تنشر «المساء» في واحتها الصيفية، صفحات من تاريخ الكرة المغربية، خاصة في الجانب المتعلق بوفيات رياضيين في ظروف لفها الغموض، وظلت جثامينهم ملفوفة بأسئلة بلا جواب، رغم أن الموت لا يقبل التأجيل. العديد من الرياضيين ماتوا في ظروف غامضة، وظلت حكايا الموت أشبه بألغاز زادتها الاجتهادات تعقيدا. ونظرا للتكتم الذي أحاط بالعديد من الحالات، فإن الزمن عجز عن كشف تفاصيل جديدة، لقضايا ماتت بدورها بالتقادم. كان مصطفى الناجي، رئيس فريق الصخور السوداء والرئيس السابق لعصبة الدارالبيضاء الكبرى والعضو الجامعي الأسبق، على موعد مع الموت قبل خريف سنة 2008، فالرجل عاش كدمات نفسية كادت توقف نبض قلبه في أكثر من مناسبة، أبرزها حين غادر مكرها كرسي رئاسة عصبة الدارالبيضاء، بعد أن فوجئ في يوم الجمع العام بمجموعة من مؤيديه وهم يغيرون جلدهم ويبايعون رئيسا جديدا. لم يقو الرجل على التصدي للانقلاب الأبيض وقرر الانسحاب في صمت ليعرض نفسه على أطباء القلب الذين لطالما نصحوه بالابتعاد عن ملاعب الكرة. تعددت محطات النكد في حياة الناجي، وارتفع مؤشر الضغط كلما حلت بالكرة المغربية والرياضة عموما نكبة دامية، فحين فوتت جماعة الصخور السوداء مركب الشهداء إلى فريق الرجاء البيضاوي، انتفض مصطفى وأرغى وأزبد واعتبر الصفقة محاولة لإقبار فريق المنطقة نادي الصخور السوداء، بل أكد أن التفويت هو تشريد لفريق يمثل الجماعة. تدخلت مجموعة من المسؤولين الرجاويين، كعبد العليم بينيني والإداري رضوان الطنطاوي والمدير سعيد بوزرواطة، من أجل تذويب جليد الخلاف بينه وبين المكتب المسير للرجاء، واقترحوا صيغة توافقية تجعل فريق الصخور السوداء في عهدة الفريق الأخضر، وكأنهم تنبؤوا برحيل الناجي. في أيامه الأخيرة، كان مصطفى متابعا مداوما للألعاب الأولمبية ببكين، وكلما جاءتنا أخبار من الصين محملة بنكبات نبتلعها على مضض كوصفات العشابين، إلا وضرب الناجي كفا بكف وهو يردد لازمته الشهيرة: «هذا علاش الملك ما استقبلهمش»، وحين يصر أحد محاوريه على إلصاق تهمة الإخفاق بالحظ العاثر أو التحكيم المتحيز أو سوء الأحوال الجوية أو زحمة بكين.. ينتفض مصطفى وتنتفخ أوداجه ويمسح شعلة السيكار في المرمدة بعنف ظاهر، وهو يحاول أن ينهي النقاش بأقل الأضرار تفاديا لمضاعفات حوار أقرب إلى جدال برنامج «الاتجاه المعاكس». قبل أربعة أيام من وفاته، أرسل الناجي إلى «المساء» بلاغا حول الجمع العام لفريقه، وطالب هاتفيا بنشر الخبر وتأمين التغطية الإعلامية لجمع قال إنه سينهي خلافاته مع الرجاء ويلمّ شمل أسرة الصخور السوداء. تبين من نبرته الهادئة أن الرجل اقتنع فعلا بأن النزاع مع رفاق الأمس لا يزيده إلا أوجاعا، فرمى بالسلاح في المعركة وغادر الخندق نادما على الساعات التي ضيعها في حروبه الصغيرة. بعد نشر البلاغ، جاء الخبر الصادم.. لقد مات الناجي إثر نوبة قلبية لم تمهله طويلا، بعد أن حاصره الألم وهو في جلسته المعتادة بمقهاه المألوف في ساحة 18 نونبر بوسط المدينة. كان ينتظر قدوم رفيقه بن ماما، الرئيس السابق لنادي «الياسام»، الذي اعتاد مجالسته ونسج نقاشات معه قاسمها المشترك أزمة الرياضة المغربية.. انتابه قلق ظاهر وقرر مغادرة المكان وهو ينظر إلى عقارب ساعته. فجأة، سقط على قارعة الطريق، تحلق حوله المارة ونودي على سيارة إسعاف حملته إلى مستشفى الصوفي. لم يكن يحمل بطاقة هوية، فقد ظل يحفظ وثائقه في سيارته. وحين أراد أفراد الطاقم الطبي ملاقاة مخاطب من أجل الإفضاء إليه بما لديهم حول الحالة الصحية للناجي لجؤوا إلى آخر رقم تحدث إليه عبر هاتفه النقال فكان بن ماما على الخط، حضر في الحين إلى عين المكان وطالب بنقل الناجي إلى مصحة خصوصية.. بعد يومين، لفظ مصطفى أنفاسه في قسم العناية المركزة دون أن يكتب له تحقيق الوفاق الرجاوي. ومن المفارقات الغريبة أن يوارى جثمانه الثرى بمقبرة الشهداء بالدارالبيضاء، التي لا تبعد إلا بأمتار قليلة عن ملعب الصخور الذي ظل يناضل من أجل استقلاله. كان الموكب الجنائزي يسير ببطء وكأنه يمكن الفقيد من فرصة إلقاء آخر نظرة على ملعب كان ملاذه الثاني بعد منزل الأسرة. وشاءت الصدف أيضا أن يلقى رئيس شباب الصخور السوداء ربه يوم الأحد، وهو اليوم الذي كان يهيم فيه على وجهه بين الملاعب المتربة. لكن بالرغم من مكانة الرجل كعضو كامل العضوية في جامعة كرة القدم ورئيس سابق لأم العصب، فإن الكثير من المسؤولين تخلفوا عن موعد الوداع الأخير وارتكبوا أم المعاصي حين تغيبوا عن الجنازة، ومنهم من اكتفى بعزاء بالوساطة أو رسالة نصية على هاتف محمول لأفراد عائلة الفقيد مختزلة في عبارة إنا لله وإنا إليه راجعون، ربما لهم عذرهم فالتهافت على جلب أشباه لاعبين قد ينسي الكثير من المسيرين والمدربين عنوان المقابر، خوفا من منطق الفناء الذي يقول «الرجل المناسب في القبر المناسب». رحم الله مصطفى الناجي الذي ودعنا وفي صمامات قلبه وخزة تنكر، وغادرنا ناجيا من الاعتراف.