حين يقف مندوبو المغرب وممثلوه أمام المحافل الدولية لكي يعلنوا، وبوجه أحمر وبزهو وافتخار، أنهم يصادقون على كل المعاهدات الأممية المناهضة للعبودية والرِّق والمتعلقة بحقوق الإنسان، فإنهم يجانبون الحقيقة بعد أن اكتفوا بقشورها. فعلا، لم يعد هناك وجود للأسواق الأسبوعية في بعض المدن المغربية للمتاجرة في العبيد، فتلك صفحة من صفحات التاريخ عفا عليها الزمن ويقال إنها طويت بالنسبة إلى المغرب وإلى بلدان أخرى كثيرة. لكن المجتمعات التي لم تستكمل حلقات وعيها بالقيم والمبادئ تبقى قادرة على إعادة إنتاج سيناريوهات الماضي، لكن بصيغ مُبتكرة وبأسماء جديدة. قضية زينب «خادمة» القاضي وزوجته بوجدة تختزل لوحدها كل ملابسات الماضي الكئيب والحاضر الأليم. إنها زهرة واحدة من عشرات الآلاف من الزّهور التي يتم قطفها يوميا ووأدها في المهد قبل أن تغادر محطة الطفولة وقبل أن تمتلك الحق في الحلم بما تحلم به الصبايا في سنها، بل إنها ستضْطلع في بيوت «الأعيان» بمهام لو عرضت على الجبال لرفضتها، فهي في نفس الوقت الطفلة التي تربي أطفال الآخرين، والطباخة الماهرة، والمنظّفة الحريصة، ولْمسخرة فكل لُوقَاتْ، إنها أول من يسْتيقظ وآخر من يخلد إلى النوم، ولا حق لها في الحلم الزْوِينْ، من نصيبها فقط الكوابيس المخيفة. وقد أضيفت إلى مهام زينب العديدة مهمة التنفيس عن عقد الزوج وزوجته بأن تتحول، بقدرة قادر، إلى كيس (خنشة) منتفخ كيبْردُو فيه غدايدهم بحال البوكسورات وزادوا تقمَّصُوا شخصية الجلاد الذي يتلذذ بتعذيب ضحيته و«يبدع» في وسائل التنكيل النفسي والجسدي الذي حرق كل المراحل الممكنة ليصل إلى مرحلة حرق الأماكن الحساسة من جسد طفلة عمرها لا يتعدى 11 «ربيعا» أو لنقل «خريفا». قصة زينب واحدة من ألف ونقطة في بحر الاستعباد والعبودية الجديدة. إنها ارتُكبت في بيت شخص يحمل بين يديه ميزان «العدالة» وليس في بيت قطاع الطرق ومحترفي الإجرام. إن محرقة الطفلة زينب رفعت الحصانة الطبقية -في انتظار رفع حصانات أخرى كما رفعت الأقنعة عن وجه مسؤولين استقالوا منذ زمن بعيد في العديد من الميادين، وعلى رأسها عالم الطفولة حين أغمضوا أعينهم عن «السياحة الجنسية» التي يتم بموجبها تقديم أطفال كقرابين لمرضى العالم الأوربي وغير الأوربي من أجل استباحة أجسادهم، و«غمضو عينيهم» عن تشغيل الأطفال في مصانع وأوراش بدائية، وتابعوا باستخفاف ولا مبالاة «حريق» الأطفال عبر قوارب الموت إلى الضفاف الأخرى (كيتسناوهم يكبرو شوية ويدخلوا «الدُّوفيز» (العُملة الصعبة) للبلاد. إنه صمت مريب يطال طفولة هذه الأمة المكلومة. إن المغرب اللامبالي بصيانة مستقبله يُضحى بأجياله، الواحد تِلو الآخر. (وكاين اللي كيصرحو بلا حياء بلا حشمة للتلفزة بأنهم حريصون على تمتيع الخادمات القاصرات بحق التمدرس، لكن الواقع يكذب هذه النوايا والتصريحات، فأي تعليم ستلقاه قاصر تشتغل يوميا طيلة 18 ساعة بدون انقطاع؟ (الأشغال الشاقة هاذي). المغرب، «جْميلْنا» في التوقيع على كل الاتفاقيات ديال الكرة الأرضية المتعلقة بحظر ومنع عمل وتشغيل الأطفال، وبَصَمَ بالأصابع العشرة على كل المعاهدات التي تحمي الطفولة (ولكن عندنا ماشي غير كتحميها، كتحرقها بالنار الحامية). هناك دون شك رأي عام وطني وجمعيات حقوقية تتابع يوميا وقائع المآسي الرهيبة التي تلحق بالطفولة. إن وسائل الإعلام الرسمية تتغاضى عن قضايا تعذيب الصبايا الخادمات واغتصاب القاصرين لأنها لا تهم أحدا في نظرها، «هاذو غير الدراري». يقال، والله أعلم، إن هناك «ممثلين للأمة»، لكن صمتهم الأبدي حول هذه المواضيع الحساسة يجعلنا نتساءل بسذاجة: أي أمة يمثلون؟ إنهم «يمثلون» شيئا آخر غير هذه الأمة. فهل من قبيل المُحال أن يجد المجتمع المغربي في دواخله ما يكفي من قوة للخروج للمطالبة، بصريح العبارة، بتصحيح الاختلالات العميقة والظلم والعنف الذي يطال الطفولة المغربية، ومَحْوِ هذا العار الذي سيظلّ عالقا بذَاكرة المغرب وحاضره ومُستقبله؟!