عبد السلام الصروخ يعتبر المخرج الأمريكي الوثائقي أوفيديو سالازار من المتخصصين في البحث والإنجاز السينمائي المتعلق بالتصوف الديني وخصوصا في بعده الإسلامي، حيث وعبر ثلاثين سنة في هذا الميدان أنجز عدة أشرطة وثائقية تلفزية لفائدة قناة «ال بي بي سي»، من أبرزها «رحلة إلى مكة : على خطوات ابن بطوطة». يقوم هذا المخرج بزيارة إلى المغرب هذه الأيام، تزامنا مع ذكرى وفاة السفير السويدي الذي عاش أزيد من خمسين سنة بالمغرب، واعتنق الإسلام وترجم القرآن إلى اللغة السويدية، حيث سيقوم بتقديم فيلمه «بين عالمين» يوم الثلاثاء 14 أكتوبر 2014 بالكلية المتعددة التخصصات بالعرائش، وفيلمه الأخير حول «سيرة الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان» بالسينماتيك يوم الجمعة 17 أكتوبر 2014 بطنجة .. وبالإضافة إلى هذين العملين أنجز أوفيديو سالازار حزمة من الأعمال الوثائقية ك: البحث عن القط سنة 1996، الحج: رحلة العمر سنة 2001، الغزالي خيميائي السعادة 2004، الطواف في بيت الله 2006 ورحلة إلى مكة 2009. يتناول فيلمه «بين عالمين»، الذي صور ما بين السويد والمغرب، سيرة السفير السويدي محمد كنوت بينستروم Mohamed Knut Bernstrom المزداد في 22 أكتوبر 1919 بالمملكة السويدية، والمتوفى بالعرائش والمدفون فيها في نفس تاريخ مولده، أي في 21 أكتوبر 2009. حيث تناول سيرة هذا الرجل ليس كديبلوماسي متمرس، جائل لعواصم العالم، وإنما كمثقف وصاحب رسالة، باحثا عن الحقيقة بمعناها الصوفي، ليبتدئ لوثريا في صباه، ثم ليتحول عنها إلى الكاثوليكية، التي تمسك بها تمسكا شديدا كمسيحي مخلص، معجبا بعمقها الفكري في مجال اللاهوت، إلا أنه سينزعج عندما لم تعد الكاثوليكية تستعمل اللاتينية في طقوسها ومراسيمها الدينية، ومن ثم ستقوده رحلاته المتكررة إلى المغرب، إلى أن يقتني بيتا بمدينة العرائش، ليقضي به عطله، وخصوصا عطلة نهاية الأسبوع لما كان سفيرا لبلاده بمدريد، وهنا سيتعلم اللغة العربية وسيقيم صداقات كثيرة مع مهتمين بالشأن الديني والثقافي، حيث ورغم شهادات أحد أصدقائه بأن أول اتصال له باللغة والإسلام كان عن طريق سفير المملكة العربية السعودية في كولومبيا، فإنه لم ينجذب إلا عندما اكتشف طريقة المغاربة في التدين، ومتانة ارتباط هؤلاء الناس بعلمائهم المحليين وأوليائهم الروحيين، حيث وبعد أربعين سنة من العمل الديبلوماسي سيعتمد كسفير لبلاده في الرباط بطلب منه، حسب شهادة إحدى السفيرات، فكان يشتغل في الرباط ويعود إلى العرائش ليختلط بالناس العاديين سواء في مقهى سنطرال أو مقهى المحطة الطرقية وغيرها من الفضاءات، على غير عادة الديبلوماسيين السويديين الذين يتميزون بتقاليد عدم الاختلاط. سيقضي في مهمة سفير اثنتي عشرة سنة ليقدم استقالته لأسباب صحية، ويتقاعد نهائيا، وليعلن رسميا إسلامه، وشروعه في ترجمة رسالة القرآن، ومعانيه إلى اللغة السويدية، بدون طلب من أحد، رغم ما جاء في الشريط على لسان محررة دار النشر التي قامت بإصدار عمله، مصرحة أن المسلمين في السويد في تزايد وهم يجهلون اللغة العربية لأن أغلبهم من البنغلاديش والهند والباكستان، كما أن الجيلين الثاني والثالث رغم أصوله العربية فهو يجهل لغته الأم. لذلك أتت هذه الترجمة أو الشرح تلبية لحاجة هؤلاء المسلمين، وخصوصا أمام مخاطر التطرف ومقابلها ما يعرف بالإسلاموفوبيا، إذ تقدم إحدى السفيرات السابقات بالرباط شهادة غاية في الدلالة عندما تعلق في هذا الشأن: كيف أن هذا الرجل وفي «المحادثات التي كانت تجمعنا»، كان «ديبلوماسيا مائة في المائة» و«لا يتحدث في الدين» و كيف أنه كان «سياسيا حياديا» ؟..إلخ. أما إحدى الدارسات في علم اللاهوت فتقول إن السويديين عرفوا ترجمات سابقة و متطابقة للقرآن، إلا أنها قوبلت بالازدراء نظرا للقيم التي تحملها، والتي تتنافى مع قيم المجتمع السويدي، وتستدل على ذلك بقوامة الرجال عن النساء في الترجمات السابقة، والتي تتعارض ثقافيا مع أخلاق المجتمع السويدي، والذي كان سباقا إلى إعطاء المرأة استقلاليتها التامة، على صعيد المجتمعات الغربية ككل، فحدث أن فسر مسألة القوامة خارجا عن مفهوم سلطة الرجل على المرأة، بل فسرها بمسؤولية هذا الأخير تجاه المرأة، وهنا لا تخفي الدارسة المذكورة إعجابها بهذا التفسير، وبهذا الذكاء. يعتمد الفيلم رؤية قدرية في إسقاط مشروع من الناحية الفنية، موجها شهادات السفراء والدارسين والأصدقاء نحو هذه القدرية الصوفية عبر محطات مشهودة ومؤثرة في فكر ووجدان الرجل الذي ولد، حسب الفيلم، متدينا ومؤمنا بعالم الروحانيات، مبتدئا بعاصفة ثلجية شكلت حدثا «تأسيسيا» في حياة الرجل لما كان طفلا صغيرا، وهو يقوم برحلة تزلج رفقة أبيه. لقد داهمتهما تلك العاصفة المنهمرة من الجبل الجليدي الأبيض، حيث سجنا في السيارة إلى منتصف الليل، ليموت أبوه جراء البرد القارس، ولينجو هو من هذا الحادث الذي وقع له وهو لم يتجاوز السابعة من عمره، حيث ظل طيلة لحظة هذا الحدث جنب جثة أبيه، وفي الخارج كان يرى شبح رجل ما، هذا الشبح الذي ظل منشغلا به طيلة حياته وهو يبحث عن «الحقيقة»، منتظرا متى يلتقيه ثانية. أما الحدث الثاني، حسب نفس الشهادات فهو لما كان سفيرا في مدريد وكان لابد له أن يقضي عطلة نهاية الأسبوع بمنزله بمدينة العرائش، وعند عودته مستقلا سيارة أجرة هو وخادمه، تفجرت عجلة السيارة في الطريق إلى مطار طنجة، وكان متعجلا من أمره لأسباب بروتوكولية، حيث كان لابد من أن يستقل الطائرة في موعدها المحدد لأنه كان على موعد مع العاهل الإسباني، أصلحت العجلة، وأسرعوا نحو الموعد، إلا أن عجلة أخرى سوف تنفجر لينصحه خادمه «بقدرية شعبية» بأن لا خير له في هذا السفر، وفعلا وهم في الطريق وقد فاتهم موعد الطائرة إذا بأخبار راديو السيارة تنبئ المستمعين بأن الطائرة، التي أقلعت من مطار طنجة باتجاه مدريد، قد سقطت ومات كل ركابها. يعتمد أوفيديو سالازار كل هذه الشهادات والديكورات المغربية ذات الطابع الروحاني من كاليغرافيا وسجاد وأقواس وأسواق ضاجة وموسيقى كنائسية تارة ووترية (على العود) تارة أخرى .. وأضرحة، ومشاهد الطبيعة وأساسا المشاهد البحرية، وغروب الشمس والعاصفة الثلجية، واللباس المغربي غير المتكلف، وأداء الممثلين التائهين أو في وضعيات تأمل.. يعتمد كل هذا، ليصور لنا مسار مثقف ديبلوماسي باحثا عن «الحقيقة» والسلام الروحي، آتيا من كل هذه الأقدار إلى أن يعيش بين بسطاء الناس ويدفن في أحد قبورهم وسط المدينة، غير بعيد عن إقامته، التي كانت تسمى «دار السلام»، الواقعة بشارع محمد الخامس، والتي كانت في الأصل مؤسسة تعليمية تحمل اسم «المدرسة الأوروبية المختلطة». هذه الإقامة لم تعد موجودة الآن، حيث تقوم مكانها عمارتان شامختان في ملكية أحد أبناء خادمه، حيث سبق أن أهداهم إياها. لا يتحدث الشريط عن هذه الإقامة لأنها لم تعد موجودة، كما لا يتحدث عن جريمة القتل التي وقعت داخلها أواخر الثمانينيات والتي راح ضحيتها «صديقه الحميم»، الكاتب الإسباني خوسي إنريكي ديل بووي José Enrique del Buey صاحب رواية «راشيل مايير تحت المجهر» Raquel meller Bajo el cristal والتي ظلت وقائعها وتفاصيلها غامضة إلى حدود الساعة.. لم يتطرق الفيلم إلى هذا رغم أهميته في حياة الرجل، ومع ذلك فالمخرج توفق في استقطار عطر المحبة كجوهر تدين في مواجهة ما يحدث الآن لصورة المسلمين عبر العالم من جز للرؤوس ومن جهاد نكاحي ومن رايات سوداء تربط الإسلام بالهمجية.