أمريكا قدمت 60 مليار دولار لمصر ليس من أجل تخفيف معاناة شعبها وإنما لتعزيز أمنها نشعر بالأسف إزاء المستوى المتردي الذي وصلت إليه لغة التخاطب في بعض وسائط الإعلام الرسمي المصري تجاه السيد حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني، إثر الأزمة الأخيرة المتعلقة باعتقال خلية قيل إنها تخطط للقيام باغتيالات واستهداف مصالح حيوية في مصر. وما يزيد من حزننا، أن الذين يقودون هذه الحملة هم رؤساء تحرير من المفترض أن يكونوا أساتذة صحافة وإعلام، وقدوة حسنة لآلاف التلاميذ الذين يتطلعون إلى ممارسة هذه المهنة السامية بعد تخرجهم . أن يختلف البعض مع السيد نصر الله، ويعتبر إرساله أحد أعضاء حزبه إلى مصر للقيام بتهريب أسلحة إلى المجاهدين في قطاع غزة، انتهاكاً للسيادة المصرية، فهذا أمر مشروع ومفهوم، ولكن أن يتطاول البعض على الرجل بكلمات وألفاظ يعفّ اللسان عن ذكرها احتراماً لذوق القارئ وآداب المهنة، فهذا ما نختلف حوله، ونستغربه، ونرى أ نه يشكل خروجاً على كل الأعراف والأصول، بل وعلى تعاليم ديننا الحنيف وتراثنا الثقافي العربي العريق. أذكر مرة أن أحد سفراء دولة عربية كبرى (يشغل حاليا منصباً وزارياً مهماً) نختلف مع سياساتها، طلب لقائي بتكليف من حكومته لمناقشة موقف صحيفتنا من بلاده، ولخّص اعتراضاته بالقول بأننا نتجنى عليها، فعندما سألته عما إذا كانت أي من الأخبار التي ننشرها عن بلاده «كاذبة» أو «مفبركة»، أجاب بالنفي، فقلت له أين المشكلة إذن؟.. قال إنها مقالاتك أنت التي تشكل مصدر إزعاج لحكومتي ورأس الدولة. فقلت له ولكن مقالاتي ليس فيها أي سباب أو شتائم، ولم أستخدم مطلقاً كلمة نابية، أو اتهاماً شخصياً، لأن خلقي لا يسمح بذلك أولا، ولأن القانون البريطاني صارم، وتكاليف المحامين باهظة فوق طاقتي.. فقال لي: يا سيدي دخيلك اشتم.. سب.. استخدم ألفاظا نابية، فهذا سيكون مصدر سعادتنا، ولو فعلت ذلك لما جلست معك أو ناقشتك. السيد حسن نصر الله عندما رد على الاتهامات المصرية له ولحزبه بمحاولة تخريب مصر، وزعزعة استقرارها، كان في قمة التهذيب والهدوء، لم يستخدم كلمة واحدة خارجة عن نطاق الأدب والحصافة، وقدم نموذجاً في الصدق والشفافية عندما اعترف بشجاعة بأن الشاب سامي شهاب عضو في حزب الله فعلاً، وذهب إلى مصر من أجل تهريب السلاح للمجاهدين المحاصرين في قطاع غزة. واعتبر هذه المهمة شرفاً وتكريماً وتقرباً إلى الله. هذا المستوى الإعلامي الرسمي المصري، هو الذي لعب دوراً أساسيا في تدهور مكانة مصر، وفقدانها زمام المبادرة الذي كانت تتمتع به عندما كان إعلامها رائداً في الوطنية، يتربع على عرشه أساتذة أفاضل، نحازوا دائماً إلى قضايا أمتهم وعقيدتهم، ووقفوا في خندق الحق، مدعومين بذخيرة ضخمة من العلم والمعرفة، وحرضوا دائماً على تهريب السلاح لكل من يحتاجه من المقاومين، ليس في الوطن العربي وإنما في كل أصقاع العالم. الحرب الضروس التي تشن حالياً من جانب واحد، أي الحكومة المصرية ورجالاتها في الإعلام والسلطة، لا علاقة لها مطلقاً بخلية حزب الله، بل إن اعتقال هذه الخلية جرى توظيفه بشكل بشع من أجل الهدف الأساسي وهو محاربة «ثقافة المقاومة» ومنع وصولها إلى مصر، أو بالأحرى منع إعادة إحيائها في أرض الكنانة، بعد أن بدأت إرهاصاتها تتبلور من خلال الهجمات على السياح الإسرائيليين في منتجعات شمال سيناء وخان الخليلي والأقصر وحي سيدنا الحسين. نحن الآن أمام مدرستين، الأولى ترفع لواء التصدي للمشروع الإسرائيلي، والانتصار للمحاصرين المجوعين في قطاع غزة، وترى في «استجداء» السلام مع الإسرائيليين عملية مهينة علاوة على عدم جدواها، ومدرسة أخرى تفعل عكس ذلك وتبالغ في التصدي للمدرسة الأولى، وتوظف كل إمكانياتها الأمنية الهائلة لقتل المشروع العربي المقاوم بكل الطرق والوسائل، تقرباً من الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل، وبعض الدول الغربية الأخرى. صدمتني شخصياً الحملة الشرسة التي تعرض لها اللاعب المصري الشهم محمد أبو تريكة عندما سجل هدفاً في مرمى الخصم في مباراة إفريقية، وجرى في الملعب رافعاً «فانيلته» المكتوب عليها كلمات التضامن مع المحاصرين في غزة. هذا اللاعب الذي تصرف بغريزته الوطنية، وعبر عما يجيش في صدور ثمانين مليون مصري شريف تعرض لأبشع أنواع التقريع والإهانات، من قبل بعض مقدمي البرامج في التلفزيون الرسمي المصري، لأنه «نسي» أن هؤلاء الذين اقتحموا الحدود المصرية انتهكوا سيادة بلاده، وحرمة أراضيها، بينما «نسي» هؤلاء أن أكثر من نصف سكان قطاع غزة هم من أصول مصرية، ومعظم النصف الآخر من أمهات أو جدات مصريات، وخضعوا للإدارة المصرية لأكثر من عشرين عاماً، وحملوا وثائق سفر مصرية، وما زالوا حتى هذه اللحظة. النظام المصري يشن حملة التكريه ضد السيد حسن نصر الله وحزب الله لثلاثة أسباب، الأول أن شعبية السيد نصر الله في مصر كانت طاغية، حسب استطلاعات رأي رسمية، والثاني لأن «حزب الله» هزم إسرائيل مرتين، الأولى عندما أجبرها على الانسحاب من جنوب لبنان مكرهة عام 2000، والثانية عندما أذلها أثناء هجومها على لبنان صيف عام 2006، وألحق أكبر هزيمة بجيشها الذي لا يقهر. أما السبب الثالث فهو تبرير أي تحالف مصري «رسمي» مستقبلي مع إسرائيل ضد إيران، في حال أعلنت الأولى الحرب على الثانية تحت ذريعة تدمير البرنامج النووي الإيراني. أمريكا قدمت 60 مليار دولار لمصر على مدى الأربعين عاماً الماضية ليس من أجل تخفيف معاناة شعبها، وإنما لتعزيز أمنها وقدراتها العسكرية، لتحقيق هدف أساسي وهو حماية إسرائيل وحدودها، والقضاء على ثقافة المقاومة، واقتلاع جذورها. وهذا ما يفسر تفوق الميزانية الأمنية على نظيرتها العسكرية في مصر دون دول المنطقة جميعاً. الشاب سامي شهاب زعيم خلية «حزب الله» لم ينتهك سيادة مصر، وإنما أراد أن ينتهك حصاراً ظالما مفروضا على أشقاء له، ويشارك في تشديده أشقاء آخرون، ويقوم بمهمة سامية في إيصال أسلحة لهم يدافعون بها عن أنفسهم. تهريب الأسلحة عبر أنفاق رفح لم يكن بدعة ابتدعها هذا الشاب، أو حزبه، فقد كان التهريب يتم قبل اعتقاله، وسيستمر بعده، بدليل أن مصر أعلنت (أول) أمس عن تدمير أربعين نفقاً، أي بعد أربعة أشهر من اعتقال الشاب المذكور وكشف أمر الخلية التي يرأسها. السذاجة تبلغ ذروتها عندما يقولون لنا إن هذا الشاب، البالغ من العمر 25 عاماً، يريد «تشييع» الشعب المصري، فكيف يقدم على هذه المهمة وهو في هذه السن، وبالكاد يعرف تعاليم مذهبه، ناهيك عن تجنيد الآخرين لاعتناقه. هذا تصغير لمصر، وإهانة لشعبها وعقيدته الراسخة المتجذرة. ما يجب أن نخجل منه، ويخجل منه الشعب المصري، ولا نقول النظام، هو أن يبادر حزب الله «الشيعي»، إلى نصرة أشقائه «السنة» في قطاع غزة، ويمد لهم يد العون المادي والعسكري، بينما «مشايخ» السنة في مصر المحروسة (باستثناء الإخوان) وبلاد أخرى يتفرجون على الحصار وحرب الإبادة التي يتعرض لها مليون ونصف مليون «سني»، ولا نقول أكثر من ذلك تأدباً. السيادة المصرية مقدسة عندما ينتهكها مجاهد فلسطيني أو لبناني أو مصري (مجدي حسين يقبع في السجن لأنه اخترق حصار غزة ودخل إليها عبر الأنفاق)، ولكن لا تصبح كذلك عندما ينتهكها إسرائيلي أو أمريكي، فالطائرات الحربية الإسرائيلية تنتهك يومياً الأجواء المصرية، وتقتل مواطنين مصريين على الجانب الآخر من الحدود في العمق المصري. نحن أمام مخطط أمريكي - إسرائيلي لإشعال الحرب المذهبية في المنطقة، ومقدمتها الإيقاع بين السنة والشيعة، لحشد العرب خلف أي عدوان إسرائيلي متوقع ضد إيران وسورية ومن ثم حركتي «حماس» و«حزب الله»، ولهذا لم يتردد شمعون بيريس رئيس الدولة العبرية في إبداء سعادته الغامرة تجاه الخلاف المصري الرسمي المتفاقم مع «حزب الله». والمأمول أن لا يقع الشعب المصري العريق، والوطني، في هذه المصيدة التي يُدفع إليها دفعاً عبر بعض وسائطه الإعلامية.