اللوحة التشكيلية النادرة والثمينة التي تم العثور عليها في مكتب حميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال، لم تكن مسروقة، بل كانت تشبه السيارة المعطوبة التي تحتاج إلى «كاراج». لقد كانت تحتاج إلى إصلاح فقط. حكاية تلك اللوحة بدأت وانتهت بسرعة، حيث اكتشف عدد من أهالي تطوان أن اللوحة الرائعة للفنان العالمي ماريانو برتوتشي، التي يقارب سعرها المليون دولار، اختفت فجأة من مقر حزب الاستقلال بتطوان، واعتبرت مسروقة، ثم تبين بسرعة أنها موجودة في مقر آخر لحزب الاستقلال، وهذه المرة في الرباط، وظلت تُعتبر مسروقة إلى درجة أن حقوقيين وجمعيات مدنية قررت مقاضاة حميد شباط بتهمة السرقة. لكن الحكاية انتهت قبل أن تبدأ، حيث خرج حزب الاستقلال ببيان يقول إن اللوحة لم تُسرق يوما، وأن «فاعل.. خير» رآها في تطوان فأشفق لحالها، لأنه لا يعقل أن تكون لوحة بتلك القيمة الفنية والمالية في مدينة مثل تطوان، فحملها معه إلى العاصمة الرباط وعلقها حيث تستحق أن تكون، أي في مكتب الزعيم الاستقلالي حميد شباط، تطبيقا للآية الكريمة «والله فضل بعضكم على بعض في الرزق». البيان أضاف أن سبب حمل اللوحة من تطوان إلى الرباط هو إصلاحها، ولا أحد يعرف إن كان مكتب حميد شباط قد تحول إلى ورشة إصلاح، ليس إصلاح الدراجات، بل إصلاح اللوحات الفنية. الغريب أن تطوان تتوفر على واحد من أفضل معاهد الفنون التشكيلية في العالم. وهذه المدينة، التي تلقب بالحمامة البيضاء، تِؤوي بين جناحيها عددا كبيرا من الفنانين التشكيليين الموهوبين، ولا توجد مدينة في إفريقيا والعالم العربي تضاهي تطوان في مواهبها التشكيلية وفنونها الجميلة، ورغم ذلك تم حمل لوحة برتوتشي لإصلاحها في الرباط، وبالضبط في مكتب الأمين العام لحزب الاستقلال. لماذا، مثلا، لم يتم تشكيل لجنة من أفضل فناني وفنانات تطوان في مجال الفنون التشكيلية من أجل إصلاح لوحة برتوتشي، هذا إذا سلمنا أصلا أن اللوحة كانت تحتاج إلى إصلاح؟ فهل يوجد في الرباط ما لا يوجد في تطوان؟ ولماذا لم يصدر، منذ البداية، بيان لحزب الاستقلال يقول إنه تم حمل اللوحة إلى الرباط من أجل الإصلاح، فذلك كان أفضل بكثير من أن يتم إصدار بيان بعد أن صارت «السرقة» فعلا واقعا لا تتناطح عليه عنزتان؟ ثم كيف يمكن أن نصدق رواية حزب الاستقلال، التي تقول إن اللوحة «جاءت» إلى الرباط من أجل الإصلاح، بينما كانت معلقة في مكتب شباط؟ الحقيقة أن قضية لوحة برتوتشي ليست مجرد قضية لوحة مسروقة أو مهرّبة، إنها قضية تعكس واقع أشياء كثيرة في هذه البلاد. والواقع يقول إن سياسة المغرب النافع والمغرب غير النافع لا تزال هي السائدة، وأن المركز لا يزال يحتقر المناطق، وأن مدنا مثل تطوان أو وجدة أو العيون أو أكادير أو آسفي تعتبر في درجات أدنى من مدن مثل الرباط أو الدارالبيضاء. حكاية إصلاح «اللوحة التطوانية» تذكرنا بشيء أمرّ، هو حكاية «إصلاح النخبة التطوانية» بعد الاستقلال. ففي تلك الأيام البعيدة، وما هي ببعيدة، كانت في تطوان ومدن الشمال عموما، نخبة عربية الثقافة واللغة وإسبانية اللسان والمزاج، وبعد الاستقلال لم تجد هذه النخبة مكانا لها في «المغرب الجديد» لأن السياسيين الحاكمين كانوا فرنكوفونيين حتى النخاع، وكل من كان يجب أن يساهم في الحكم عليه أن يكون مثلهم، وهكذا حدث لنخبة تطوان والشمال نفس ما حدث للوحة برتوتشي، أي أنه تم حملهم إلى الرباط من أجل الإصلاح، والإصلاح هو إخراجهم من دائرة الثقافة العربية الإسبانوفونية وإدخالهم حظيرة الثقافة الفرنكفونية، أو المرض الفرنكوفوني.. بعبارة أدق. لوحة برتوتشي الهاربة من تطوان نحو الرباط هي جزء من أشياء كثيرة جدا «هربت» من مدن المناطق نحو مدن المركز بعد الاستقلال. اسألوا الوجديين عن تحفهم ومعالمهم الكثيرة أين ذهبت، واسألوا أهل الصويرةوآسفي، وابحثوا عن تحف العرائش وساعتها الشهيرة كيف اختفت. يمكنكم أن تبحثوا في ملف خطير جدا اسمه «أملاك الدوق دو طوفار»، وهو ثري إسباني فاحش الثراء ترك كل أملاكه لفائدة مدينة طنجة وسكانها، فاختفى كل شيء وبيعت أملاكه بين مافيا متكاملة الأطراف، إلى درجة أن لوحة رسمها الفنان العالمي بيكاسو، كانت ضمن التحف الثمينة المهداة إلى طنجة، اختفت وبيعت، وثمنها يفوق اليوم 80 مليون أورو. موضوع «الدوق دو طوفار» كبير جدا وخطير جدا.. ويحتاج لوحده إلى حلقات طويلة جدا.