والمتلاشية.. فإذا كانت الغاية الأولى للغنائية في التشكيل والتعبير الصباغي هي تحرير الفنان من هيمنة مفهوم الأشكال الذي فرضته التكعيبية لسنوات، فإنها تظهر في لوحات الفنان أصالح أكثر تحرُّراً تمتد لإيماءات الجسد وانفعالاته في لدونة طيفية تتعاقب فيها الألوان المشتعلة والمنطفئة في آن.. هي، بلا شك، سلسلة اشتغالات بمدلولات صباغية ذات الاتصال بالمصادر البصرية للتجريد.. إنها الضوء الوضاء الذي يفتح للمتلقي نوافذ الغواية والاشتهاء باعتبار أن «الصباغة المضيئة هي التي تثيرنا.. الصباغة بلا ضوء تجعل علاقتنا بالعالم خاطئة»، على حَدِّ قول الفنان المغربي الراحل جيلالي الغرباوي. عبر الاستعمالات التشكيلية المذكورة، تتحدق العين وتتعدد الرؤية وهي تفتح دروبها داخل جسد المواد والألوان التي يستعملها الفنان أصالح بمرونة وخفة، وكأنه بذلك يعلن نوعاً من الهذيان والطوفان اللوني والمادي. فلوحاته تفيض بألوان اصطلاحية تذوب في لجة أخرى متولدة عنها.. تجمع بين الكثافة والشفافية داخل مساحات حرة، حيث تطل العين على خرائط مساحية.. ومساحات خرائطية للأزمنة والأمكنة ضمن تكوينات طيفية سخية التمازج تأخذ حدودها داخل فضاء تعبيري وتشكيلي محموم باللون والمادة، ولا شيء غيرهما.. وعلى العموم تظل هذه التجربة – رغم حداثتها- ترسم انخراط الفنان عبد العزيز أصالح في تجريد صباغي حركي يتكئ على رهانات جمالية كثيرة تمتد لحماسه وحيويته وسعيه إلى إرساء تجربته كفنان وكإنسان أيضاً.
محمد زفزاف وروائية الهامش ابو يوسف طه على مدار أربعة عقود تتواتر أعمال الكاتب المغربي محمد زفزاف ما بين القصة القصيرة والرواية القصيرة، بالإضافة إلى كتابات مختلفة: شعر، ترجمة، آراء نقدية موجزة..ومن الثابت أن شخصيته الأدبية تجلت في أنصع عطاءاتها وأبرز مستوياتها في كل من القصة والرواية، لدرجة أصبحت معه متونه سجلا يؤرخ بجمالية بسيطة متمنعة ومقنعة لحقبة هامة من الوقائع الاجتماعية والتحولات السياسية والمحطات الثقافية والأدبية. مسار كتابة: يعد محمد زفزاف من الكتاب القلائل الذين نذروا حياتهم للكتابة، مستقطرين عصارة تجاربهم وما يحيط بهم من مقامات وأحوال مجتمعهم وشرائحه. وقد بلغ به الإخلاص للكتابة إلى حد أنها صهرت أعماقه، وأنها تقتات من جسده، كما أنه الأغزر من بين مجايليه، وقد تمكن بما يمتاز به من موهبة أصيلة أن يشيد مادة ومحتوى عالمه الروائي من خلال الانفتاح على فضاء الأقبية السفلية، ملتقطا رطاناتها ولهجاتها حيث تتميز الذوات في حواراتها وبوحها بالصدق والتلقائية دون احتساب حواجز الردع الأخلاقي من خارج حميمية تجربة اليومي المعيش، إذ نجد لغة السوقة واللصوص والباغيات والعمال، مثلما نجد لغة الطبقات المرفهة والتجار ومختلف فئات المجتمع. إننا نجد حياة كاملة في تلويناتها الاجتماعية، بتصدعاتها وانكساراتها، طموحها وخيباتها وأوهامها، نجد كفاحا مستميتا من أجل الحياة. بهذا كله يغترف محمد زفزاف من منجم عميق وغني، يترصد الوقائع مقتفيا تعارضاتها، ملتمسا دلالاتها الجوهرية في التقابل بين عالمين متناقضين، لكل عالم قوانينه وأعرافه، وما يربط بينهما من تنافر ولا إنسانية، فهو يلتقط جوهر الواقع عن طريق رصد تجلياته المموهة وكشفها. يتأسس الخيار المذهبي عند محمد زفزاف على أساس الواقعية الاجتماعية النقدية، وهذا لا يعني أنه يقع أسير الظاهرة بشكل حرفي، بل يخلق معادلا جماليا يتسم بدقة التشخيص، والجريان السلس مثلما نثر الحياة اليومية، حيث تنبثق الحقيقة (= الأدبية) من صلب دينامية العمل الروائي القائمة على شبكة من التوترات. إن الأعمال الروائية لمحمد زفزاف موسومة ببساطة خادعة شأن فراشة هامدة فوق كأس وردة، ما أن تهم بالإمساك بها حتى تباغتك بيقظتها القصوى، وكذا الأمر بالنسبة لروايات زفزاف، روايات متألقة توحي بالوداعة الفنية، لكنها غير ذلك، إنها مكتوبة بقبضة مضمومة، وبصنيع فني مفكر فيه بعمق، لكن السليقة الروائية لزفزاف تدرج الصنعة تحت الطبع، وهذا ما جعل كاتبنا لا ينجذب بسهولة نحو تجريب فج غير ذي جدوى، بل ظل وفيا لاتجاهه، يرفده بما يعضد إمكانياته التعبيرية، فبالإضافة إلى سلاسة الخطاب، هناك إحكام المحكي وإقناعيته كاحتمال صناعي. تحتل الفئات المهمشة بمعاناتها بؤرة الاهتمام في عالم زفزاف الروائي لدرجة يمكن الحديث معها عن «شعرية الهامش» كفضاء بأمكنته، ومدونات لغاته، وميولات وأفكار ونفسيات شخوصه، والتعارض الدرامي بين مكوناته. محمد زفزاف من مواليد أربعاء الغرب، ولا غرو أن المنطقة تشكل، بما فيها مدينة القنيطرة، رافدا مهما في طفولة الكاتب أغنى تجربته في التفتح على مظاهر الحياة اليومية بما لابسها من مكابدة، وشحذ وعيه لالتقاط العناصر المتناقضة، فهناك القاعدة الأمريكية وما حف بها من أنشطة، وهناك الميناء، وكذا النزوح القروي وما رافقه من نشوء تجمعات سكنية بئيسة، وما تخترنه من هجانة، ومن اختلاط السامي بالوضيع. وجد زفزاف في كل ذلك لقياه التي تصوغ الخلفية الأساسية لأعماله. كما أن الدار البيضاء، القطب الصناعي بالمغرب، لعبت دورا بارزا في إمداد الكاتب بعناصر مركزية في أدبه، وجذب فئات عديدة، وأمكنة متنوعة إلى دائرة أعماله.. هذه المدينة التي تمثل مغربا مصغرا بفسيفسائها الاقتصادية والاجتماعية، وتنوع مكوناتها، وتوالد مدن هامشية حول خاصرتها. هذا النسيج الاجتماعي متعدد الألوان والظلال وجد صداه ودلالته بلمسات فنية حاذقة في الإنتاج القصصي والروائي لزفزاف، بل طارد الكاتب الأمكنة والظواهر التي تسعف في توسيع دائرة كتاباته: حضور الصويرة، وحركة الهيبيز في بعض أعماله. وأستطيع دون مجازفة التوكيد على أن كثيرا من الأعمال الأدبية المجايلة لزفزاف سيجرفها النسيان، بينما ستبقى غالبية رواياته جزءا حيويا من الذاكرة الأدبية لأسباب منها: الاجتماعية: أدخلت روايات زفزاف إلى دائرة القول الأدبي – وبميسم خاص- الفئات المهمشة، واكتشاف القيم الداخلية لمجتمع المهمشين، والتقطت عناصر الصراعات والتعارضات في رؤية الإنسان بين الفئات المتباعدة اجتماعيا. لقد تمكن زفزاف من بناء «مجتمع نصي». الجمالية: بيأت رواياته في الحقل الأدبي المغربي الاتجاه الواقعي النقدي، وأخرجت، متحررة من المداورة الأخلاقية، إلى الصدارة مراكز الظل، مقيمة تعارضا يكشف الورع الزائف والتقية الأخلاقية. الأسلوبية: اعتمدت روايته محكيا بسيطا متدرجا يتسم بالسلاسة واللغة غير المحتفية بالتزاويق المعتمة على شفافية المحتوى مع الاحتفاء بالرطانات واللهجات مما يدينها تداوليا. هذه خصائص في الآن واللاحق توسع مقروئية هذه الأعمال، ولا تحصرها في النخبة.
الشعر والفلسفة.. حدود التداخل والتخارج محمد رمصيص ترى هل حقا ما يفرق بين الفلسفة والشعر أكثر مما يجمعهما على اعتبار أن موضوع الشعر هو الجمال والمتعة وموضوع الفلسفة هو الحقيقة؟ فضلا عن كون منطق الاشتغال ومنهجية البحث في الفلسفة هو الاستدلال العقلي بخلاف الشعر الذي يتأسس على الاستلذاذ بالممتع، علما أن الجميل هو ما يروقني دون أن يكون بالضرورة مقنعا. بل إن الحديث عن الجميل يستدعي مفهوم اللذة المغرق في النسبية، الأمر الذي يجعل حقيقة الشعر ذاتية بخلاف حقيقة الفلسفة، وبالتالي فأداتا إنتاج المعرفة بالنسبة لهذين الحقلين المعرفيين مختلفتان، فالعقل ليس هو الحدس والتنبؤ، بل إن أحد رهانات الشعر الحداثي هو التخلص من رقابة اللغوس أساسا، وبالتالي رد الاعتبار للذات المفردة كمصدر لإنتاج القيمة بخلاف الشعرية الأرسطية، مثلا، التي بنيت على محاكاة الطبيعة، الأمر الذي يعني عندها أن الجمال نسق ميتافيزيقي جاهز يمكن إعادة إنتاجه بالتطابق مع الواقع، والحال أن الإبداع هو فن إنتاج الوهم. غير أنه مع بداية الفلسفة العقلانية الحديثة سيتم استبدال الطبيعة بالذات والواحد بالمتعدد واليقين بالنسبي..خلاصات فكرية جديدة تماما وإن سجلت عليها العديد من المآخذ كوصف الفلسفة الديكارتية بالنسق المنكفئ على الذات جراء تغييبها الآخر، وهو الانتقاد الذي بنى عليه إيمانويل كانط ردوده الفلسفية. انتقاد سيطوره هيغل فيما بعد على خلفية جدله التركيبي. غير أن غارة الشعر الكبرى هي وضعها عقل الفلسفة نفسه في مأزق باقتراحها أدوات جديدة للمعرفة مثل الحدس والتنبؤ كأداتين منتجتين للفهم والإحساس. إن الشعر بهذا المعنى ليس أداة للمعرفة المباشرة بقدر ما هو مغامرة تمني النفس بعدم الوصول إلى معرفة قطعية من خلال اللعب مع المجهول والماوراء لأن الحدس التنبؤي لا يعطي صاحبه أي يقين ويصيبه بجرثومة القلق والشك. فإذا كان العقل هو سقف الأدوات المنتجة للمعرفة في السياق الفلسفي فإن الرؤية الاستبصارية بالوجدان والمحمولة على رافعة الخيال العارف قادرة على مخاطبة المادة الجامدة وكل مشمولات الوجود إلى حد أن الشاعر يصير صديقا للحجر والمطر مثلا..فليس صدفة أن المخيال يحتل مرتبة جوهرية في صناعة الشعر. فبالخيال ينتج الشعر معرفة حدسية بخلاف العقل الذي ينتج معرفة نسقية. وعي لم يتكرس إلا مع إيمانويل كانط في القرن 18، حيث تراجعت النظرة السلبية للخيال باعتباره مصدرا للخطأ والزيف، فأصبح الشعر هو ذاك التجلي الملموس والتحقق النصي الدال على فعالية الخيال. سياق سيمهد الطريق فيما بعد للتحليل النفسي قصد إضفاء قيمة علاجية على المتخيل جراء تحقيقه توازن الأفراد والجماعات. بل إن المتخيل سيتوفق في اقتراح نفسه كأداة لمواجهة مصير الإنسان الغامض والمظلم، به نستبق الآتي من المستقبل ونسترجع ما ضاع من زمن البدايات، ويتجلى ذلك في الأسطورة، مثلا، التي منحت موقعها للشعر فيما بعد..جنس أدبي يجعلك تصدقه دون أن تؤمن به عقائديا لأنه في العمق هو ذاك المحتمل الحدوث. لكن إذا اعتبرنا الشعر معرفة ظنية وفردية تتأسس على الحدس المبهم في أغلب الحالات، ألا يعني هذا أن الشعر تجربة غير قابلة للرصد العلمي الدقيق جراء الشخصنة والذاتية. فالشعر بسبب عدم انتظام إنتاجه وتكراره بدقة في زمن محدد يصعب وصف ظاهرته وتفسيرها، فضلا عن التنبؤ بها، وبالأحرى التحكم فيها. وإذا كانت وظيفة الشعر هي إنتاج الجمال بصرف النظر عن تطابقه أو تنافره مع الواقع، ألا يحيلنا هذا على التعريف النيتشوي للإبداع والفن باعتباره أعلى مراتب الزيف والكذب وإرادة الخداع، الأمر الذي يساوي بين الوهم والعقل في فهم الذات والعالم والعلاقة بينهما. وإذا اعتبرنا الشعر منتوجا رمزيا وجماليا، هل يخلصه هذا قطعيا من النفعية؟ وإذا سلمنا أن الشعر مهارة بشرية تتقوى في جزء منها بفعل تمثل النماذج السابقة، ألا يعيده هذا إلى مبدأ المحاكاة، وبالتالي ضرب جدة الإبداع في الصميم والانتصار لخاصية التشابه لا الاختلاف؟ وماذا يمكننا القول حول دربة ومراس إنتاج الشعر بواسطة استيعاب الخبرات الأسلوبية والتخيلية السابقة؟ ألا يحيل هذا الأفق الشعر إلى مجرد حرفة؟ علما أن مفهوم التكرار في الشعر يجعل مبدأ الانتشاء بالجمال يتناقص، وهذا ما ذهب بهيغل في مرجعه «مدخل إلى علم الجمال» إلى انتقاد مفهوم المحاكاة واعتبار الاستنساخ العدو اللدود للفن. في مقابل هذا التنائي بين الفلسفة والشعر نجدهما يقتسمان الدهشة والسؤال وإن اختلفت حمولتهما بالانتقال من حقل إلى آخر.. فدهشة الفلسفة إقرار بجهل المندهش، بينما دهشة الشعر هي دهشة إعجاب بصورة تمثيلية جديدة للواقع تمتع في الغالب، لكنها ليست بالضرورة مقنعة لأن غاية الشعر غير هدف الفلسفة. تلتقي الفلسفة بالشعر في انطلاقهما معا من مكان عام. ونستحضر هنا أن التداول الأول للفلسفة كان من ساحة المدينة الإغريقية «l'agora» مكان خصص لاقتسام المعرفة ودمقرطة الوعي. مكان يحيلنا على الخيمة الشعرية للنابغة الذبياني وإن اختلف السياق والهدف. إن غاية كل من الساحة والخيمة هو جعل المعرفة في ملكية الكل. غاية ظلت بعيدة التحقق، لكنها مع ذلك كانت تقف خلف هذين المجالين.. فقط تميزت ساحة المدينة الإغريقية عن خيمة الشعر العربية بكونها طرحت للحوار السلطة كذلك، وهو ما فسح المجال للديمقراطية كنظام يحافظ على السير العام للجميع، بينما اقتصرت الخيمة العربية على الشعر. إن الفلسفة والشعر وإن كانا يستثمران نفس الأدوات تقريبا كالدهشة والسؤال وما شابه ذلك، فإن مدلولهما يتغير بتغير الحقل المعرفي المشتغل عليه. بل إن المنطلق والغاية كذلك يختلفان. فالفلسفة تتجدد أساسا بالشك، بينما الشعر يمتع بتصديق وهمه أولا. فعلى الشاعر أن يحملني على تصديقه قبلا، ثم يقول ما أراد فيما بعد. كما أن مفهوم الدهشة نفسه في الفلسفة غيره في الشعر. فدهشة الفلسفة تتحقق أساسا من المألوف والعادي لترد الاعتبار للسؤال والشك بخلاف دهشة الشعر التي تتمظهر من الجميل وغير العادي. وهذا ما يفسر انبناء الدهشة الفلسفية على البرهنة. إن منطق الاشتغال في الشعر هو الإمتاع أولا، والإقناع ثانيا، بخلاف الفلسفة. ولنعطي مثالا باشتغال الشعر على الأسطورة، وهي عنده أداة للرؤيا وتكثيف للمعنى يصعب حصره في مفردة واحدة. فأرفيوس، مثلا، يجسد أسطورة التيه الأبدي. كما أن برومثيوس يشخص أسطورة التمرد على القيود والنضال من أجل ترسيخ ثقافة الحق. أما الفلسفة فما يعنيها في هذه الأساطير هو: لماذا فكرت الجماعات في هذه الفترة التاريخية على هذا النحو وليس بشكل آخر؟ إن الأسطورة بالنسبة للفلسفة نمط فكر في لحظة تاريخية مضت، بينما هي بالنسبة للشعر أداة لبناء الرؤيا ووسيلة لإيصال رسالة الشاعر. ولهذا فمنطق الإلغاء والنفي المتبادل بين العقل والوهم لا يفيد أحدا، إذ أن الكل خاسر بخلاف منطق الاعتراف المتبادل بينهما. فليس صدفة أن أحد ابتكارات الحداثة هو السينما كمجال تلتقي فيه التقنية بالمخيال لتشكيل وعي العالم. مجال يثبت بالملموس أن المتخيل أرحب وأغنى وأكثر كونية من الجزء العقلاني فينا. فالشعر يختلف عن الفلسفة لأنه لا يقول جوهره من خلال مضمونه فقط، ولكن بشكله كذلك. كما أن انبناء الشعر على التخييل يجعل الشاعر قادرا على تحقيق حالة ارتواء وإشباع قد تمتد إلى حالة التصالح مع الذات، بينما هذا الرهان يظل مجرد أمنية وطوق في الفلسفة. نخلص إلى أن الشعر يختلف جزئيا عن الفلسفة بسبب علاقته بالزمن، فهو بحكم انبناء جزء كبير من خطابه على الحدس هو أقدر على التقاط اللامتوقع واستشراف الآتي.. وبسبب هذا ينعت الشاعر بالرائي جراء مقدرته على استشراف المجهول والعيش في الزمن القادم. بهذا المعنى يمكن القول إن الشعر يبدع الوجود المشتهى والفلسفة تتأمله على خلفية شكية تجعل المتأمل يكتشف أناه الثانية والمخبوءة بالجوار. محصلة تجعل الشعر والفلسفة يعشقان الأقاصي والذهاب إلى الطرف الآخر من الذات، وبفعلهما هذا ينسبان الحقائق ويضعان العقل في مأزق. وبسبب هذا كله فهما مسكونان باللايقين ويرتويان بالسؤال باعتباره فسحة لاستغوار المعنى والذات والآخر والعلاقة بينهما. إن أرض التداخل بين الشعر والفلسفة بالشساعة بما كان ليس فقط راهنا ولكن حتى على مستوى التاريخ الموغل في القدم، إذ ليس صدفة أن قواعد الشعر الإغريقي من وضع أرسطو، كما أنه ليس صدفة أن مجمل كتابات فريدريك نيتشه مغمسة تماما في ماء الشعر. الشعر والفلسفة مرة أخيرة ينطلقان من منابع متجاورة (الحدس الشعري والتأمل الفلسفي) ويتحققان بواسطة جنون القول وجنون الفكر. لكل هذا يستحيل الفصل بينهما.
«مسار» عبد الفتاح كيليطو..عن القراءة والكتابة أو «اقتل أحباءك» صدوق نور الدين يورد الكاتب والباحث عبد الفتاح كيليطو في مقدمة كتابه الجديد «مسار» (دار توبقال)، قولة ينسبها للسياسي كونراد أديناور مؤداها: «فيم أنا معني بما قلته بالأمس؟». والواقع أن نص القولة يختزل التجميع المتمثل في حوارات أجريت وكيليطو منذ أزيد من ثلاثين سنة، أي من بداية الثمانينيات إلى ما بعد الألفية الثالثة، حيث أجري بعضها بلغات أجنبية وتحقق ترجمتها، مثلما أن منها ما وضع أصلا باللغة العربية ودار معظمه حول القراءة والكتابة، مما جعل التكرار يطبعه إلى تباين الإجابات واختلافها حسب الظرف والمرجعية التي اقتضت إجراء الحوار. هذه السلبيات انتبه إليه الباحث عبد الفتاح كيليطو في سياق مراجعة الحوارات، مما استدعى قوله: «..لربما ينبغي للكاتب أن يتجنب الحوارات، أن يكتفي بكتبه ويدع قارئه يتدبر فيها أمره. وإن كان ولابد، فليكن حوارا واحدا، وإلا سيتعرض حتما لإعادة أقواله، ربما لأن الأسئلة ذاتها تنحو أحيانا المنحى نفسه. والنتيجة، فيما يخصني، تكرار مما شائن، تناقضات، ركاكة، تفاهات. ما زاد من قلقي أنني تبينت أنني سجين دائرة ضيقة من المواضيع والقضايا لا أبارحها ولا أمل لي في تخطيها.» ويتضح من خلال التقديم وكأن كيليطو غير راض عن عملية التجميع مادامت تدور حول فكرة وحيدة هي كما سلف القراءة والكتابة. والأصل أن «مسار» الكاتب والباحث لا يخرج عن هذا السياق، بل إن أبحاثه النقدية ودراساته لا تراوح المراجع المعتمدة ذاتها: ألف ليلة وليلة، أسرار البلاغة، البيان والتبيين ومؤلفات أبي العلاء المعري. ولعل من الطرائف التي تروى عن عبد الفتاح كيليطو في هذا المجال بالذات، ما أورده الناقد عبد الجليل ناظم ضمن كتاب احتفائي بكيليطو موسوم ب«عبد الفتاح كيليطو متاهات الكتابة»: «حكى لي الصديق كيليطو مرة أن أحد الباحثين الشباب اتصل به للإفادة من خبرته في موضوع بحثه المتعلق بأبي العلاء المعري، فأجابه كيليطو ببساطة مدهشة: «ليس لي ما أفيد به بحثك حول هذا الموضوع». إن أغلب الحوارات التي تحقق ضمها في هذا الكتاب «مسار»، تمثل شخصية عبد الفتاح كيليطو من منطلقين: منطلق الناقد الباحث في التراث العربي القديم بدءا من فن المقامة إلى الحكاية والشعر القديم. وفي هذا المنحى تستحضر التصورات النقدية القديمة والحديثة في سياق من التوازي الذي يخدم المعنى المراد بناؤه. وأما المنطلق الثاني، فيتجسد في المبدع، وقد طالعنا قاصا في «حصان نيتشه»، وروائيا في» أنبئوني بالرؤيا». والواقع أن القارئ المتمعن فيما يكتبه عبد الفتاح كيليطو على مستوى النقد والإبداع يكاد لا يعثر على فوارق دقيقة. ومن ثم ذهبت جملة من الكتابات النقدية حول نتاجاته إلى صعوبة تجنيسها في دائرة إبداعية ما. ولذلك عدت الكتابة مفتوحة على الأدبين العربي والغربي. والأصل أن في هذه المسافة يكمن السر الحقيقي للقوة الإبداعية التي تتميز بها كتابات عبد الفتاح كيليطو. يبقى القول بأن هذه الحوارات التي انتقلت من الشفوي إلى المكتوب، وبالتالي غدت كتابا مرجعا في/وعن مسار اسم علم له وزنه وقيمته خضعت، كما ذهب إلى ذلك عبد الفتاح كيليطو، إلى قولة الروائي الشهير وليام فولكنر ومؤداها: «اقتل أحباءك». كان الروائي وليام فولكنر يقول: «اقتل أحباءك»، أي إن فهمت جيدا، لا تتردد في التضحية بكتاباتك وطرحها في سلة المهملات، على الرغم من شدة حبك لها».
محمد الأشراقي: العود لا يزال بخير وروّاده في المغرب كثيرون قال إن الساحة الفنية ابتليت اليوم بجيل لا يؤمن بالتدرج الطبيعي في بناء المسار الفني المساء – بصفتك من أبرز فناني العود، كيف يمكنك تقييم حالته في العالم العربي، في زمن أصبح كل ضجيج يسمى فنا، وأي كلام يسمى شعرا؟. حالة العود في العالم العربي صحية جدا ومطمئنة رغم كل هذا الضجيج، لأن لهذه الآلة العريقة جدا من المناعة الحضارية ما يجعلها تصمد أمام إعصار الرداءة والضجيج الفارغ. فعلى طول خريطة العالم العربي يوجد عازفون مهرة يبحثون ويطورون أساليب الأداء. وموازاة مع ذلك هناك جمهور متيم يعشق خطاب أوتار العود حتى النخاع، لأن نغمات العود تسري في وجدان الجمهور العربي، فالمصريون استعملوا آلة العود منذ أكثر من 3500 سنة، حسب كتاب «الموسيقى النظرية « لسليم الحلو، الذي يقر فيه بأن العود الفارسي أفضل من العود المصري. في نفس الكتاب أيضا يؤكد المؤلف، اعتمادا على كتاب «تاريخ التمدن الإسلامي» لجورجي زيدان، أن الآلات والأوتار والمعزوفات ونحوها هي من صناعة الفرس والروم ولم يعرفها العرب إلا بعد الإسلام. وكان أشهر العازفين على العود في العصر العباسي إسحاق الموصلي وإبراهيم المهدي وزرياب. إذن، آلة العود موغلة في الحضارة الإنسانية، ورافقت الذوق الإنساني والأذن البشرية على مر العصور. وتبعا لذلك لا يمكنها إلا أن تحافظ على شموخها. حاليا نعيش انتباها لافتا لهذه الآلة. ففي العراق، مثلا، وبعد جيل جميل ومنير بشير وسلمان شكر وغيرهم.. يحمل المشعل نجل منير بشير وعمر بشير ونصير شمة. وفي مصر وسوريا وتونس واليمن وغيرها من البلدان العربية يوجد عازفون يشتغلون بلا هوادة، إما بشكل فردي أوفي إطار ثلاثي أو رباعي العود، أو بشكل جماعي (مثل فرقة عود يفوق عددها خمسين عازفا)، بالإضافة إلى فكرة إنشاء بيت العود، التي انطلقت في القاهرة ونقلها مبدعها نصير شمة إلى تونس. وأنا على اتصال دائم، من خلال الموقع الاجتماعي فايس بوك، مع العديد من العازفين العرب، حيث نتبادل التجارب والمعلومات بشكل شبه يومي، دون أن ننسى صانعي هذه الآلة، الذين يدخلوننا، عبر العالم الافتراضي، إلى ورشاتهم للاطلاع على طرق وتقنيات بناء آلة العود. – أصدرت مؤخرا ألبوما فنيا جديدا يحمل اسم «عبير الوتر». هل الوتر المغربي لا يزال بخير؟. على غرار ما هو سائد في ربوع الوطن العربي، لا يزال الوتر المغربي كذلك بألف خير. فهناك تعدد في التجارب والمدارس وطرق العزف والتعامل مع الأوتار والريشة. لدينا هذا الغنى الكبير في العزف، فالعازفون على هذه الآلة ببلادنا كُثر، وهذه الكثرة الإيجابية والمثلجة للصدر مردها إلى كوننا نحظى بموروث موسيقي أثيل وأصيل هو الموسيقى الأندلسية. فالجوق الأندلسي كانت بدايته تعتمد على هذه الآلة. ورغم إضافة آلات أخرى فإن العود ظل يحتفظ بموقعه، بل إن عازفا واحدا غير كاف، إذ تجد في المجموعات الأندلسية عددا من عازفي العود قصد إغناء الأداء الوتري وتنوع نقر الريشات. بالإضافة إلى هذا المعطى برز عازفون برعوا في التعامل مع هذه الآلة، ففي اللون الأندلسي نذكر حميدو الشافعي، من جوق المرحوم مولاي أحمد الوكيلي، والمختار المفرج من جوق تطوان، ومحمد العربي التمسماني، الذي كانت له ريشة ساحرة وأنامل رشيقة تسحر الألباب. كما برز الأستاذ أحمد سليمان شوقي، رحمه الله، الذي تخرج على يديه عازفون كثر. ثم برز صاحب الريشة الذهبية الفنان سعيد الشرايبي، والفنان الحاج يونس. وعرف المشهد الموسيقي المغربي أيضا روادا ملحنين بالأساس، لكنهم عازفون مهرة على هذه الآلة بشكل أبهر المشارقة، مثل الأستاذ المرحوم أحمد البيضاوي، والمبدع المرحوم عبد الرحيم السقاط. الآن يمكن القول بأن عافية هذه الآلة تستمدها من ازدياد عدد عشاقها وازدياد عدد المشتغلين عليها، وأيضا من تنوع رائع للتجارب، فهناك مشروع العازف إدريس المالومي، وألبوم الفنان عبد الحق تكروين، والفنان مصطفى الوردي من ورزازات، وهشام الزبيري من تطوان، وكذا الأستاذ العربي أكريم، وهو من رواد العزف على العود بطنجة، وعبد المجيد خليقان من طنجة كذلك، وهشام التطواني، نجل الفنان الرائد عبد الواحد التطواني من سلا. أعتقد أنه لكي نعزز هذه النهضة الوترية أكثر يجب تنظيم مهرجان وطني للعود موازاة مع المهرجان الدولي لتطوان، الذي لا يمكنه أن يستوعب كل هذه التجارب الوطنية في العزف على العود نظرا لطابعه الدولي، وتنظيم ورشات دورية عن هذه الآلة بدور الثقافة والمؤسسات التعليمية بمختلف المدن المغربية. – في ألبوماتك الأخيرة قدمت معزوفات من لحن عبد النبي الجيراري وعبد الرحيم السقاط. هل هذا تكريم لرواد فن يرحلون أو ينزوون، ولا يتم تعويضهم؟ تكريم الرواد، سواء الذين رحلوا إلى دار البقاء أو الذين ينزوون، هاجس يسكنني دائما، لذلك ضمّنت ألبومي الأول «شموع» معزوفة من ألحان أستاذي عبد النبي الجيراري رحمه الله، وهي «اذكري»، الأغنية الشهيرة التي أداها المرحوم المطرب إسماعيل أحمد، والتي وجدت فيها كل مواصفات المعزوفة التعبيرية. وفي الألبوم الثاني اشتغلت على موسيقى المرحوم عبد السلام عامر، من خلال قصيدته الشهيرة «واحة العمر»، التي أداها عبد الهادي بلخياط. لقد وجدت فيها مشاهد موسيقية تعبيرية صالحة لتكون معزوفة صرفة على العود. وفي الألبوم الأخير «عبير الوتر» اخترت أستاذي الجيراري، من خلال معزوفة «ابتسم ياغزال». كما اخترت لحن «وشاية» للملحن المبدع المرحوم عبد الرحيم السقاط. وهذا التقليد سأظل وفيا له في كل الأعمال القادمة، إذ أفكر الآن في معزوفة «رقصة الغزلان» للفنان المرحوم عبد الوهاب أكومي، و»رقصة غرناطة» للأستاذ المرحوم عباس الخياطي، وهذا نوع من الاحتفاء بأعمال موسيقية أطربتنا عقودا من الزمن. – بدأت عزف العود وأنت طفل، وتدرجت في مختلف سلالم هذا الفن الجميل على مدى عقود، كيف تنظر، اليوم، إلى أشخاص يتحولون إلى فنانين بين عشية وضحاها، وكأنهم ساروا على منوال «كيف تصبح فنانا في خمسة أيام.. وبدون معلم»؟. فعلا .. ابتليت الساحة الفنية، اليوم، بجيل لا يؤمن بالتدرج الطبيعي في بناء المسار الفني. فكثيرون، حاليا، يريدون نجومية سريعة جدا، ويستعجلون الزمن بشكل غريب ظنا منهم أن التحليق سهل في سماء الفن، لكن سرعان ما يصطدمون بواقع مرير وآفاق مسدودة، فيكتشفون أنهم أصروا على التحليق بدون أجنحة.. أجنحة التجربة والممارسة والموهبة والصدق في الإبداع. نلاحظ كذلك أن عددا من الشباب يتجهون إلى برامج توهمهم بأن النجومية والمجد الفني يوجدان على مرمى حجر، لكن سرعان ما يعودون خائبين مصدومين فينسحب بعضهم نهائيا من المجال، والبعض الآخر يصحح المسار ويبدأ من الصفر. لقد تعلمنا من المرحوم الجيراري، الذي اكتشف عزيزة جلال وسميرة بنسعيد وعبد الهادي بلخياط وآخرين، أنه لا ينبغي إيهام المواهب الناشئة بنجومية زائفة، وأنه لابد من التكوين والمراجعة والتصحيح وغير ذلك. إن الذي جعل ناشئتنا تصدق مقولة «كيف تصبح فنانا في خمسة أيام وبدون معلم» هو هذا الزخم من البرامج في بعض القنوات التي تجامل أصواتا نشازا وتوهم أصحابها أنهم أصبحوا نجوما. – يعاند فن العزف على العود من أجل البقاء في زمن صارت فيه «فنون» أخرى سيدة الزمان والمكان. إلى متى سيستمر عناد العود قويا من أجل البقاء؟ العزف لا يعاند من أجل البقاء، بل يقوم بعملية إثارة وجدان المستمع فيعود به إلى الأصل، وهو الوتر الذي أعتبره، شخصيا وباقتناع، هو المستقبل. فالضجيج مجرد موجات عابرة يعود بعدها المرء إلى لحظات الصدق مع الذات، فالعزف ينتعش لدى الباحثين عن لحظات هدوء وعن السمو وعن لحظات شعرية حالمة. إنه مطلوب لدى شريحة واسعة من المتيمين المولعين بالموسيقى، ولولا هذا المناخ الصحي، نسبيا طبعا، لما واصلت إصدار ألبوماتي كنوع من التعاقد مع الجمهور الذي ينتظر الجديد. – عزفت إلى جانب كبار الفنانين العرب والعالميين، من بينهم النجم أحمد فؤاد نجم. احك لنا بعض هذه التجارب؟ مرافقة الكبار في العزف ومشاركتهم في عروضهم مسألة تغْني التجربة الفنية بدون شك، وقد سبق لي خلال تسعينيات القرن الماضي أن شاركت في أمسية بسلا مع عازف العود البريطاني بيل بادلي، الذي قام بجولة فنية في مدن فاسوالبيضاءوسلا للاطلاع على أهم مدارس العزف على العود بالمغرب. كما التقيت بعازفين كثر، منهم العازف السوري شادي العشعوش وعزفنا الكثير من المعزوفات في إطار نقاش فني كان مفيدا للغاية. وبحكم اشتغالي في مجموعة أندلسية أتيحت لنا في مناسبات عديدة فرصة العزف مع فرق «الفلامينغو» بإسبانيا. ومن ضمن الكبار كذلك أذكر الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم، الذي شاركت معه في عرضين خلال دورة المعرض الدولي للكتاب لسنة 2009: الأول بالدار البيضاء، والثاني بالرباط بالمكتبة الوطنية. – يقال إن العود ليس فنا عربيا خالصا، وأنه عجمي المنشأ وعربي الهوى وعالمي الانتشار، ودليل ذلك أن ذواقيه ينتشرون في كل القارات. هل تحس بهذا المُعطى وأنت تعزف أمام أجانب أو تقيم حفلا في عواصم غربية؟. العود منتشر بشكل واسع لدى الأجانب، ولعل عروض عازفينا المعروفين بالعواصم الغربية أكبر دليل على ذلك. العود يوصف بآلة الحكماء، فهي تثير فضول الأذن، فتجد الأجانب ينصتون إليها بكل اهتمام وبمنتهى الشغف. أذكر أننا كنا نسجل وصلة أندلسية بالقناة الثانية الإسبانية، وبعد الانتهاء من أداء المقاطع الموسيقية نزل المخرج وطلب مني مرافقته للقمطر الفني حيث يشتغل ويسمعني التسجيل، مبديا إعجابه بآلة العود، وكان حريصا على أن يكون عودي مسموعا ضمن بقية الآلات، فقد انجذب إليه بشكل لافت. – في معزوفاتك ألحان وإيقاعات غربية ولاتينية، مثل «البوليرو» و«الباسو دوبلي» و«الفالس» و«الرومبا». هل العود قادر على التموقع والإبداع في فنون أخرى، ولو تكون مختلفة جدا؟ العود يعتبر أفصح الآلات على أداء كل الأنماط الموسيقية بأنغامها وإيقاعاتها، لذلك نجد الملحنين يعتمدون عليها في صياغة ألحانهم. كما أنها تلعب دورا في تلقين اللحن للجوق، والإيقاعات، التي ذكرتُ، كلها تترجم بشكل واضح على العود بتقنية التعامل مع الريشة بما يُعرف بالصد والرد. الأنامل التي تعزف على العود تترجم الأنغام في شكل متناسق ومنسجم، وهذا ما حاولت القيام به في الألبوم مع إيقاعات غربية حاضرة في ألحاني مثل «باسو دوبلي «والفالس». العود حاليا حاضر في عدة تجارب مع فرق غربية مثل فرق الجاز بالخصوص، ومجموعات فن «الراي»، لأنه يضفى نكهة خاصة على هذه الألوان. – يحس المغاربة بأن العود يعاني من هضم كبير لحقوقه، خصوصا على شاشة التلفزيون. كيف تفسر غياب العود من شاشات القنوات المغربية، إلا فيما ندر، وعوض ذلك هناك استئساد لما صار يسمى «الموسيقى الشعبية»، التي تلعب على الصخب، وأحيانا الكلمات السوقية؟ حضور العود في المساحة التلفزيونية بقناتينا غير كاف بالنظر إلى المساحات المخصصة له في كثير من القنوات، بل هناك قنوات تقدم سهرات كلها برفقة العود في شكل جلسات طربية وترية. في بداية الثمانينيات قدم المخرج، إدريس المريني، سهرة في شكل جلسة كان حضور العود فيها لافتا من خلال الفنان عبد العاطي آمنا، وأعاد التجربة في برنامج «نغموتاي» مع عازفين مغاربة مرموقين كالحاج يونس وسعيد الشرايبي وإدريس المالومي وناصر هواري. كما أن برنامج «شذى الألحان»، الذي يعده الباحث عبد السلام الخلوفي، يخصص في كل حلقة لحظة طربية يحضرها صوت يرافقه أحد العازفين المهرة ببلادنا. مع ذلك نشدد على دور الإعلام السمعي والبصري في تعزيز وتكريس المزيد من الاهتمام بآلة موغلة في الحضارة الفنية، وهي آلة العود.