بعد شُهورٍ تسعة من الأزمة الصامتة بين الأممالمتحدة والمغرب على خلفيتين: الأولى مرتبطة بتعيين رئيسة للمينورسو بغير تشاور مع الجانب المغربي، في خرق سافر للأعراف الدبلوماسية المعمول بها؛ والثانية متعلقة بالتقرير السابق للأمين العام الأممي في نونبر 2014، والذي جاء بما لم يأت به الأوائل من تحيز واضح لأطروحة الجزائر وربيبتها جبهة الانفصاليين، وإقحامه مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء ضمن التقرير. وردا على هذه "الانزلاقات" حتى نستعمل "نوموكلاتورا" وزارة الخارجية، أقدمت المملكة على مقاطعة غير مُعلَنة للمبعوث الشخصي لبان كي مون، ورفضت استقبال المسؤولة الجديدة للقوات الأممية؛ فماذا تغير حتى يتراجع المغرب عن موقفه ويقدم هذه التنازلات؟ وهل قدم خصوم المغرب تنازلات مقابل ذلك؟ أم إن الأمر لا يعدو كونه فخا جديدا سقطت فيه وزارة الخارجية، يُضاف إلى "البالْمارِيس" الذي في حوزتها منذ القبول بفصل ملف الصحراء عن ملف سيدي إفني سنة 1969، وبعد ذلك القبول بالتفاوض المباشر سنة 2007 مع الانفصاليين، علما بأن مجرد مصافحتهم على عهد الملك الراحل كانت جريمة يُعاقب مرتكبها بأن "يُلطخ بابُ بيته"... ما تداولته مختلف المصادر حول اللقاء الذي جمع كبير الدبلوماسيين المغاربة بلجنتي الخارجية في البرلمان مطلع شهر فبراير، لا يوحي بأن شيئا ما قد تغير لدى الخصوم، كما لدى الأمين العام الأممي؛ فحكاية الضمانات الشفوية للسيد بان كي مون ليست بالجديدة، فقد سبق لهذا الكوري الجنوبي أن قدم ضمانات مماثلة أو، على الأقل، هكذا قيل لنا، بمناسبة تراجع المغرب عن سحب الثقة من مبعوثه الشخصي روس نهاية عام 2012؛ فهل أصاب عقلنا الدبلوماسي داء "الزهايمر" إلى درجة تكرار نفس السيناريو خلال ظرف لا يتجاوز سنتين اثنتين؟ أم إن المفاوض المغربي ينطلق كل مرة من الصفر دونما حاجة إلى مراجعة "سُوَرِه" للوقوف على أخطائه، وتقدير زاوية الانحراف عن الخط الأصلي للمفاوضات، وتحديد الانزياح عن أهدافها المحددة قبل حوالي ثماني سنوات من المحادثات المباشرة وقُرابة العشرين سنة من المحادثات غير المباشرة؟ لنتذكر أن الجزائر وربيبتها الانفصالية أجبرتا الأممالمتحدة نهاية غشت 2008 على تغيير المبعوث الأممي "بيتر فان فالسوم" بعد سحبهما الثقة منه بسبب تصريحه بنصف الحقيقة، وليس بالحقيقة كاملة، حين أعلن أن الحل الواقعي الوحيد لنزاع الصحراء هو الحكم الذاتي، وأن الجزائر وربيبتها ترغبان في إطالة عمر المفاوضات إلى ما لا نهاية! مع العلم بأنه مجرد تصريح لم يُدْرجه في أيّ تقرير أممي كما هو الحال اليوم مع تقارير السيد روس التي تترجِم بكل "أمانة" موقف خصوم المغرب. لنتذكر أن المغرب يطالب، منذ سنوات، الأمين العام الأممي بإحصاء اللاجئين المحتجزين في مخيمات تندوف الخاضعة للإدارة الجزائرية، دون أن يلقى هذا الطلب أي رجع صدى من الأمين العام الذي يصطدم بجدار الرفض الجزائري الذي يضرب عرض الحائط باتفاقية جنيف لعام 1952، بل إن المبعوث الخاص للأمين العام ذهب إلى أَبعد من ذلك حين صرح روس بأنْ لا حاجة إلى هذا الإحصاء، وأن الأرقام التي يقدمها البلد المضيف كافية؛ وهو تحيز لا لبس فيه لموقف الطرف الآخر. لنتذكر أن خصوم المغرب استطاعوا بدهاء أن يُزيحوا مسار المفاوضات عن عمقه السياسي إلى مناقشة قضايا جانبية، والنكوص إلى ما كان عليه الوضع سنة 1992.. انزياح صاحَبه تسجيل النقاط على الجانب المغربي الذي قدم تنازلات مجانية دون مقابل من الطرف الآخر. وهل ننسى أن المغرب قدم مقترح الحكم الذاتي بعد إلحاح الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن لإخراج المفاوضات من المأزق الذي كانت تتخبط فيه قبل 2007، وكشف بذلك عن ورقته الرابحة والنهائية في المفاوضات دون أن يتنازل حكام قصر المُرادِيّة و"كراكيزهم" في تندوف، قيد أنملة، عن مواقفهم الستالينية؛ وهو خطأ استراتيجي يعرفه كل المختصين في فن المفاوضات. وإذا كانت الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، فإن العكس يعني القفز في المجهول، وهو ما حدث مع هذا المقترح، حيث أصبح مجرد ورقة ضمن سلة المتلاشيات الأممية. إن غياب أي تقييم مُعلن من قبل الدبلوماسية المغربية لمسار المفاوضات بأشواطها غير المباشرة وجولاتها المباشرة، وعَدَم حِفْظ ذاكرة المفاوضات، يُضعف المفاوض المغربي ويمنح الامتياز للخصوم؛ فإلقاء نظرة سريعة على منحى هذا المسار كفيلة بأن تكشف عن إفراغه من عمقه السياسي وإغراقه في قضايا جانبية وتفصيلية دائما ما تؤجل إلى المرحلة النهائية في كل المفاوضات الدولية. وقد نهج الخصوم هذا التكتيك الماكر لجرّ المغرب إلى شَرَكِهم. فهم ولا شك يدركون بأن اختيار ميدان المعركة هو نصف الانتصار. وأكثر من ذلك، أصبح المبعوث الأممي يسمح لنفسه بلقاء زمرة ممن يشاء من انفصاليي الداخل، ويرفض لقاء العشرات من جمعيات الصحراويين الوحدويين. وبنفس المقاربة الإقصائية، يرفض الاجتماع بتيار "خط الشهيد" في المخيمات أو إدراج أي إشارة إلى سلمى ولد سيدي مولود المنفي قصرا إلى موريتانيا، في حين ينتقل إلى بيت أمينتو حيدر للقائها، هي التي تأكل الغَلّة وتَسُب الملّة. وفوق هذا وذاك، يرفض السيد كريستوفر الإشارة إلى الجزائر بالاسم في أي من تقاريره، مُبرّرا ذلك بعدم رغبته في إحراج هذا البلد! كما يرفض، لنفس السبب، عدم ذكر اللاجئين الذين يُفضلون البقاء في المغرب عند نهاية الزيارات العائلية المتبادلة التي تنظمها المفوضية العليا. لا أحد يُجادل في أن الظّرفية الدولية والإقليمية ليست في صالح الخصوم، فالعالم في سباق ضدّ الساعة لوقف تداعيات "السقوط العظيم" لدويلات "سايكس-بيكو" في المشرق العربي تحت راية "داعش"؛ والدول العظمى مُنشغلة بانتشار بوكو-حرام في الساحل والصحراء؛ أما الاتحاد الأوربي فتَرْتعد فرائِصه ممّا يجري في أوكرانيا واحتمال اندلاع حرب كونية جديدة على أبوابها، ناهيك عن انشغاله بصعود "سيريزا" إلى سدة الحكم في اليونان، وما يشكله من تهديد للمنظومة الأوربية إن هو أقْدمَ على تنفيذ وعوده الانتخابية. والملف الأوكراني له تداعيات أخرى على مجلس الأمن وعودة الأمور إلى سابق عهدها أيام الحرب الباردة واستحالة التوافق أو الإجماع بين أعضائه. أما دول أوربا الجنوبية فمنشغلة أكثر بما يجري قبالة سواحلها في ليبيا ودخول مصر في نفق مظلم لا تبدو فيه إلى الآن أي نقطة ضوء؛ فضلا عن انسداد الأفق السياسي لنظام العسكر في الجزائر، وتفاقم أزماته السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية، بل والطائفية والعرقية. إن الفرص التاريخية لا تتكرر إلا نادرا. وفي تقديري، فإن الدبلوماسية المغربية قد ضيعت فرصة ذهبية لاستعادة المبادرة، وإعادة تقييم شامل لِمَسار المفاوضات برُمّته بعد أزيد من 23 سنة من دخول قوات "المينورسو" إلى المغرب. كان بالإمكان أن تُستثمر "الانزلاقات الخطيرة" للمبعوث الأممي وتقاريره المتحيزة، ورفْضُ إحصاء اللاجئين المحتجزين بمخيمات لحمادة، وعدم التجاوب مع مقترحات المغرب، وعودة الخصوم إلى نقطة الصفر في كل جولة جديدة.. كان بالإمكان استثمار هذا الرصيد السالب للمبعوث الأممي في وقف العملية بأكملها، والدفع نحو سحب القوات الأممية من الصحراء، وإعادة الملف إلى الجمعية العامة وإخراجه من كواليس مجلس الأمن، وتحميل الجزائر كل التبعات السياسية والأمنية على المنطقة وعلى السلم العالمي. والرُّبان البارع هو من يُحسن استغلال الرّياح لتوجيه سفينته نحو مرساها.