لقد حضرت الجزائر في أذهان جماعة الانقلاب في مصر، فهناك حكم عسكري برأس مدني هو الرئيس بوتفليقة، وفي مصر حكم عسكري برأس عدلي منصور، رئيس المحكمة الدستورية العليا. وإذا كانت تونس الثورة رفضت الاعتراف بالانقلاب العسكري، فقد رأى العسكر أن الحكم الجزائري يمثل امتدادهم الاستراتيجي! وقد حضرت الحالة المصرية في وجدان الثورة التونسية، وسمعنا عن محاولات لأحزاب الأقلية لتقليد ما جرى في مصر، من خلال تشكيل جبهة الإنقاذ وحركة تمرد.. وفي المقابل، كان حضور مصر سببا في تقديم حركة «النهضة» لتنازلات جمة، فقبلت بتشكيل حكومة تكنوقراط فاشلة، تحملت «النهضة» نتيجة فشلها، مما كان سببا في الخصم من رصيدها في الشارع على النحو الذي أبرزته نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة. ورفضت حركة «النهضة» خوض الانتخابات الرئاسية، بل وتزيدت ورفضت أن تسمي مرشحا لها، حتى بعد أن انحصرت المنافسة بين مرشح الثورة المنصف المرزوقي، والباجي السبسي الذي ينتمي إلى مرحلة ما قبل التاريخ، إذ اعتبرت الحركة أن حرص الإخوان على المنافسة على الرئاسة في مصر كان سببا في ما جرى لهم وفي الانقلاب على المسار الديمقراطي من قبل الجيش. وفي الحالتين، حالة الثورة وحالة الثورة المضادة، فإن المملكة «المغربية» استمرت بعيدا، إلى درجة أنها لم تغضب القوى الموالية للشرعية لاعترافها المبكر بالانقلاب العسكري.. لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن! فسلطة الانقلاب في مصر رأت في الجزائر حليفا استراتيجيا، ولاسيما أن كليهما معني بالشأن الليبي بدرجة أو بأخرى، وفي أحد الوجوه فكلاهما معادٍ، بدرجة أكبر في مصر، وأقل في الجزائر، للربيع العربي.. أتحدث هنا عن النظام وليس عن الشعب الجزائري، فضلا عن أن السيسي منحاز إلى عسكري مثله هو خليفة حفتر، المعادي للثوار الليبيين، وقد اجتمعت إرادتهما على ضرورة الإطاحة بالثورة الليبية، كما أطاح الجيش في مصر بالثورة! لقد كانت أولى زيارات السيسي الخارجية للجزائر، وهناك بنى حلفا مع النظام الجزائري على قاعدة التحالف ضد الثورة الليبية، لكن الجزائر لديها مشكلة الصحراء، ولا بد من أن تكون مصر (السلطة) معها في هذا الملف، فكان الاستدعاء للمغرب «الغائب»، ليكون هدفا للانقلاب وهدفا لإعلامه الذي يمثل الانحطاطُ أداةً له! ولهذا فعندما تطاولت مذيعة موتورة، بفضائية نجيب ساويرس «أون تي في»، على المغرب، كتبت أن التطاول يدفع إليه التقارب بين السيسي والحكم في الجزائر، والذي هو على حساب المغرب. المذيعة المنفلتة وصفت الشعب المغربي بالدعارة، وقالت إن اقتصاده قائم عليها. ولم يكن المغرب قد «داس للانقلاب على طرف» أو قد جهر له بالقول، كجهر الدول المعادية بعضها لبعض! في الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على غزة، كان طبيعيا أن ينحاز الانقلاب في مصر إلى الموقف الإسرائيلي ضد المقاومة الفلسطينية، ولم يكد يخاطب أحدُ قادةِ المقاومة شعبَ المغرب وحكومته، عاطفيا، بالحديث عن «باب المغاربة» في المسجد الأقصى، حتى «ردحت المذيعة» للمغرب القائم اقتصاده على «الدعارة»! لقد وجد رجل الأعمال المالك لفضائية «أون تي في» مصالحه في المملكة المغربية معرضة للخطر بسبب هذا الأداء الأرعن، فاعتذر وأقال المذيعة التي كان أداؤها ليس بعيدا عن السياق العام، ولكنه كاشف عن تنازع الولاء، فالإعلام الموالي للانقلاب متعدد الولاءات، والسيسي -مثلا- لا يملك جميع الإعلاميين إلا عندما تكون المعركة بين الانقلاب وخصومه؛ لكن بعيدا عن هذا فهناك تيار ضاحي خلفان وهناك جماعة ساويرس، ولا أظن أن هذا الانفلات في التعامل مع «المغرب» كان بعيدا عن التوجيه ممن يملك حق التوجيه في سلطة الانقلاب، لكنه توجه بالرسالة إلى المذيعة الخطإ هنا فكان قرار إقالتها من قناة «أون تي في». ما قالته المذيعة إياها لم يكن بعيدا عن السياق، فهناك وفد صحفي سافر إلى الصحراء المغربية، وبدعوة من سفارة الجزائر في القاهرة، فكان طبيعيا أن يتبني وجهة نظر الجزائر ويقدم المملكة المغربية على أنها قوات احتلال؛ والوفد الصحفي التقى بالانفصاليين وحدهم؛ وقد أشادت التقارير المنشورة بالموقف الجزائري والدعم اللامحدود الذي تقدمه الجزائر إلى الذين يعيشون في وطنهم الثاني «الجزائر» إلى حين تحرير أرضهم من «المحتل المغربي»! وكان التوجيه واضحا، فلم نقرأ سوى لدعاة الانفصال، ولم نطالع وجهة نظر الجانب الذي يمثل «الاحتلال الغاشم». وطالعنا كلاما يؤكد التوجه الجديد للسلطة الحاكمة في مصر، فكما جاء في أحد التقارير أن «زيارة السيسي للجزائر رفعت معنويات الصحراويين، فتنامي العلاقات المصرية الجزائرية سيصب بلا شك في مصلحة الشعب الصحراوي».. ونقل على لسان من تم تقديمه على أنه الرئيس الصحراوي: «إننا متفائلون بالرئيس عبد الفتاح السيسي»! لغير المتابعين، فالقضية الصحراوية تمثل قضية أمن قومي للمغرب. وتكمن المشكلة في أن هذا البلد الشقيق لم يجر احتلاله كما هو شأن بلدان كثيرة وقعت تحت الاحتلال، فقد تم تقطيعه إلى أجزاء، ألحق المستعمر الفرنسي بعضها بالجزائر، وقام المستعمر الإسباني باحتلال بعض المناطق الجنوبية، من بينها الصحراء المغربية، وبعد استقلاله دخل المغرب مفاوضات مع الإسبان للجلاء فكان استقلال الصحراء في سنة 1975، لكن الجزائر حاربت طول الوقت ضد وحدة الأراضي المغربية، ودوافعها معروفة! فالجزائر من مصلحتها أن تتعامل مع الحدود التي رسمها الاستعمار، ومن بينها التعامل مع «الصحراء» على أنها كيان منفصل، لأن الحدود المغربية - الجزائرية لم ترسم وفق قاعدة ما للمغرب للمغرب وما للجزائر للجزائر، ولهذا فإن دولة الجزائر، المنحازة إلى تقرير المصير في الصحراء، كانت ضد فكرة انفصال جنوب السودان، لأن في هذا إخلالا بقاعدة الحفاظ على الحدود كما قررها الاستعمار! وقد تنازل المغرب كثيرا في سبيل الحفاظ على وحدة أراضيه فقدم إلى الأممالمتحدة وإلى مجلس الأمن اقتراحا تمت الإشادة به دوليا، وإن كان لم ينجز أثرا لصالحه على الأرض بسبب الموقف الجزائري المنحاز إلى قضية الانفصال، وهذا التنازل يتمثل في إقرار الحكم الذاتي للصحراويين، وذلك منذ سنة 2007. لقد عادى الانقلاب العسكري في مصر المغرب بسبب تحالفه مع الجزائر، ولم تكن سقطة المذيعة إياها سوى تعبير عن التوجه الجديد؛ واللافت أنه بعد إقالتها، حدث أن استضاف أحد البرامج في فضائيات الانقلاب الفنان يوسف شعبان، ليجري دفعه إلى الحديث في مجال بعيد عن اهتمامه، تماشيا مع حشد الانقلاب الجميعَ في معركته ضد الثورة ومن ينتمي إليها، فقال إن مؤسس جماعة الإخوان «حسن البنا» أصوله مغربية، وفي المغرب -والكلام له- يوجد من بين كل أربعة أشخاص ثلاثة من اليهود، بشكل يؤكد أن حركة الإخوان المسلمين هي حركة يهودية بالأساس، لكون أصول مؤسسها مغربية! وقد وصلت معلومات لدى السلطة في المغرب مفادها أن الانقلاب بصدد الاعتراف بدولة الصحراويين وفتح سفارة لها في القاهرة، «عربون محبة للجزائر». وبطبيعة الحال، فإن هذا لن يؤثر عليه داخليا، لأن المغرب العربي بعيد عن العين لعقود، وبالتالي لا يعرف المصريون ماهية القضية الصحراوية، وربما نظروا إليها على أنها دولة مثل بقية الدول «البعيدة عن العين»! وفي مواجهة هذه الحملة المنظمة، قامت القناة الأولى في «المغرب» بتقديم تقرير بمناسبة السنة الجديدة، وصفت فيه الحاصل في مصر بالانقلاب، وأكدت أن الرئيس مرسي هو الرئيس الشرعي المنتخب؛ كما بثت القناة الثانية تقريرا عن الانهيار الاقتصادي في مصر بسبب الحكم العسكري! ولأن المملكة المغربية «بعيدة عن العين»، فقد عبر كثيرون عن دهشتهم لهذا التحول، ولم يعلموا بأنه مجرد رد فعل على ممارسات حاكم منقلب، يعبث في الشؤون الداخلية للدول الشقيقة، وهو ينظر تحت قدميه، لا يتجاوز بصره أبعد من ذلك قيد أنملة! لهذا وجب التنويه بحقيقة تحول الموقف المغربي من حكم عبد الفتاح السيسي الذي قد يدفعه غشمه إلى إلغاء صلاة «المغرب»، فأربعة فروض في اليوم تكفي، وقد يجد من بين شيوخ الأزهر من يشيد باجتهاده الرصين، كما تمت الإشادة بكل خروج سافر له على تعاليم الإسلام من قبل! سليم عزوز