- أريد أن أعود معك إلى الوراء، إلى اللحظة التي كُنْتَ فيها مُشْتَغِلاً في التحقيق، وفي التراث الصوفي، في المغرب والأندلس. حقَّقْتَ ديوان ابن الخطيب، وأطروحتك كانت في عنوانها الأصلي قبل أن تصدُر في كتاب «التيار الصُّوفي والمجتمع في المغرب والأندلس في القرن الثامن الهجري». أسألك، أوَّلاً، عن علاقتك بالتراث، عموماً، وبالتراث المغربي، تحديداً. وثانياً، لماذا التراث الصُّوفي، ولماذا القرن الثامن، دون غيره من القرون السابقة أو اللاحقة. وثالثاً، ما الأفق الذي فتحته هذه الأطروحة، في ما سيأتي لاحقاً، خصوصاً في ذهابك إلى السيميائيات وتحليل الخطاب، وما تأثير مفكر مثل محمد أركون في مسارك العلمي والمعرفي؟ بالنسبة لاتصالي بالتراث ربما يرجع بصفة أساسية إلى تكويني الأساسي. فأنا دَرَسْتُ دراسةً تقليدية، كما كانت رائِجةً، في الجامعات التقليدية، مثل القرويين، ومثل ابن يوسف وفي الزوايا. يفترض هذا أن يحفظ مثل هذا الطالب القرآن الكريم، ثم المُتون المُتَدَاوَلَة، وهذا ما قمتُ به في هذا الإبَّان. هناك، إذن، خلفية تراثية، تكوينية، جعلتني أسير في هذا الاتِّجاه. ثم بعد ذلك، لمَّا ذهبتُ إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سنة 1963، كان أغلب ما يسود فيها هو دراسة التراث القديم، مثل الشِّعر الجاهلي، الشعر العباسي، خاصَّةً أبي العلاء المعري، على يد أساتذة مختصين في هذا المجال، مثل أمجد الطرابلسي. فالتكوين الأساس هو تكوين تقليدي، في حين أن الدراسات المعاصرة، حينئذٍ، كانت قليلة جداً، رغم ما كان لها من أهمية، ورغم ما كان يبذلُه بعض الأساتذة من جهود في هذا الميدان، مثل الأستاذ محمد برادة، والأستاذ أومليل، والأستاذ زنيبر، والأستاذ محمد القبلي. في هذا الوقت، كان هناك مَوْرِدَان: المورد التقليدي والمورد المعاصر. ولكن، بصفة عامة، كنتُ أجد نفسي في ميدان التراث، لأن عليه تَرَبَّيْتُ، وبه تكوَّنْتُ. وهذا هو سرّ اهتمامي بالتراث. وكان أوَّل ما اهْتَمَمْتُ به هو ديوان لسان الدين بن الخطيب، حيثُ جمعتُ أشعارَه، وصنَعْتُ منها ديواناً، بناءً على نصيحة أمجد الطرابلسي. فهو كان تتمة من حيث المادة، ومن حيث المجال، لأطروحة الدولة التي تناولت التصوف. وكان موضوع الأطروحة من اقتراح الأستاذ محمد أركون. لماذا؟ لأن في فترة أواخر الستينيات، وبداية السبعينيات، كان هناك اتجاه نحو الاهتمام بما كان يُسَمَّى، حينئذٍ، ثقافة شعبية، أو ثقافة هامشية، في مقابل اتجاهاتٍ أخرى، وبالتالي، اقترح عليَّ الأستاذ محمد أركون هذا الموضوع فاشْتَغَلْتُ فيه، وقدَّمْتُ له تقريراً، فوافق، ثم أنْجَزْتُ عملي بدون صعوباتٍ تُذْكَر. والأهداف من التصوف كانت متعددة، لعلَّ أهمَّها، كيف نفسر الظاهرة الصوفية؟ هل هي شيء طارئ، أم هي نابعة من المجتمعات؟ وكان الانطلاق من حيث أنَّها ظاهرة كونية، فممكن أن نُسمِّي هذا الشخص الذي يتعاطى هذا النوع صوفيا، وممكن في ديانات وفي لغاتٍ أخرى أن نُسَمِّيه بأسماء معينة. هذا، إذن، من حيث المبدأ الكوني، البشري. ولكن المجتمع المغربي، حينئذٍ، كان مجتمعاً قَبَلِياً، فيه مُدُن، لكن فيه قبائل، مثل زناتة، وصنهاجة، والمصامدة، وتفرُّعاتِهِا. الإنسان الصوفي ودوره في هذه المجتمعات كان أساسياً في هذا المجتمع، ووجوده ضروري، بالإضافة إلى وجود الشيخ الذي ينتمي إلى السلطة. ولكن روح تلك المجتمعات، في هذه الفترات، هو الصوفي، لأنه كان يشفي المرضى، كان يُتَبَرَّك به، كان واسطةً بين القبائل، والمُصالَحَة بين بعضها البعض، في حالات النزاع، وكان أيضاً، واسطةً بين القبائل وبين السلطة. - وكان هذا، أيضاً، دور الفقيه في مثل هذه المجتمعات في فترات ما.. في فَتراتٍ ما، نعم. في هذه الفترة كان هذا دور الصوفي. وكان من بين أهداف هذه الأطروحة الرَّدُّ على الدراسات الكولونيالية، لأنها، في بعض الكتابات، ربطت بين التصوف وبين العِرْق الأمازيغي، وخصوصاً الصنهاجي، فأثْبَتْتُ بأنَّ الأمر ليس هكذا، فالتصوف سنجده في مصمودة، وفي صنهاجة، وفي زناتة التي هي قبائل رُحَّل، ولكن في المدن أيضاً. فهناك فرق بين المتصوف في المدينة وأدواره، وبين المتصوف في البادية وأدواره. إذن، كان لا بُد من دفع هذه الأطروحة الكولونيالية. هذا في المغرب. والأطروحة تناولت المغرب في هذا القرن، وتناولتْهُ في الأندلس، لأنَّ هنا تكوَّن ما يُسَمَّى حينئذ الطَّوائف، وكان ليس بينها تنافس ولا حروب، بل كانت بينها أُخُوَّة، بهذا التعبير. فالتصوف في المغرب، إذن، هو وليد مجتمع قبلي، أساساً، أما في الأندلس، فيمكن القول، مع نوع من التجاوز، بأن الطوائف الأندلسية كانت تمثل الفئات الاجتماعية المختلفة. معنى هذا أنَّ المجتمع بالأندلس يكاد يشبه المجتمعات العصرية، والحُكم فيها يكاد يشبه الدولة المعاصرة، لأنَّ الأندلسيين، منذ مدة طويلة، كانوا يشعرون بالحدود، بحدودهم المستقلة، وبالتعصُّب للمناطق التي كانوا يسكنون فيها. لذلك، في هذا السياق، يجب أن يُفْهَمَ موقف المعتمد بن عبَّاد من المرابطين. فابن عبّاد فضَّل موقف التعلُّق بالأرض على الإسلام. وهذا معناه أنَّ الأندلس كانت نواة دولة بمعناها الحديث، ولا غرابة في ذلك، لأنّ الأندلس لها وضع خاصّ. فهي، أولاً، ليست فيها قبائل، فالقبلية تقريباً انتهتْ، في أواسط العهد الأموي. طبعاً، بقيت خلفياتُها وعَقابِيلُها، التي تجلَّت في ملوك الطوائف، لكن، بصفة عامة، حين نرجع إلى مقدمة ابن خلدون نجده يُلِحّ إلحاحاً كبيراً على أنَّ القبلية اضْمَحَلَّت بالأندلس أو كادتْ. إذن، صارت هناك عوامل أخرى للاستيلاء على الحُكم. في حين أنَّ المجتمع المغربي في البادية، على الخصوص، كان مجتمعا قبليا، وهناك مجتمع المدن، والمدن، في هذا الإبَّان، كانت قليلة العدد، مثل فاس على الخصوص، ومراكش، وإلى حدّ ما مكناس، وأيضاً الرباط، ما يعني أنَّ التصوف كان تابعاً للبنيات القبلية الاجتماعية السياسية الاقتصادية، ويلعب دور المحرك فيها. - أودّ أن أعْرِفَ أفق هذه الأطروحة، وتأثيراتها في ما سيأتي من أعمالك اللاحقة، أي الطُّرُق التي فتحَتْها أمامك. لا أُنْكِر أنَّ هذه الأطروحة كان لها تأثير كبير فِيَّ. أوَّلاً، شخصية الأستاذ المشرف محمد أركون، وهو، رحمه الله، كان رجلاً بالِغَ القسوة، بالِغَ الشِّدَّة، لا يُجامِلُ في العلم، وقد قَبِل الإشراف عليَّ، رغم تُحَفُّظِه، ربما قِيلَ له إنني إنسان مُعرَّب، أو غير ذلك. الأستاذ أركون في هذه الفترة يمكن أن يْعْتَبَر الرائد الأوَّل في إدخال المناهج المعاصرة لدراسة التراث العربي الإسلامي، وخصوصاً مدرسة الحوليات الفرنسية، في التاريخ، والتناص، عند كريستيفا، وغيرها، ومفاهيم أخرى أنتربولوجية، فهو كان يعيش، قلباً وقالباً، في الثقافة الفرنسية، وفي عنفوانها في تلك الفترة. هذه الأطروحة جعلتني أفهم بعض آليات التاريخ المُحَرِّك للصيرورة في المغرب العربي خصوصاً، وهي، أوَّلاً، القبلية، ثم العوامل الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرها في تعزيز وتقوية الأفكار، ومنها الفكر الديني. لماذا؟ لأنني انْفَتَحْتُ على ما اقترَحَه عليَّ من مناهج، ولا أُنْكِرُ تأثير جاك لوكوف فِيَّ، ربما إلى الآن، ثم السيميائيات، وخاصةً مدرسة باريس، بل كان ينصحُني أحياناً بالرجوع إلى تحليلات أخرى مثل كلود بريمون وغير ذلك، وكان يحثُّني على الانفتاح على لوكوف ولسانيين آخرين. وهذا كان بمثابة التكوين الأساسي، أو إعادة التكوين، أو تطوير التكوين القديم. - في سياق الحديث عن المناهج والمفاهيم التي انفتحْتَ عليها، ثمَّة من الدَّارسين والباحثين من يُتيح للمنهج والمفهوم أن يَسْتَبِدَّا بالنص، ويفرضا عليه تَوَجُّهاتِهما، ليصير النص بذلك ذريعةً لتبرير صلاحية المنهج، علماً أنَّ النص سابق على المنهج، وهو ما أتاح للباحثين أن يصلوا إلى تصوُّراتهم النظرية، ولمِا أسَّسُوا له من مناهج ومفاهيم. في كتابك «تحليل الخطاب الشِّعري، استراتيجية التناص»، تقول في سياق تبرير سلطة النص وأهميته: «على أنَّ طبيعة القصيدة [النص هنا طبعاً] حتَّمَت علينا استثمار بعض العناصر أكثر من غيرها». وفي مدخل الكتاب تتحدَّث عن تطبيق المبادئ العامة والخاصَّة لمدرسةٍ ما على الخطاب الشِّعري. في أيِّ المَسَارَيْن كنتَ تشتغل، في سياق تدريس الخطاب الشِّعري والكتابة فيه؟ هذا أيضاً سؤال وجيه في الطَّرح، ويحتاج للإجابة عنه بعض التفاصيل. أوَّلاً، المنهاجيات لَمَّا يضعُها أصحابُها ويطورونها، رغبةً في سَدّ حاجاتٍ يتطلَّبُها فهم الواقعة المدروسة، سواء كانت نصّاً شعرياً أو غير شعري. المنهاجية السيميائية، في حدّ ذاتها، ليست منهاجية عامة شاملة، من حيث المنشأ، لكنها منهاجية مُسْتَمَدَّة، ومُسْتَخْلَصَة من السَّرْدِيات، فالسيميائيات الفرنسية ورِثَتْ أعمال فلادمير بروب، وأنتربولوجية ليفي شتراوس، وبعض المفاهيم الكانطية كذلك، ثم بعض المفاهيم الأخرى من ميادين علمية مختلفة، ولكنها، أساساً، كانت مُوَجَّهَة بتحليل الخطاب السردي. وأي خطاب سردي موضوعه هو الخرافات والأساطير. ثم بعد ذلك حاولوا أن يُطَوِّروها لتطبيقها على النص الشِّعري، ولكن مع الأسف بانَتْ حُدودُها، لأنهَا لم تكن مُشْتَقَّةً من الخطاب الشِّعري، ومعالجة إشكالاته، فهي وُجِدَتْ لمعالجة إشكالات السرد، والسرد، هنا، الخرافات والأساطير القصيرة، وليس الروايات. هذا من حيث المبدأ. وبالنسبة لي أنا، هذه المنهجية قاصرة لتلبية الحاجات التي أشعُر بها، ولتلبية اهتماماتي، فأنا تناولتُ الخطاب الصوفي، والخطاب الشِّعري، والكرامات، والمناقب، إلى غير ذلك من الأمور. معنى ذلك، أنه مبدئياً، يجب، نَحْت منهاجية ملائِمَة لتلبية هذه الحاجات، كما سمَّيْتُها في بعض أبحاثي. وكان اعتمادي، حينئذ، على دراسة هذه المناهج، والتَّعَمُّق فيها، ومعرفة أُسُسِها الأنطولوجية والإبستمولوجية والتاريخية، في آنٍ واحد، لاستخلاص الثوابت. ولكن هذه الثوابت هي كُلِّيات تقبل التَّعميم. لمَّا نمُرّ إلى الخصوصية، فهنا يجب اشتقاق مفاهيم خاصَّة. حينما نرجع إلى أعمالي نجد عندي ثلاثة مستويات من المفاهيم: المستويات الكلية الإنسانية، والمستويات العمومية التي تتناول نطاقاً عاماً، ثم المستويات الخصوصية. مثلاً حينما أدرس الشِّعر، أبحث عن الكليات، فاللغة، من حيث العُمْق، هِي هِيَ، ولكن الشَّاعِر يُوَظِّفُها حسب السياق الشِّعري. لذلك أنا أقول هذا شعر، وهذه قصة، وهذه رواية. تلك الخصوصيات هي التي جعلتنا نُسَمِّي هذه الأسماء. وهذا هو ما قُلْتُ لك الوحدة المتعددة، بحيث كل ما في الكون، وأنواع الخطاب، جميعها، لا بُدّ أن تجد بينها علائق تضبطها هذه الثوابت. هذه هي الوحدة، ولكن التعدد هو لَمَّا نذهب إلى الخصوصيات. وكُلَّما تعمَّقْتَ تجد خصوصيات أكثر. ومعنى هذا أنه ليست هناك منهجية يمكن اقْتِطافُها كما هي، وتطبيقها. وهذا ما دفعني إلى الحديث عما سمَّيْتُه بالانتقاء، والبعض قد يعتبر هذا أو يُسَمِّيه تلفيقاً. - إذا سمحتَ لي سأعود معك إلى مسألَتَيْ الانتقاء والتَّلفيق، في لحظة قادمة من الحوار، وأودّ هنا أن أعود معك إلى مسارِك التحليلي، تحديداً، في التَّعامُل مع النص، فهل النص، وفق ما قلْتَه، كان هو قاعدة الاشتغال، والمُوَجِّه والمُضيء الذي يفتح أمامَك طريق البحث، أم أنَّ هناك أشياء مسبقة تتعلَّق بالمنهاج، وبالمفاهيم. بصفة عامة، هناك جدلية بين الطرفيْن، هناك مبادئ منهاجية، وهنا سأعود إلى كلام كانط، الذي يذهب إلى أنَّ الحُدوس بدون مبادئ عمياء. إذن، لا بُد من وجود مفاهيم لضبط الحدوس، ولكن لا يمكن أن نُطبِّق هذه المبادئ إذا كانت كلية على النص كما هو، لأنَّك في هذه الحالة ستتناول البنيات العميقة، ولكن ستفوتُك البنيات السطحية، التي تُمَيِّز شيئاً عن شيء. وسأُعطيك مثالاً، من عملٍ لي سيُنْشَر لاحِقاً، فأنا أخَذْتُ قصيدةً شعريةً لابن الخطيب، عالجتُها معالجة موسيقية، حسب السلالم المُتوَارَثَة. هنا النص، كما قال ابن الخطيب «وقُلْتُ هذه القصيدة وغَنَّاها مُنْشِدُون مُجِيدُون لنا في الحَال». يعني أخذتُ النص، باعتباره أغنية، فطبَّقْتُ عليه المنهاج. وهذا لتحقيق غايات كثيرة. فأنا اعتبرتُ الشَّاعرَ هو الشارع، يعني من يضع القوانين. الشاعر يضع قوانين، ولكن ذات ميزة أخرى. أما، في ما يتعلَّق بي، فقد صار لي بعض المَيْل، وأُصارِحُكَ به هنا، وهو أنَّ لي الحق أن أبْنِيَ منهجية مُسْتوحاة من النص، كأنَّها مستقلة عنه، لأصير ناقداً. - وهذا ما يبدو في أعمالك الأخيرة، إذ بدأْتَ تتحرَّر من عِبْء الآخرين عليك، أو وجودهم إلى جانبك، وبدأْتَ تُؤسِّس لمشروع مبني على تصوّرات ومفاهيم مرتبطة بطبيعة النصوص التراثية التي بَنَيْتَ عليها هذا المشروع. نعم. ولكن قضية هذا التراث يجب إعادة النظر فيها. لماذا هذا التراث؟ أنا عندي أطروحة، هي مسألة الكليات البشرية. فالفكر الإنساني من حيث الجوهر واحد. هذا يتعلَّق بالمفاهيم الكلية، ونمرّ إلى المفاهيم العمومية. فثقافة البحر الأبيض المتوسط واحدة، وهي الثقافة المؤثرة في العالم ككل. ولمَّا نرجع، مثلاً، إلى التراث في القرن الثاني والثالث والرابع عشر، على الخصوص، في ما يُسَمَّى أوربا، وفي العالم العربي الإسلامي، نجد تطابُقات كبيرة. لماذا؟ لأنَّ الكُلِّيات واحدة، لأنَّ المجال الجغرافي واحد، وبالتالي، فكانط أو ديكارت، أو غيرهما، هُم لَنا، كما أنَّ حازم القرطاجني لَهُم، لأنَّها نفس الآليات، نفس التفكير، فالبحر الأبيض المتوسط ثقافة واحدة. بناءً على هذا يصبح الفصل بين الثقافة الغربية والثقافة الشرقية، من حيث العُمق، غير مطروح. - في فترةٍ ما اعتبرتَ التيار السيميائي عند غريماص، الذي كان استقى نظريتَه من مصادر معرفية متعددة، «أشمل نظرية لتحليل الخطاب الإنساني»، طبعاً، مع بعض التَّحَفُّظ الذي تُسْتَشَفّ منه رحابة وانفراط، أو تجاوز النص للنظرية، التي مهما توسَّعت أو تعددت، تبقى مليئة بالشقوق والتصدُّعات. هل ما زِلتَ تنظر إلى كريماص بهذا المعنى، خصوصاً أنك في أعمالك الأخيرة وسَّعْتَ، حسب ما يبدو، خطوك أكثر، وأصبحْتَ تميل إلى المغامرة بنحت مفاهيم ومنظورات معرفية، وهو ما عبَّرْتَ عنه، قبل قليل، برغبتك في أن تنطلق من تصوُّرِك، أنتَ، إلى مشروع نظري مبني على مفاهيم، تنحتُها وتبتكرها، أو تخرج من يَدِكَ، باعتبار توقيعك الخاصّ، أو باعتبارك ناقداً، وفق ما أعطيْتَه لهذه الكلمة من معْنًى. أوَّلاً، أشكرك على هذه الأسئلة الدقيقة، التي تفتح آفاقاً للتأمّل، وتفتح الشَّهِيَّة، أيضاً للكلام. سيميائيات غريماص، كما قلتُ سابقاً، هي مُستقاة من أعمال بروب، وأنتربولوجيا ليفي شتراوس، وبعض المفاهيم الكانطية، والمفاهيم الرياضية. وحينما ننظر في هذه المصادر نجدها ذات نزعة كونية. للتدقيق في هذا الأمر، سنجد، مثلاً، منهجية غريماص اشتهرت بالمُربَّع السيميائي، وقد سمَّيْتُه في بعض الكتابات سجن المربع، لأنه لا معنى للمربع، لأنه بقي سجين المنطق الأرسطي، في حين أن المنطق الأرسطي، هذا ما هو إلا جزء منه. وبالعودة إلى كتب أرسطو في الأخلاق وفي السياسة، سنجد ما يُسَمَّى بالمنطق المتداخل، ما معناه، أنك تفترض طرفَيْن، وما بينهما حدود، بحيث يمكن أن تجعل من هذه الأربعة عدداً لا محدوداً، فهي تتعدد، وتكثر، وتتناسل، إلى غير ذلك. هذا، إذن، خلل أولي. وقبل ذلك، في عهد غريماص وتلامذته، أوْصَلُوا الأمر إلى ستة، وممكن أن نوصلها إلى ثمانية وإلى أكثر. وفي نظري، هذا من بين أنواع الخلل. ثم هناك فَيْضٌ مفاهيمي فيها، إذ لما تريد أن تطبقها على نصوص شعرية، مثلاً، لا تستقيم. وقد حاولت السيميائيات في بدايتها تحليل نصوص شعرية، ولكن حينما تقرؤها لا تجد شيئاً ذا قيمة. وأنا حاولتُ، الآن، أن أتجاوز تلك السيميائيات.. - هذا ما أريد أن أناقشه معك، خصوصاً، في كتابك «المفاهيم معالم»، فأنت تستشهد بقولة لغارت. ج. هامبل، كان يُمَيِّز فيها بين الأوصاف والتعميمات، التي تكون بدايات لأطوار البحث العلمي، وبين التخصُّص العلمي الدقيق، الذي غالباً ما يحمل معه نسقَ مفاهيم مُخْتصَّة، على درجة ما من التّجريد، وأنت في كل أعمالك تميل إلى المعنى الثاني، ولا تسمح أو تقبل بالخروج عن السياق الأكاديمي، الذي مهما كانت علميتُه وأفقه المعرفي، يبقى مُغٌلَقاً نخبوياً، حتى الطلبة يجدون صعوبةً في التجاوب معه، في كثير من الأحيان. ليست هناك مرونة أو نوع من تقريب المفاهيم وتبسيطها. كما أنَّك تذهب إلى مفاهيم مُسْتَمَدَّة من حقول لا يمكن أن تكون مُتاحَة لأيٍّ كان، مثل الفلسفة العامة، الإبستمولوجيا، علم النفس المعرفي، الذكاء الاصطناعي، وغيرها، فيما أنت تشتغل أو كُنْتَ تشتغل في حقل الأدب، كمنطلق لأبحاثك، وأعمالك التي كانت هي لحظة انطلاقك في ما ستصل إليه في ما بعد. هذا أيضاً سؤال وجيه جداً. أولاً، وكما سبق أن قلتُ لك، فمنهجية غريماص مُستقاة من مناهج مختلفة، والاستقاء من مصادر متعددة ليس خاصّاً بالسيميائيات، فحينما نقرأ المعاصرين لغريماص، خذ مثلاً، ما بعد الحداثة، كريستيفا، دولوز، وغيرهما من الفلاسفة، نجد مفاهيمهم الأساسية مُسْتقاة من العلوم الخالصة، ومن العلوم الاجتماعية، والعلوم اللسانية، وهذا معناه أن المناهج الإنسانية والاجتماعية، إن أردنا التعبير، تلفيقية طبيعية، لأنها لا تُنْتِج المعرفة، في الحقيقة، إلا بهذه الطريقة. من يُنْتِج المفاهيم الحقيقية هم أصحاب العلوم الخالصة، يليهم أصحاب العلوم الاجتماعية، ثم الأدبية، ثم الشُّعراء، الذين يُنْتِجون بطريقتهم الخاصَّة. ولأكون صريحاً، لا تنتظر من ناقد أدبي محض، لا يهتم إلا بالأدب، أن يأْتِيَكَ بشيء. المسألة، هنا، هي كيفية التعامُل مع هذه المفاهيم العلمية، التي يجب تكييفُها مع الميدان الذي تشتغل فيه، إمَّا تنقص من دلالتها، وإمَّا تزيد فيها لتُلَبِّي حاجاتك، أمَّا تطبيقها حرفياً، فهو يؤدي إلى تشويهات، وتَشَوُّهات، ليست علمية فقط، وإنما سياسية واجتماعية. - هنا يمكن أن نتذكَّر ما كان سَمَّاه المفكر الراحل محمد عابد الجابري بتَبْيِئَة المفاهيم. النظريات، مهما كانت، لا بُدّ أن تنفتح على العلوم الصِّرْفَة، فهذه العلوم هي التي تحُلّ المشاكل. فكلما تقدم البشر في فهم العلوم الخالصة، تقدمنا في فهم الإنسان. ولا بُدّ أن نشير إلى أنَّ كثيرا من الطُّروحات الفلسفية، بهذا المعنى، مجرَّد لغة. فهذا الأساس العلمي لو انْتُبِه إليه، لن تبقى تلك الإشكالات بهذا الشكل. - وهنا، في ما ورد في كلامك، حول أنَّ الناقد الأدبي إذا بقي يعمل في سياق هذا الحقل الضيق لا يمكن أن يأتي بجديد. وانطلاقاً من هذا، فأنا أستمع إليك في ما يتعلَّق بمرحلة أنت تعرفها جيداً وعشتَها، وكنتَ جزءاً منها. الدراسات التي أُنجزت في الشِّعر المغربي المعاصر، مثلاً، أغلبها كان مسكونا بهاجس البحث عن قوانين خاصة بكل جيل، أو بتحربة هذا الجيل، وأنت تتحفَّظ على هذا النوع من التقنين، أو ربطه بجنس تعبيري معين. كما تعلم، في فترة من الفترات، ساد ما يُسمَّى بمفهوم القطيعة، ونجد أيضاً مرادفاً له، هو مفهوم الإبدال. فالمغاربة فهموا من القطيعة أن هناك قطائع، لا جيل مرتبط بالجيل الذي سبقه، كأنَّ التاريخ عبارة عن قطائع لا صلة بينها. في حين أن قوانين التاريخ، وقوانين العلم، تجعل الإبدال ما هو إلا استمرار لِما سبق، خصوصاً إذا أخذناه بمعنى الوحدة المتعددة. الشِّعر هو شعر، تبقى مسألة الصياغة، والتطوير. هنا يأتي، كما قلتُ، تطبيق المفاهيم العلمية الخالصة على الميادين الاجتماعية، وربما حتى في الميادين العلمية. لا يجوز أن تأخذ الأمر بمعنى هذا انتهى، وبدأ بعده عهد جديد، فأنا أقترح مفهوم الاتصال، وهو مفهوم أساسي. كل ما في الكون مُتَّصِل.. لا انفصال. فمفهوم الإبدال أو مفهوم القطيعة، كما ظهر عند الفرنسيين، ثم في العلم الأنجلوساكسوني، ثم الذي شاع في العالم العربي، لأنه بعد ذلك تمَّ تداركه، وبدأ الحديث عن مفهوم الاتصال، لا مفهوم الانفصال. فمفهوم الاتصال أومن به، وهو مفهوم فلسفي، وبالتالي تصبح قضية الأجيال، ليس بينها انقطاع، تجد خصوصيات، حساسيات، صياغات، ربما الشَّاعِر نفسه خلال فترة ما، ليس هو نفسُه في فترة أخرى. - اقترحْتَ مفاهيم، مثل منظور عبثية العالم، منظور نهاية العالم، ومنظور اختلاق العالم. هذه المنظورات منها ما يرتبط بسياقات تاريخية، ومعرفية، هي غير ما نعرفه اليوم، وأقف معك عند منظور عبثية العالم. انطلاقاً مما نعرفه، وما يجري في العالم من متغيرات، وتَفَسُّخ الكثير من القيم والنُّظُم، وحتى المفاهيم الكبرى، وظهور لاعبين جدد في المشهد الكوني. هل نحن بصدد العودة إلى هذه العبثية التي يمكن أن تكون مقدمة لنهاية عالم، مقابل اختلاق عالم جديد، مثلما حدث في أكثر من ثورة، وفي أكثر من مكان. في الحقيقة، كما قُلتُ لك، أسئلة وجيهة تحتاج إلى تفصيل. نتذكر ما سبق، نظرية الكاووس، ونظرية السَّدِيم، قبل البيغ بانغ، كانت هناك عبثية سديمية، ثم بعدها، جاء الانتظام l'organisation. ما معناه أن مسار العالم، ومسار الكون، ومسار العقلانية نفسها يجب أن ينتقل من العبث إلى النظام أو استخلاص النظام من الفوضى. وهنا نأخذ الآية بحرفيتها: «رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطلاً». كل ما في الكون له هدف معين، له غاية معينة يقوم بها، ولذلك قلتُ في بعض الكتب، وخاصة «التشابُه والاختلاف»: كُل مَا ومَنْ في الوجود له حَقٌّ في الوُجُود حَسَب درجَتِه في الوُجود. خلاصة الأمر أن ليست هناك عبثية، فأعمال الإنسان هي أعمالٌ مُغَيَّاتٌ، يعني تقصد شيئاً ما، وما يظهر لنا عبث يجب استنباط النظام منه. لذلك قامت نظريات في هذا الميدان، منها نظرية اللعب. اللعبة، أي لعبة، لها قوانينها، ثم إذا ذهبنا إلى أبعد من ذلك، أجعل مفهوم التطبيع (من الطبيعة هنا) بأن الإنسان هو محاكاة لقوانين الطبيعة، وما دامت قوانين الطبيعة، مُتَّسِقَة ومنسجمة، فأعمال الإنسان يجب أن تكون كذلك. نعم، قد تقع بعض الانزلاقات، مثل الخلل في الهرمونات، ولكن العالم، بصفة عامة، ليس فيه عبث إنما جِدّ، وما شاع من عبثياتٍ هو مُضادٌّ لحكمة ما خلقه الله في هذا الكون. - أريد، في إطار نفس هذه المفاهيم التي تستخدمُها، أن أعود معك إلى توظيفك مفهوم ما بعد الحداثة. بدا لي أنَّك تميل إلى هذا المفهوم أكثر من ميلك إلى مفهوم الحداثة. مثلاً في أحد كُتُبك، تذهب، في سياق حديثك عن ثقافة ما بعد الحداثة، عن المثقف العربي المسلم الذي تُصَنِّفُه إلى السلفي، والحداثي والمابعد حداثي، ومن تمتزج فيه كل الآفاق، يعني المُلَفِّق، إذا شئنا، والمُتَرحِّل الذي لا يستقر على شيء، أو لا يَقِرّ له قرار، والمُقَلِّد الإمَّعَه. على أيّ أساس بَنَيْتَ هذه التصنيفات، فما هي الخلفيات المعرفية التي قادَتْك إلى هذا التصنيف؟ ما بعد الحداثة، في نظري، بناءً على ما أَسْلَفْت، ليس بينها وبين الحداثة وما قبل الحداثة قطيعة. نُسَلِّم بهذه الفرضية. وبالتالي، ما بعد الحداثة، في كثير منها، هي إعادة قراءة للحداثة. فمسألة الدين، الأساطير، التصوُّف، جاءت الحداثة وأعادت الحيوية إلى هذه الأنواع من الخطاب. فالقطيعة، هنا، بين الحداثة وما بعد الحداثة وما قبلها غير واردة، لأن المبادئ الرياضية هي نفسها. يعني أن البنيات العميقة للغات بقيت هي هي، والدين البشري بقي هو هو، ما يعني أننا أمام حلقات متصلة تتأثَّر بالسياقات التاريخية. فما بعد الحداثة، وخاصة الفرنسية، هي رَدَّةُ فعل ضد وضع عالمي سياسي، ووضع سياسي اجتماعي فرنسي. نعلم أنه في تلك الفترة كانت هناك طفرة فرنسية صناعية بعد خروجها منتصرة في الحرب العالمية الثانية. ثم لا ننسى أن أغلب رواد ما بعد الحداثة ليسوا فرنسيين. فتيار ما بعد الحداثة، في نظري، أقلية بالنسبة للفرنسيين. كان هناك التيار العقلاني الموجود في المخترعات العلمية، وإن كان هذا التيار شاع في أمريكا. لماذا؟ لأنَّه خاطَب مُتَمَنَّياتِنا، أو أشفى غليلنا في ذلك المُسْتَعْمِر، فبالتالي، تيار ما بعد الحداثة، على الإنسان أن يأخذه بحذر شديد. مثلاً مسألة القيم، واللامعنى، إذا قَبِلْتُها بماذا ستُفيدُني، أنا محتاج إلى المعنى، أنا محتاج إلى الثقة. في الحقيقة، ما بعد الحداثة، وخصوصاً الفرنسية، هي تعبير عن الوضع الفرنسي، أو قُل هي كشف عن التصرُّفات الفرنسية الليبرالية المتوحشة، والاستعمار، والفظاعات التي ارتكبها..