في واحتها الصيفية تعود «المساء» إلى أرشيف الأغنية المغربية لتنبش في ذكرياتها، وتكشف بعضا من المستور في لحظة إنتاج هذه الأغاني، من خلال شهادات شعراء وملحنين ومطربين ومهتمين كانوا شاهدين على مرحلة الولادة، شهادات تحمل لحظات النشوى والإمتاع في الزمن الجميل للأغنية، وأخرى تحرك جراح البعض الذين يصرون على البوح للقارئ رغم جرأة البوح وألمه في بعض الأحيان. «اغضب كما تشاء و اجرح أحاسيسي كما تشاء حطم أواني الزهر و المرايا، هدد بحب امرأة سوايا فكل ما تقوله سواء وكل ما تفعله سواء فأنت كالأطفال نحبهم مهما لنا أساؤوا اغضب إذا يوما مللت مني واتهم الأقدار و اتهمني أما أنا سأكتفي بدمعتي وحزني فالحب كبرياء و الحزن كبرياء اذهب إذا أتعبك البقاء، فالأرض فيها العطر والنساء»، هي كلمات الشاعر الرومانسي الكبير نزار قباني الذي أبدعها في سنوات الخمسينيات، هي بالنسبة إلى الجمهور العربي الأغنية التي فتحت للفنانة السورية أصالة نصري - بعد نجاح أغنية «لو تعرفوا»- أبواب الشهرة الحقيقية سنة 1996، إلا أن قليلا من المغاربة والعرب يعرفون أن أشعار نزار قباني قد حولها الملحنون المغاربة، قبل عقود إلى ألحان بأصوات مغربية، منها المطربة المعتزلة بهيجة ادريس التي أدت أغنية «اغضب» في ستينيات القرن الماضي. ويقول فنان مقرب من المطربة إن أغنية «اغضب» لحنها الملحن الكبير عبد اللطيف السحنوني، رغم أن الاعتقاد كان كبيرا بين الفنانين المغاربة بأن ملحن الأغنية هو الملحن الراحل وزوج بهيجة إدريس عبد الرحمن الكردودي، وفي تفسيره لهذا المعطى ذكر أحد أقارب بهيجة أن تلك الفترة من تاريخ الأغنية المغربية شهدت الانفتاح على الريبرطوار الشعري لنزار قباني. هذا الانفتاح تكرس في أداء بهيجة لأغنية «كلمات» التي لحنها عبد الرحمن الكردودي، وهي الأغنية، كذلك، التي نجحت بها بعد عقود، الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي، رغم أن القليل فقط هم الذين يعرفون أن بهيجة ادريس كانت أول من شدا بالأغنية. ويضيف المصدر أنه في ظل نجاح هذه الأغنية طالبت الملحن عبد اللطيف السحنوني بتلحين أغنية «اغضب»، هذا الأخير الذي نجح في منح الشعر اللمسة المغربية التي جعلته يختلف بشكل كلي عن الشكل الذي غنت به الفنانة السورية أصالة نصري. انفتاح بهيجة إدريس على أشعار نزار قباني تفسره مصادر أخرى بهجرتها إلى القاهرة عاصمة الفن العربي في سنوات الخمسينيات والسبعينيات، هناك تقوت علاقتها بكبار الفنانين العرب الذين كانوا يزورون المغرب لإحياء السهرات، إذ تعرفت على العندليب الأسمر وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب ونسجت علاقات فنية مع رياض السنباطي ومحمد الموجي اللذين عرفا في تلك اللحظة بالاشتغال مع كوكب الشرق وعبد الحليم حافظ، وبالرغم من الشهرة التي كان من الممكن أن يخوله لها الاستقرار هناك، آثرت بهيجة إدريس أن تعود إلى المغرب. انطلق مسار بهيجة إدريس مع محمد بنعبد السلام زوج أختها أمينة إدريس، التي يعرفها الجمهور المغربي من خلال أغنية «آلو تيليفون»، بأغنية «عندي وحيدة» التي كتب كلماتها عبد الله شقرون. نجاح الأغنية جماهيريا أفضى إلى إنتاج أغان أخرى (الشمس غربات، حبيبي لما عاد التي غناها كذلك أحمد البيضاوي، أنت هاني، ماتفاهمناش)، إلا أن أغنية «عطشانة» تبقى خالدة في ذاكرة المغاربة. حدث التحاق الفنانة بهيجة الإدريسي بالمجال الفني خلق عدة أحداث خاصة، من بينها حديث بعض الفنانين الذين عاصروا انطلاقة بهيجة ادريس التي ظهرت بتقليدها لأغنية لنجاة الصغيرة، عن معارضة نقباء الأدارسة على مشاركة امرأة تحمل لقب الإدريسي، مما أفضى برأيهم إلى تغيير الإسم من بهيجة الإدريسي إلى بهيجة إدريس، وهو الشيء الذي نفاه أحد المقربين من الفنانة الذي فند الرواية، بالقول: «أولا الشريفة تنتمي إلى شجرة العلميين، من جهة ثانية لم يعترض أحد على غنائها، ولكن هناك حدث يستحق الذكر، ويرتبط بقرار الملك الراحل محمد الخامس بتوظيفها في الإذاعة الوطنية بسلم لم يكن يحلم به أحد في تلك الفترة. قرار توظيفها كان بمثابة تعويض لها شرط عدم غناء بهيجة في المسارح، لعدة اعتبارات، من بينها أنها لا زالت صغيرة وكان يخاف عليها من المعجبين، لأن المجال في تلك اللحظة التاريخية كان خطرا في بعض الأحيان، وبحكم أن محمد الخامس كان يعامل الشريفة كابنته، فقد منعها من الغناء في المسارح، هذه حادثة وقعت». وجدير بالإشارة أن الفنانة بهيجة ادريس المزدادة في سنة 1938 بمدينة مكناس تنتمي إلى عائلة فنية، فأخوها هو محمد الإدريسي الذي اشتهر بأغاني «عندي بدوية»، «بنت بلادي زينة»، «يا زهرة جيبي الصينية»، «يد الله»، كما أن أختها مطربة وزوج أختها هو الملحن الكبير محمد بنعبد السلام، بالإضافة إلى كون زوجها عبد الرحمن الكردودي ملحن العديد من الخالدات. في مسارها الفني أنتجت الفنانة بهيجة ادريس أكثر من مائة أغنية بين الأغاني العاطفية والوطنية، من بينها: «رجع لي وكان مسافر»، «خايفة قلبي لايبوح بسري للناس»، «عطشانة»، «ما تفاهمناش»، «اغضب»، «عرفناك جميل»، «قصيدة المالحة»، «عندي وحيدة» رفقة ابراهيم القادري، «يا جميل يا اللي»، «سنواتي»، «حبيبي تعال»، «قصيدة ليلتي»، «بشار الخير»،«الورد غار من خدك»، «أيام زمان»، «أيام شبابي»، «يا اختي قولي لي»، «مظلومة»، «الشمس غربات»، «من غير ميعاد»، «الشمس غربات»، «انت هاني وانا هانية»، «يا سيد القاضي» رفقة عبد الوهاب الدكالي، «حبيبي أنا»، «أنت القمر»، «القمر الأحمر» و«مالو الهوى كان عنده قيمة».