هذا الكتاب، الذي قدم على شكل كاتالوغ فني مزدان بصور فوتوغرافية، رسومات، وخرائط، لم يكن طموحه تقديم كشف كامل لمجالات أوربا ولآفاقها، لتشكلاتها وإنجازاتها السياسية، الإعلامية، العلمية والثقافية، بل كان قصده تقديم بانوراما عامة عن يوتوبيا خصيبة، اسمها أوربا، تنمو وتتقدم بأخطائها، تعثراتها وإنجازاتها. في اللغة الفرنسية، يحيل فعل arpenter، والذي يمكن ترجمته ب: مسح الأرض، ذرعها، جاب وجال في رحابها، على ميدان الهندسة مثلما يرمز إلى التجوال، قياس المسافات، مسح الأراضي لتحديد وتقويم حدودها. والكتاب الصادر حديثا عن منشورات «آكت سود» في 273 صفحة، بعنوان les arpenteurs de l’Europe، والذي يحتمل ترجمته إلى «جوالو أو مهندسو أوروبا»، يفي بغرض مسح أراضي أوربا لتقديمها في كثافتها الجغرافية، من خلال ترسبات التاريخ في عمقها بما هي كيان، بل كيانات متباينة ومكتملة، متحاربة ومتحابة. ولترسيم معالم هذه الورشة التي اسمها أوربا، وفي أفق الانتخابات الأوربية التي ستقام ابتداء من رابع يونيو القادم، جندت، بإشراف رونيه هيربوز، أقلام 21 شخصية سليلة تخصصات متباينة، لكنها متكاملة: فلسفة، تاريخ، سينما، هندسة، إعلاميات، إعمار، مسرح، إلخ... من بين الأسماء المساهمة: إدغار موران، تزفيتان تودوروف، جاك لوغوف، ميشال دوغي، بيار نورا، بيتر بروك، بيار سولاج، فيم فينديرز، إلخ... ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام رئيسية: يركز القسم الأول على إشكالية «بوثقة أوربا ومعابرها». يعالج القسم الثاني إشكالية «الآفاق»، أما القسم الثالث فيدرس «الأصول والتألقات». لا يلبث القارئ أن يلاحظ أن مسألة التخصص تنمحي لصالح الرغبة في تقديم رؤية شمولية للموضوع قيد الدرس، إذ يتحول الشاعر أحيانا إلى مؤرخ، والمهندس إلى فيلسوف ونلمس في هذا الحرص، الرغبة في إحياء الروح الأنسكلوبيدية، التي كانت إحدى ركائز النهضة الأوربية. في التقديم الذي كتبه إدغار موران بعنوان «أوربا، ذاكرة ومشروع»، يشير الفيلسوف وعالم الاجتماع إلى أن تاريخ أوربا هو تاريخ الأمم التي تشكلت بتناقضاتها وصراعاتها الدامية، والتي مثلت الحرب الكونية الأولى ثم الثانية ذروتها الدامية. لولا تدخل أمريكا ومقاومة الاتحاد السوفياتي، لكانت أوربا قد قضت. بعد تقديم إدغار موران لأوربا الحديثة بصفتها ابنة الحرب، يرسم المؤرخ جاك لوغوف، في جرد مركز، أهم الحقب التاريخية لأوربا منذ ما قبل التاريخ إلى عام 1989، غداة انهيار جدار برلين. تاريخ أوربا المشوب بالاستمرارية تارة وبالانتكاص في أغلب الأحيان، حظي بمميزات أهمها ولادة مؤسسة سياسية، أصبحت لاحقا لازمة ديمقراطية لمسارها التاريخي. إلى وقت قريب، ساد الاعتقاد بأن الفرنسيين جان مونيه وروبير شومان هما مهندسا الوحدة الأوربية الحديثة. يخفف الكاتب الإسباني خورخي سيمبرون، الذي شغل سابقا منصب وزير الثقافة في حكومة فيليبي غونزاليس، من هذا اليقين السائد، لينسب هذه الولادة إلى الفيلسوف الألماني إدموند هوسيرل الذي ألقى عام 1935 بفيينا محاضرة بعنوان: «أزمة النزعة الإنسانية الأوربية والفلسفة» التي طرح فيها لأول مرة وبشكل رؤيوي الوجه الفكري لأوربا واضعا مبدأ قيام العقل ما وراء الانتماء للوطن، كشرط للإفلات من البربرية. أوربا مسار تاريخي، سياسي، معرفي، لكنها أيضا جغرافيا متميزة يقربنا منها العالم الجغرافي ميشال فوشي، يقربنا من مجالها الرحب مستندا إلى الخرائط والصور، وكشوفات الأقمار الاصطناعية، حيث نلمس التجسدات والتجسمات لدقائق المدن: شوارع، نقط إنارة، مرافق حيوية. ونقف عند درجة رقي أوربا عن طريق الإنارة والاخضرار. أوربا مضاءة ليلا وخضراء نهارا. في مقال «شخصيات من التاريخ الأوربي»، يقف دومينيك بورن وبيار مونيه عند عشرة وجوه كان لها وقع حاسم في مجالها الخاص. شخصيات مرتحلة وفي ترحالها نقلت المعارف، اللغات، الأنظمة السياسية والثقافية. وكانت النتيجة تلاقح المناهل الإغريقية، الرومانية، البربرية، المسيحية، اليهودية، الإسلامية. يشير الباحث إيف ميشو إلى أن مواقع المعرفة خاصية أوربية وتبقى دليلا على حيويتها ونهضتها الدائمة. مواقع المعرفة هي إلى حد ما مواقع الذاكرة. في هذا الموضوع، يشير المؤرخ بيار نورا إلى أنه منذ 25 سنة والحديث سار عن هذا الموضوع من دون نتائج تذكر اللهم انعقاد ندوات ومناظرات لطيفة لإغداق المجاملات، فيما تشكلت أوربا على مهل، على مستوى المؤسسات. ويثير المؤرخ روزنامة تناقضات في صعوبة تعريف أمكنة الذاكرة أو مواقعها. «فتوى للتسامح». بهذا العنوان طرح الشاعر والفيلسوف ميشال دوغي مسألة التسامي والتسامح مشددا الحديث على ضرورة انبثاق تربية جديدة لتقويم انتكاص أوربا وتخليصها من يوتوبيا رغبة إقامة الوحدة. يجب الدعوة إلى التسامي أو التعالي بما هما حركة تؤسس ما هو سام تبعا لرغبة شارل بودلير ومن بعده بول فاليري. في عنوان «الهوية التعددية»، يراجع المفكر، والمؤرخ تزفيتان تودوروف مفهوم التعددية الثقافية الأوربية بدءا من أعلام الأدب والفكر الذين نحتوا مفاصلها: مونتاين Montaigne، دفيد هيوم. تتماشى التعددية الداخلية مع الانفتاح على التأثيرات الخارجية. استلهمت أوربا الوسيطة من العالم الإسلامي التراث الإغريقي وأيضا التراث الهندي والصيني. أوربا هي إذن محصلة تلاقح....، أروبا التي تحدوها رغبة تأسيس ثقافة تقوم على الاستثناء، تواجه كباقي الدول، أمركة العالم. فريديريك مارتيل، المتخصص في الثقافة الأمريكية يتقاسم وتودوروف هذا التحليل، لكن مع تركيزه على نقاط ضعف الثقافات الأوربية بخاصة الثقافة الفرنسية. يقصد المثقفون والمبدعون اليوم أمريكا لإنجاز مشروع سينمائي، لإقامة معرض تشكيلي، تمرير أفكار فلسفية أو نقدية. هذا لا يعني أن أوربا قد انتهت كمجال للإبداع. لأوربا مكانتها ولها أوراق يمكن أن تلعبها شريطة أن تستند إلى الواقع وليس إلى فانتزمات. هل يمكن تصور أوربا من دون عمقها المتوسطي؟ كيف ستكون أوربا من دون المتوسط؟ يتساءل الكاتب والناقد تييريه فابر، في مقال بعنوان «الأفق المتوسطي»؟ ليجيب: لن يكون لأوربا لا اسم ولا هيئة من دون عمقها المتوسطي.. أهم ما يستخلص من هذا المؤلف، التشديد على الذات قبل وحدة النحن. على أهمية الثقافي قبل الاقتصادي والسياسي. لا أحد يحب بلاده بسبب سياستها وأسواقها، يشير المخرج السينمائي فيم فيندرز. في عصر الصورة، فإن الثقافة، وبالأخص السينما، هي إحدى أدوات تأسيس الوعي الأوربي.