مدرب لبؤات الأطلس يوجه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    أديس أبابا: انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    مغرب الحضارة زيارة الرئيس الصيني للمغرب عندما يقتنع الكبار بمصداقية وطموح المغرب    "مرتفع جوي بكتل هواء جافة نحو المغرب" يرفع درجات الحرارة الموسمية    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري    انخفاض مفرغات الصيد البحري بميناء الناظور    فتح بحث قضائي في شبهة تورط رجل أمن في إساءة استعمال لوازم وظيفية واستغلال النفوذ    إسبانيا...كيف إنتهت الحياة المزدوجة لرئيس قسم مكافحة غسل الأموال في الشرطة    موتسيبي "فخور للغاية" بدور المغرب في تطور كرة القدم بإفريقيا    معهد التكنولوجيا التطبيقية المسيرة بالجديدة يحتفل ذكرى المسيرة الخضراء وعيد الاستقلال    بوعشرين: أصحاب "كلنا إسرائيليون" مطالبون بالتبرؤ من نتنياهو والاعتذار للمغاربة    تيزنيت : انقلاب سيارة و اصابة ثلاثة مديري مؤسسات تعليمية في حادثة سير خطيرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    سبوتنيك الروسية تكشف عن شروط المغرب لعودة العلاقات مع إيران    الوزير برّادة يراجع منهجية ومعايير اختيار مؤسسات الريادة ال2500 في الابتدائي والإعدادي لسنة 2025    فولكر تورك: المغرب نموذج يحتذى به في مجال مكافحة التطرف    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب        مرحلة استراتيجية جديدة في العلاقات المغربية-الصينية    محامون يدعون لمراجعة مشروع قانون المسطرة المدنية وحذف الغرامات    كأس ديفيس لكرة المضرب.. هولندا تبلغ النهائي للمرة الأولى في تاريخها    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        تخليد الذكرى ال 60 لتشييد المسجد الكبير بدكار السنغالية    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    وسيط المملكة يستضيف لأول مرة اجتماعات مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط        الموت يفجع الفنانة المصرية مي عزالدين    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها        مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يقطين: ينبغي أن تكون أولاً مبدعاً كي تؤمن بالقيم الإبداعية
قال إن ما يجمع الأعضاء الموجودين في اتحاد كتاب المغرب اليوم هو الهاجس المصلحي وليس الهاجس الإبداعي
نشر في المساء يوم 19 - 11 - 2014

سعيد يقطين، إضافةً إلى اشتغاله في السرد، فهو لا يطمئن إلى بيتٍ بنافذةٍ يتيمة، فبيتُه متعدد النوافذ، ومتعدد الأبواب. ثمَّة ما يُشْبِه، في اشتغاله، الممر الذي يفضي إلى كل الغُرف، كما يُفضي إلى أكثر من فضاء، وأكثر من مكان، لكن السرد يبقى هو الخيط الناظم الذي يَشُدّ النسيج كاملاً، ويجعل الثّوب واحداً، رغم تعدد «الحواشي»، بالتعبير المجازي المُشْكِل لأبي تمام. فهو واحد من المثقفين المغاربة الذين لم ينسلخوا عن واقعهم، بل إن الواقع عند سعيد، يبقى، دائماً، من المنظور الثقافي، هو المجهر الذي يفضح هشاشة الأشياء، أو ما قد تبدو به صلابَةً وتماسُكاً خاِدعَيْن. أن يأتي سعيد من العمل الجمعوي، ومن العمل السياسي، ومن الاشتغال بالإعلام الثقافي، والانخراط في المجتمع، بكل تفاصيله، فهذا يكفي ليجعل منه مثقفاً يحظى باحترام الجميع، في المغرب، كما في غيره من البلدان العربية.
- أنت واحد من النقاد والباحثين الذين يشتغلون بالسرديات والسيميائيات وأيضاً بنظرية الأدب والنقد الأدبي وبالتراث السردي العربي الإسلامي، طبعاً إلى جانب الثقافة الشعبية. في السنوات الأخيرة، حدثت في مسارك المعرفي انعطافة لافتة، هي ذهابُك للبحث في ما تسميه النص المترابط أو الكتابة الرقمية، كوسيط أدبي جديد، إلى جانب اشتغالك بالمسألة الثقافية في المغرب. ما الذي يبرر هذا النوع من «التشتُّت»، في أكثر من اتجاه، علماً أنَّك ترى في نفسك مشتغلاً في الأدب، ثم إنَّ هذه الحقول لا تكتفي بالأدب، بمفهومه التقليدي، بل تتجاوزه، وتنفتح على المعرفة في تقاطعاتها المختلفة، أم أن الجامعة هي التي فرضت هذا النوع من العمل في كل هذه الحقول والمجالات؟
سؤال مهم جداً، لاعتبارات كثيرة: الاعتبار الأول، أنه لامَس طبيعة العمل، ونوعيته، والاعتبار الثاني، يتعلق بالأدب وانفتاحه على حقول متعددة، ثم ثالثاً، مسألة الوسائط التي يمكن أن نعتبرها ثالثة الأثافي في هذا السياق. أتصور المسألة من الزاوية التالية، وهي أنني أومن، أولاً، بالاختصاص الضيّق، وثانياً أومن بأن أي اختصاص، كيفما كان نوعه، في مرحلة من مراحله، يمكنه أن ينفتح على الاختصاصات الأخرى. يمكن أن أعتبر مسألة الاختصاص، فعلاً كما قلتَ، شديدة الاتصال بعملي الجامعي والأكاديمي، وأرى أن واحدةً من كبريات المشاكل التي تعاني منها الجامعة، في الوطن العربي وفي المغرب، هي غياب التخصُّص الضيّق، فنحن تَعلَّمْنا في الجامعة، وكذلك في الثانوي، مسألة التكامل المنهجي، أو مسألة تعدد الاختصاصات، بمعنى الاشتغال وفق تصور موسوعي عام منفتح، ينطلق من أن الأدب هو الأخذ من كل شيء بطرف. وأعتبر هذه المسألة ذات أثر سلبي على مردودية العمل. بالنسبة إليّ، كيف اشتغلت وفق هذا التصور، في ضوء الاعتبارات الثلاثة التي تحدثت عنها؟ فالمسألة الأولى تتعلق بالتكوين الأول الذي تكونتُه، فأنا من جيل السبعينيات، وكان هاجسنا الثقافي (وإن كنتُ أتحدّث بصيغة الجمع، فأنا أفترض أنني أتحدث بضمير المتكلم، فأنا جزء من هذا المناخ العام الذي تكوَّننا فيه) هو الأساس. والهاجس الثقافي لم يكن من أجل الثقافة فقط، ولكن من أجل ربط ما هو ثقافي بما هو اجتماعي، وبما هو سياسي. وهذا جعل المدخل هو الأدب. في دراساتي الأولى، الأدب هو الذي بصَّرني بالمجتمع، وأدَّى بي إلى الانخراط في العمل السياسي، باعتبار أن الأدب هو التزام بقضايا المجتمع، في خدمة الثقافة، في خدمة الصيرورة التي ينشدها المجتمع، من أجل تطوره. من هنا كان الانفتاح على ما هو اجتماعي، وما هو اقتصادي، وما هو فلسفي، في التكوين. فكان التكوين شاملاً، رغم أنني راودتُ كتابة الشِّعر في البداية، ثم بعد ذلك كتابة السرد، ثم الانتقال إلى النقد الأدبي، ورغم ذلك ظل، دائماً، هاجسي، هو أن للأدب وظيفة اجتماعية. في دراستي الجامعية، اشتغلت في الدراسة الأدبية، وبالنقد الأدبي، وبالمناهج الجديدة، إلى أن ارتبطتُ بالمرحلة البنيوية، وحاولتُ الإمساك بروح البنيوية التي رأيتُها في النزوع العلمي. من هنا جاء إيماني بالاختصاص. فأنا وصلتُ إلى الاختصاص من أرضية موسوعية، وعندما تشكل لديَّ هذا الاختصاص، رأيتُ ضرورة الانفتاح على اختصاصات أخرى متعددة، أي الذهاب إلى الموسوعية من جديد، ولكن هذه الموسوعية مؤطرة في إطار اختصاصي المحدد، وكان اختياري للسرديات مهماً جداً، لأنَّ السرد موجود في كل الخطابات، موجود في ما هو أدبي، وفي ما هو غير أدبي، وبالتالي أتاح لي اهتمامي بالسرد أن أشتغل بالرواية، وبالقصة القصيرة، وبالسرد القديم، وبالتراث الشعبي، لأن فيه، كذلك، حضوراً لما هو سردي، وجاء انتقالي إلى الثقافة الرقمية انطلاقاً من الهاجس نفسه. فالمسألة، في نهاية المطاف، ليست تشتتاً، وليست توزعاً بين اختصاصات متعددة. يمكن أن أقول إن هناك رؤية نسقية عامة، وهذه الرؤية النسقية تتحدَّد من خلال بنيات متعددة، يحضر فيها ما هو سردي، على الصعيد المنهجي، أي الانطلاق من السرديات البنيوية، وجعلها منفتحةً على اختصاصات أخرى، إلى الاهتمام بالوسائط، بمعنى الانتقال من الشفاهي إلى الكتابي إلى الرقمي. فهذا، بصفة عامة، ما يحدد طبيعة العمل الذي أشتغل به، ولذلك ففكرة النوافذ التي يمكن أن نفتحها في كل مرة، مهمة جداً، لتوسيع الأفق من جهة، ولكن لا يمكن أن نفتح نوافذ دون أن تكون هناك أرضية ننطلق منها.
- أتفق معك في مسألة فتح النوافذ، فهي اليوم أصبحت من الضرورات القصوى، في توسيع مجالات المعرفة، ولكن كما قلتَ، لا بُدَّ من أرضية، لكن حين أعود إلى تركيزك بشكل خاص على التخصص الضيق، وأنت تركز على الأدب بشكل خاص، ألا ترى معي أن الأدب اليوم توسَّع في مفهومه، ولم يعد هو الشعر والنقد والسرد؟ علماً أن هذه الحقول، أو المفاهيم، هي مفاهيم متحركة، وقابلة للتَّوسُّع، وأنت حين تحصر عملك في الأدب، باعتباره نوعا من التخصص، هل يعني هذا أنك لم تخرج من المعنى القديم والتقليدي للمفهوم، علماً أن اشتغالك بالسيميائيات، مثلاً، يفرض عليك الانفتاح على ما يتجاوز الأدب، نفسه، لكون السيميائيات هي أفق للانفتاح، ليس على ما هو تعبير باللغة، بل بتعبيرات مختلفة، منها العلامات والإشارات، وإيماءات الوجه، والجسد. وهنا يصبح للأدب أكثر من نافذة، أكثر من مدخل، وأكثر باب.
فعلاً، الأدب مفهوم متحرك، وحتى مفهوم الأدب، في الدراسات الغربية والعربية، هو مفهوم حديث، ووليد القرن التاسع عشر، ولكن هذا المفهوم يتحول بتحوُّل الوسائط، وأريد قبل أن أستمر في هذه الفكرة أن أشير إلى أنني لستُ مختصّاً في السيميائيات، صحيح درَّسْتُها سنوات طويلة، واستفدتُ منها في دراساتي، ولكنني لم أعتبر نفسي قطُّ سيميائياً، وهذا لا يعني أنني لا أفكر، أو لا أنطلق من تصوُّرات سيميائية في اشتغالي بالحقل السردي. مفهوم الأدب الذي أشتغل به هو مفهوم متغير ومتحول، والفكرة التي أُشَكِّلُها عن الأدب تتجاوز المعنى الذي أُعْطِيَ له في القرن التاسع عشر، ومن هنا تلاحظ اهتمامي بالسيرة الشعبية العربية، باعتبارها نصاً، علماً أنني، هنا، أميز بين الأدب وبين النص، وهذا التمييز سمح لي، وأنا أشتغل في السرد، أن أعتبر السرد يتسع لمختلف الحقول الإبداعية، والأدب سيصبح، في جزء أساسي من ممارسته، مرتبطاً بما هو سردي، لذلك في إحدى المحاضرات بجامعة سلطنة حاولتُ أن أنظر للأدب، بما عَرَفَهُ من متغيرات، في ضوء استعمال الوسائط، فقلتُ إن تاريخ الإبداع اللفظي، بصفة خاصة، مر بثلاث مراحل، أختصرها في الشعر، أي في المرحلة الشفاهية، ثم الأدب، مع مرحلة الطباعة، وأخيراً السرد، مع الوسائط الجديدة والمُتفاعِلَة. ولذلك قلتُ، في تلك المحاضرة، إنَّ مفهوم السرد، اليوم، صار هو المفهوم الجامع الذي يتجاوز مفهوم الأدب، ولهذا نجد الدراسات السردية، الآن، تتسع لمختلف ما أنتجه الإنسان. وهنا سيُعانِق ما هو سردي ما هو سيميائي، فالسرد يمكن أن نجده في الصورة، في الموسيقى، في السينما، في المسرح، بمعنى إن السرد موجود في كل شيء، حسب القولة الشهيرة لرولان بارث. أنا حتى عندما أقدم نفسي، في إطار الاختصاص الذي أشتغل به، لا أقول ناقد أدبي، بل باحث سردي. وباعتباري باحثاً في السرد، أرى أن هذا المفهوم هو المفهوم الحقيقي الذي يمكن أن نتعامل معه، تجاوزاً لمفهوم الأدب بمعناه الضيق. وانفتاحي على الثقافة الرقمية جاء وليد هذا الاهتمام، ولذلك حتى العنوان الفرعي الذي جعلتُه عنواناً للكتاب الأول «من النص إلى النص المترابط»، لم أقل «الأدب» ولكن «مدخل للإبداع التفاعُلي»، والمقصود بالإبداع التفاعلي كل الإبداعات التي يمكن أن نجد البعد السردي هو الجوهري فيها.
- على ذكر السرد، عودتُك إلى التراث السردي القديم، في بعض مضامينه النصية كما أشرتَ، قبل قليل، مثل سيرة سيف بن ذي يزن، والسيرة الهلالية، هل هو محاولة منك ل«تأصيل» الرواية العربية، بالبحث لها عن سَلَف، أو سند في الماضي، أم هو سعي منك للكشف عن الروح الحية في هذا التراث، بنوع من القراءة المنتجة للتراث، وهذا نفسه ما حاولتَ نقله في تبريرك لبعض المفاهيم، مثل مفهوم التناص، الذي عُدْتَ به إلى ماضي «النقد» العربي؟
مسألة تأصيل الرواية، هذا نقاش قيل فيه الشيء الكثير، وأن الروائي العربي عندما عاد إلى التراث السردي العربي القديم، كان الهدف منه، هو تأصيل الرواية، في حين أن الرواية لا يمكن أن نُؤصِّلَها بشيء آخر غريب عنها، فاعتبارها إبداعاً تُؤصِّل نفسها بما يمكن أن تقدمه للقارئ، فأي نوع، مهما كانت طبيعتُه، لا يُؤَصَّل بالرجوع إلى التراث، يمكنه أن يتفاعل مع التراث، يمكنه أن يستفيد من تقنياته..
فأنا حين أتحدّث عن التأصيل هنا، أتحدَّث عن مفهوميْن مختلفيْن داخل التأصيل: التأصيل بمعنى العودة ببعض الإنتاجات الروائية، أو بعض الأنواع الكتابية الحديثة، إلى التراث العربي القديم، هذا حَدَثَ في الشعر، في المسرح، في القصة، في كل حقول الإبداع. ولكن التأصيل الذي تتحدَّث عنه أنتَ، هنا، هو القيمة الإبداعية للنص في ذاته. ما أعنيه، أنا، هنا، هو هذه العودة إلى الماضي، هل هي نوع من البحث عن خلفيات للنص السردي الحديث في هذه النصوص التي اشْتَغَلْتَ عليها.
عندما آثرتُ مسألة التأصيل كنتُ أناقش تصوُّراً نقدياً سائداً لأبين أن الدراسة النقدية التي اشتغلتُ بها. فهي في رجوعها إلى السرد العربي القديم لم تكن تريد أن تقول إنَّ عندنا تراثاً سردياً، مُهماً، لم نتعرَّف عليه بالصورة التي يمكن أن تُجدِّد تفاعُلَنا معه، ليس من أجل تأصيل الرواية، ولكن من أجل إبداع جديد. وهذا الإبداع سنجده لدى العديد من الكتاب الغربيين الذين تفاعلوا مع التراث العربي القديم، وحاولوا إنتاجَه. فعندما طرحتُ مسألة التراث العربي من هذه الزاوية، وأنا أتحدَّث إلى الروائي، أقول، يمكن للروائي العربي أن يتفاعل، ليس فقط مع التراث العربي الإسلامي، ولكن مع التراث الإنساني، وفي ذلك إثراء للتجربة الإبداعية العربية. المقاصد التي كنت أريد تحقيقها من العودة للتراث، جاءت بعد إقامتي لمشروعٍ لدراسةِ السرد العربي من خلال الرواية، وأنا اشتغلتُ بالرواية الجديدة، التي تقدم تقنيات جديدة، وتحاول أن تُجَدِّد على مستوى الشكل، ورأيتُ أن الدراسات الأجنبية التي أستفيد منها، هي أيضاً، اشتغلتْ أكثر بالرواية الجديدة، وقدَّمَت لنا صوراً، ومفاهيم، وتصوُّرات، صارت متبادلة بشكل غير دقيق، مثل تعدُّد اللغات، تعدد الرواة، تعدد الصيغ، كَسْر خطِّيَة السرد، فقلت إن هذه المفاهيم الجديدة لو اشتغلنا بها على نصوص سردية قديمة ماذا ستعطينا. عندما عدتُ إلى السيرة الشعبية القديمة، باعتبارها من النصوص الطويلة في التراث السردي العربي، وجدت أن العديد من التقنيات التي يستعملها الروائي الحديث موجودة في هذه النصوص. وهذا ما يعطي قيمة، من جهة، للجانب النظري، هي أن التحليل السردي هو تحليل ملائم. إن السرد فعل إنساني له بنيات إنسانية مشتركة، تماماً كما نجد في اللغة، وكان هذا المقصد، ذو بعد نظري، البعد الإبداعي أو الثقافي، وهو أن الكثير من تراثنا ظل منسياً، بقينا على مسافة منه، وأنَّ تطوُرنا لا يمكن أن يكون بدون تفاعل إيجابي مع التراث، لأنه سينبهنا إلى أن هناك تراثاً إنسانياً آخر، تفاعل معه التراث العربي، وهذا دفعني إلى الاهتمام بالتراث في الهند، في الصين، وبالتراث الأوربي في العصور الوسطى، الذي كان متفاعلاً مع التراث العربي. وهذا يؤكد، في نهاية المطاف، المقصد النظري العام، هو أن دراسة السرد، مثل دراسة اللغة، فيه ما هو إنساني، وما هو مشترك، وفيه ما هو خاص بوضع ثقافي، وتفاعُل المبدع وتفاعُل الباحث هو الذي يمكن أن يُساهم في تطوير الإبداع والنظرية معاً.
- في جوابك أشرتَ إلى كلمة «مشروع». ثمَّة من تحدَّثوا عن مشروع نقدي عندك، وهذا عطفاً، على سؤال سابق، يبدو أنه غير ممكن الحديث عن مشروع، في ظل هذه المراوحة بين أكثر من أرض، فأنت تنتقل من أرض إلى أخرى، مثلاً ما الذي يمكن أن يجمع بين ذهابك نحو التراث السردي والتراث الشعبي، ثم اشتغالُك في ما تسميه بالنص المترابط؟. صحيح أنك حاولتَ أن تبرر هذه المسألة، ولكن يبدو لي أن هناك نوعا من التشويش، الذي قد يؤخر هذا المشروع أو يعطله، أو يجعل القارئ غير قادر على أن يجمع الخيوط الناظمة لطبيعته، وأتوقع هنا ردة فعل القارئ، والمهتم الذي يحتاج إلى أن يجمع كل هذه الخيوط في نسيج واحد.
منذ كتاب «القراءة والتجربة»، وقد صَدَر قبل كتاب «تحليل الخطاب الروائي»، الذي كنتُ أشتغل فيه في نفس الوقت، وأنا أحاول أن أبين أنَّ هناك مشروعا يشغلني. صحيح أنَّ القارئ، الذي لم يطلع على كل أعمالي، يصعب عليه أن يحيط به، لأن كل كتاب هو حلقة من هذا المشروع، لسبب بسيط، هو أنه مشروع مفتوح، إنه يتطور أفقياً، كما يتطور عمودياً. الملامح العامة لهذا المشروع تكمن أولاً في الخلفية المعرفية المُنطلَق منها، والتخصصية، وهي السرديات، فأنا لم أشتغل خارج هذا النطاق. وكتاب «الرواية والتراث السردي» جاء ليكون بمثابة الجسر للانتقال إلى السرد العربي القديم. يمكن أن أعتبر هذه مرحلة أولى، أي انطلاقاً من الرواية إلى التراث السردي. لا يمكن أن أعتبر هذا الانتقال بمثابة خروج عن المسار الذي كنتُ أشتغل به، ولكنني أعتبر هذا تطويراً لهذا المسار. فالبحث في علاقة الرواية بالتراث السردي جاءت بعده مرحلة أخرى، هي مرحلة البحث في السيرة الشعبية، باعتبارها نصّاً سردياً، وليد شروط وملابسات في الثقافة العربية، لا ملحمة العرب في العصور الماضية، أو رواية العرب، في هذه العصور، كما سمَّاها البعض. سمح لي هذا بالانتقال من الثقافة العالمة إلى الثقافة الشعبية. وفي هذا رؤية مقصودة للإشارة إلى أن الإبداع العربي واحد، وأن التمييز بين نصوصه له شروط تاريخية خاصة.
هذا المزج بين الثقافتين، تحت منطلق الاهتمام بما هو سردي، جعلني أوسع مشروع البحث من الرواية الجديدة، إلى السرد القديم، وفي ذلك محاولة لفهم العلاقة التي يمكن أن يأخذها الإنتاج السردي على المستوى الإنساني، في التاريخ. في إحدى أطروحات ميخائيل باختين، وهي من بين الأطروحات المتميزة، وأنا أتبنَّاها، لأنني أجد ما يدعمها في الواقع، وليس لأن باختين هو قائلها، رَأَى أن جذور الرواية في العصر الحديث كامنة في الثقافة الشعبية. وفعلاً وجدت أنَّ التراث السردي العربي القديم كان وليد نمط من الحياة التي عاشها الإنسان، وحاول التعبير عنها باعتباره مؤرخاً للعصر الذي عاش فيه، وكان هذا هو الدور الأساسي للروائي. السيرة الشعبية يعتبرها تاريخاً شعبياً للمتخيل الشعبي العربي، فهو انتقى الأبطال من العصر الجاهلي إلى عصر المماليك، وأعطى لكل بطل مهمة في حقبة تاريخية زمنية، وكان الراوي الشعبي مؤرخ الحياة اليومية. إذن، هنا، وجدت أنَّ هناك تعالُقاً كبيراً بين الإنتاج السردي، في حقبة سابقة، مع الحقبة اللاحقة. النقطة الثالثة في هذا المسار هي الانتقال من الشفاهي إلى الكتابي، إلى الرقمي، مع الأدب التفاعُلي، أو النص الترابطي.
- سأعود إلى هذه النقطة، لأن عندي فيها سؤالا مهما، لأننا ربما قد نلتقي في هذا الموضوع، لأنني شخصياً اشتغلتُ على الشفاهي والكتابي في الشعر العربي، وبدا لي شيء سأختلف معك فيه، في ما يتعلق بهذه النقطة، بالذات. مثلاً ذهبتَ في اشتغالك على النص المترابط إلى اعتبار الكتاب الورقي، تقريباً، لم يعد قابلاً للحياة، أو مهددا في وجوده بهذا الوسيط الجديد، ودعوت إلى كتابة رقمية جديدة تخرج من الصفحة الورقية إلى الحاسوب، ولكن المشكلة التي تراها أنتَ، هي أننا نتعامل مع الحاسوب بما يمكن أن نسميه بالوعي الورقي، وليس بالوعي الذي يفترضه هذا الوسيط. المشكلة أكبر مما نعتقد، خصوصاً في وضعنا العربي، فنحن لم نخرج بعدُ، ثقافياً، من الوعي الشفاهي، والكتابة على الورق هي كتابة شفاهية في أغلبها، في الشعر، في الرواية، وفي غيرهما، فالوعي الشفاهي مازال مهيمناً، قياساً بالوعي الكتابي. فكيف يمكن أن تبرر هذه الطفرة الكبيرة التي تتحدث عنها؟ وهنا، أختلف معك، تحديداً، لكون الوعي الكتابي، عندنا، لا يزال متعثراً، لم يدخل بعد في تفكيرنا، وأنت الآن تتحدث عن الكتابة الرقمية، أو ما أُسَمِّيه بالوعي الرقمي، علماً أننا ما نزال نقيم في ثقافة الماضي، أو هذه الثقافة مازالت حاضرة في وجودنا، وفي فكرنا، رغم كل ما يجري من سعي حثيث نحو التحديث.
لستُ أدري، في ما طرحتَه، مكمن الخلاف بين وجهة نظرك ووجهة نظري. فأنا لا أرى أي اختلاف البثَّة. في نطاق المشروع الذي تحدَّثْتَ عنه، انطلقتُ من الاشتغال من السيرة الشعبية إلى الرواية إلى الاهتمام بالنص الرقمي. هذا لكي أبين بأن المشروع قائم، وله خطيتُه وصيرورته. ثانياً، في كتابيْن، لم أقل إن الكتاب الورقي سيزول، ولم أكن من المتحمسين ذلك الحماس الزائد لما هو إلكتروني. فكل وسيط جديد، حين يظهر، يوظف كل آليات الوسائط السابقة. هناك من ينظر لموت الكتاب، أما أنا فلا أومن بهذه الأشياء، لأن تعامُلي مع الواقع، ومع التاريخ، يجعلانني أقول عكس هذا. المسألة الثالثة، سواء في الكتاب الأول «من النص إلى النص المترابط» أو «النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية»، كنت أؤكِّد فعلاً ما قُلتَه، وهو ما أكَّدْتُه في العنوان الفرعي «من أجل كتابة رقمية عربية». والمقصود من خلال هذا العنوان الفرعي هو أننا أمام ضرورة ممارسة كتابة رقمية، ولكن، باعتبار أن كتابتنا التي مارسناها خلال مرحلة الطباعة هي كتابة شفاهية، أؤكّد أنه إلى الآن ما تزال كتابتُنا لا تستعمل كل التقنيات التي جاءت مع الطباعة، كوسيط. لا نستعمل جيداً لعبة البياض والسواد، لا نستعمل علامات الترقيم، لا نستعمل الفقرات، أحياناً تجد في بحوث جامعية، الجملة، هي بمثابة فقرة، غياب العناوين الفرعية، إلخ. وأقول إنه لا يمكننا أن ندخل المرحلة الرقمية ما لم ننجز المرحلة الطباعية، أي أن نمارس الكتابة وفق الشروط التي جاءت بها الطباعة. ليست عندنا فجوة رقمية، ولكن عندنا، كذلك، فجوة كتابية، بمعنى أننا ما نزال أمة شفاهية، ولم ننتقل إلى الكتابة.
- أريد أن أعود بك شيئاً ما إلى الوراء. تعرفتُ عليك في أواخر السبعينيات، وكنتَ بين من يهتمون آنذاك بالعمل الجمعوي بدار الشباب بوشنتوف بمدينة الدار البيضاء، التي كانت من بين الفضاءات الأكثر حيوية ونشاطاً، في جانبها الثقافي والسياسي والفني. في ما بعد أصبحتَ عضواً في الهيئة المسيرة لاتحاد كتاب المغرب، قبل أن «تنقلب» في ما بعد على هذه المؤسسة الثقافية، وتعمل إلى جانب آخرين على تأسيس رابطة أدباء المغرب، التي جاءت في سياق تأسيس بيت الشِّعر، وهذه الرابطة جاءت ك«بديل» ثقافي عن اتحاد كتاب المغرب. هل مازلتَ مقتنعاً بدور الجمعيات الثقافية في نشر وتداول المعرفة، وفي إنجاز المشاريع الثقافية الكبرى؟ ولماذا الرابطة اختفت بمجرد ظهورها؟ وما علاقة العمل الجمعوي أو المؤسسي بما تسميه «المسألة الثقافية في المغرب»؟
العمل الجمعوي، أو العمل الجماعي، وأنا، هنا، أفرق بين العَمَليْن، فالعمل الجمعوي انخرطْتُ فيه قبل أن آتِيَ إلى الدار البيضاء، في أواخر السبعينيات في مدينة فاس. هذا الانخراط في العمل الجمعوي كان، بالنسبة إليَّ، عنصراً مهماً جداً، أولاً، بالنسبة إلى التكوين الشخصي، وثانياً، من أجل الانخراط في العمل الاجتماعي. بالنسبة إلى اتحاد كتاب المغرب، وأنا في المكتب المركزي، كان دائماً عندي تصور، يتبلور أولاً، من خلال المعرفة بالواقع، أي أن تكون مُلِمّاً بخارطة عمل الأدباء والكُتاب والمبدعين، والمؤسسات التابعة لهم. ظهر لي، وأنا في المكتب المركزي، أن الذي ينقص اتحاد كتاب المغرب ليس الميزانية، ليس صفة الجمعية ذات النفع العام، بل التصور الثقافي، وكنتُ دائماً، في نقاشات اللجان التحضيرية، أدفع في هذا الاتجاه، ولكن المؤتمرات غالباً ما تكون لها صبغة انتخابية، ولم يكن يعنيها بصورة أساسية النقاش حول المسألة الثقافية. هذا النقاش كان ربما يُطْلَب أن يُؤجَّل إلى ندوات، ولكن هذه الندوات غالباً لا يمكن أن تساهم في ذلك، فكانت آخر محطة اشتغلتُ فيها، في اتحاد كتاب المغرب، عندما طالبنا بأن لا يبقى البعد الانتخابي هو الأساس في الاتحاد، وأن لا يبقى حزب معين هو الذي يمسك بهذه المؤسسة.
يبدو لي، وهذا ما كتَبْتُه وقلتُه في أكثر من مناسبة، في سياق انتقاد ما آل إليه اتحاد كُتَّاب المغرب، أن هذا هو ما أفْسَد عمل هذه المنظمة الثقافية، وأدَّى بها إلى ما تعيشُه إلى اليوم من انهيار.
هذا صحيح، هذه الوصاية كانت لها شروطها وضرورتها في مرحلة ما، عندما كان الخوف من أن يتحوَّل الاتحاد إلى مؤسسة رسمية، ولكن بعد أن تم تجاوز هذا، وعرف الاتحاد مساراً آخر، كُنّا نطالب بأن تحدث نقلة أخرى، بأن تصبح الكفاءة، المبادرة، الفعالية، هي أساس انتخاب المكتب المركزي، وليس توزيع الحقائب، حسب مواقع الأحزاب والمنظمات، داخل المؤسسات السياسية. فكان انسحابي، أولاً، احتجاجاً على استمرار هذه الممارسة، وجاءت فكرة تأسيس الرابطة. من منطلقي الشخصي، لم تكن بديلاً للاتحاد، ولكن تقديم صورة مختلفة للتصور الذي كنتُ أدافع عنه. فالتصور كان، في جوهره، مختلفاً عن الهيكلة التي يعرفها اتحاد كتاب المغرب. كان بإمكان الرابطة أن تلعب دوراً مختلفاً، ولكن لاعتبارات شخصية تتعلق ببعض الأشخاص، الذين لم يكن عندهم نفس التصور الذي كنتُ أومن به في العمل الثقافي، توقف عملها، هذا بالإضافة إلى مشاكل أخرى متصلة بالجانب المادي، مثل غياب الدعم، والموقف المُضاد من الآخرين الذين رأوا أنها جاءت لتكون بديلاً، وأنا كنتُ أرى أن هذه البلاد تتسع لعدد كبير من اتحادات كُتَّاب المغرب، وليس لاتحاد كتاب مغرب واحد، لأنَّ المنافسة الجدية، هي التي يمكن أن تفرز العمل الثقافي المتميز والنوعي.
جعلني هذا أميز بين العمل الجمعوي والعمل الجماعي، فالعمل الجماعي يشترط وعياً، وتصوراً مشتركاً بين مختلف العاملين. أما العمل الجمعوي، بالصورة التي مارسْناها، تحت الغطاء السياسي والأيديولوجي، فمجرد انفراط العقد السياسي، فكل شيء سينفرط معه، في حين أن العمل الجماعي له أفق آخر، وله رؤية أخرى مختلفة، ومنذ ذلك الوقت صار يبدو لي أن العمل الجمعوي في المغرب من الصعوبة بمكان، وصرتُ أعوضه بمفهوم آخر، بما يمكنه أن يكون عملاً جماعياً بديلاً. فالعمل الجماعي الذي صرتُ أومن به هو العمل الذي تُحدده مبادئ وأخلاقيات العمل العلمي، وهذا للأسف الشديد، غير متوفر عندنا، خصوصاً داخل كليات الآداب.
- وهنا، في هذا السياق، خصوصاً في علاقةٍ بالعمل الجمعوي، كيف تربط بين هذا العمل وتدبير الشأن الثقافي؟ فهناك نقاش بدأ يطفو على السطح، في هذا الموضوع بالذات. ثمَّة اختلالات في هذا الشأن، وهو ناتج، في الأساس عن غياب تصور ثقافي، وهو ما أسميه «السياسة الثقافية»، التي لا تنعدم عند الجمعيات والمؤسسات الثقافية، بل عند الدولة نفسها. فما يجري في واقعنا الثقافي هو انعكاس لسلوكات وأخلاقيات ما، أساءت للعمل الثقافي، ورهَنَتْه بوضع محدد، وراكمتْ الكثير من الجراح، التي كان لها تأثير واضح في هذا السياق.
لا أريد أن أتحدث عن شيء اسمه الجراح، يمكن أن نتحدث عن تحولات عميقة مسَّت المجتمع المغربي. هذه التحولات لمَّا نحللها، بالصورة التي تجعلنا نرى الواقع واضحاً الوضوح الذي يمكننا من اقتراح مبادرات تتلاءم مع هذه التحولات الجديدة، سأعطي مثالاً في هذا الشأن: ما الذي كان يجمعني وإياك في اتحاد كتاب المغرب؟ هل الاهتمام بالأدب، أم بوظيفة الأدب داخل المجتمع؟ ما كان يجمعنا بشكل خاص، في فترة السبعينيات، وإلى أواسط الثمانينيات، هو الهاجس السياسي، بالدرجة الأولى. الأدب أو وظيفته؟ كان في مرحلة ثانية. الجامع السياسي لم يبق جامعاً للمثقفين، لسبب بسيط هو أن تحوُّلات سياسية أفرزت الانتهازية، وأصبح العمل السياسي يساوي الاستفادة، وتحقيق المصالح الشخصية، فنحن كنا نمارس العمل السياسي من أجل تغيير المجتمع، لم يكن عند أيٍّ منا أي طموح أن يكون في مجلس بلدي، أو في البرلمان، أو في موقع وزاري، هذا كان تصوُّرنا ونحن شباب. الآن، ما الذي يجمع هؤلاء الأعضاء الموجودين في اتحاد كتاب المغرب؟ هل هو الهاجس السياسي، أم هو الهاجس الإبداعي؟ أقول إنه الهاجس المصلحي. فأنا أتحدث عن تحوُّلات، لأنني أريد أن أُفَكِّرَ هذه التحولات، ماذا يمكن أن ينجم عنها؟ الجامع السياسي انتفى، وكذلك الجامع الثقافي، متى يمكن أن يكون جامعاً؟ عندما تكون هناك اتجاهات ثقافية، أو إبداعية متميزة. ما الذي كان يجمعكم في بيت الشعر؟ هل لأنكم تفكرون في كتابة قصيدة جديدة، أم في الدفاع عن تصور جديد للشعر، أم شيء آخر؟ الآن، ما الذي يمكن أن يجمع بين قاص اسمه أحمد بوزفور، وقاص يكتب قصة قصيرة جداً في الفايسبوك؟ نطرح مثل هذه الأسئلة، لأنني إذا فكرتُ في كيفية عمل جماعي، على المستوى الثقافي، ما الذي يمكن أن ينجم عنه ليكون عندنا رأي عام أدبي وثقافي، لأنه بدون هذا الرأي العام، لا يمكن أن ندافع عن قيم ثقافية، وبالتالي عن قيم اجتماعية. هذا هو تصوري للعمل الجماعي.
لأعود إلى مسألة الجراح، فهذه الجراح، هي آثار ترتبت عن ممارسة، تقود إلى الطريق المسدود. كان من الممكن، اليوم، أن يكون عندنا ليس اتحاد كتاب المغرب، بل اتحادات، حسب الأجناس، وهذه هي الفكرة التي دافعتُ عنها، وحتى داخل هذه الأجناس، يمكن أن تكون هناك اتجاهات، أن تكون هناك مدارس، تيارات. وهذه التيارات، يمكنها أن تتمايز، أن تتنافس، وفي الوقت نفسه أن تتفاعل وتتكامل، من أجل خدمة شيء، وهو ما يجمعنا في نهاية المطاف، هو أن تكون عندنا ثقافة وطنية ديمقراطية، أن تكون عندنا ثقافة فيها ما هو عالم، ما هو شعبي، ما هو وسائطي، ما هو رقمي، وتكون في خدمة القيم التي تجمعنا جميعاً. الارتقاء إلى هذه الرؤية رهين بتطوير وعينا الإبداعي أولاً. ينبغي أن تكون، أولاً، مبدعاً، لكي تؤمن بالقيم الإبداعية، ونحن في هذا، في حاجة إلى إعلام ثقافي، يمكن أن يسهم في ذلك. نحن في حاجة إلي تعليم يعطي للثقافة دوراً أساسياً، تنظيم ورشات لتكوين مبدعين من داخل المدرسة، وفي الجامعة. إذن، هذا هو العمل الذي يمكن أن نقوم به اليوم، إما كأفراد، أو كجماعات. إنَّ تشكيل مجتمع مدني ثقافي يبدأ من المدرسة ويصل إلى الجامعة، وهذا سنبنيه من أجل المستقبل، لأننا نفكر في مستقبل بعيد لهذا المجتمع، ولا نراهن على سنوات معينة نريد أن نحقق من خلالها مصلحة معينة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.