هناك فكرة للفيلسوف الألماني نيتشه تقول: «وحدها الأفكار التي تأتينا ونحن ماشون لها قيمة». كم من الأفكار الكبيرة باغتت ذهن خالد مشبال وهو يمشي، سيرا على الأقدام، من المغرب إلى مصر.. وهل الأفكار التي أنتجها، طيلة مساره الصحفي والإذاعي، لم تكن سوى محصلة لتلك الرحلة الشاقة التي بدأها سنة 1952 وهو لم يتجاوز 15 سنة؟ فوق «كرسي الاعتراف»، يحكي المشّاء خالد مشبال تفاصيل «الرحلة الأسطورية» التي قادته، ورفيق دربه عبد القادر السباعي، من وادي ملوية حتى بحر الإسكندرية، مرورا بتفاصيل مشوقة حينا ومؤلمة أحيانا، من محطاته الجزائرية والتونسية واللليبية؛ كما يتوقف مشبال عند العلاقة التي نشأت بينه وبين الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في القاهرة، ولقاءاته بعدد من رموز الحركة الوطنية المغاربية، ونجوم الثقافة والفن والسياسة في مصر. كما يحكي خالد عن عودته في 1958 إلى المغرب واشتغاله في «راديو إفريقيا»، وتغطيته مؤتمر الوحدة المغاربية، وتفاصيل محاورته المهدي بن بركة الذي أحرجه مشبال بأسئلة عن «إيكس ليبان» وعدم تنسيقه مع الخطابي وخلافاته مع حزب الشورى. ولا يفوت مشبال أن يعرض لذكرياته مع المهدي المنجرة الذي دخل في خلاف مع مولاي احمد العلوي الذي كُلف بالتخلص من المحطات الإذاعية الأجنبية الجريئة، وكيف فوض إذاعيو هذه المحطات مشبال لتمثيلهم في مفاوضة المسؤولين. على «كرسي الاعتراف»، يُقر مشبال بماضيه السياسي إلى جانب أبرز القادة الاتحاديين، خلال سنوات الجمر والرصاص.. كما يعترف بكل اللحظات الجميلة والعصيبة التي عرفتها إذاعة طنجة على عهده. - بعد توقيفِك عن العمل لمدة سنتين، من 1964 إلى 1966، بسبب صفعك المسؤول عن رقابة البرامج في إذاعة طنجة، ثُم توقيفِك من سنة 1972 إلى 1973 بسب مقال كتبته عن الفساد الإداري والمالي في الإذاعة والتلفزيون، سيتم توقيفُك للمرة الثالثة في نهاية 1976؛ ما حكاية هذا التوقيف الثالث؟ تم توقيفي لاعتبارات سياسية، ذلك أنني كنت قد ترشحت للانتخابات الجماعية لسنة 1976 في صفوف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وكانت النتائج مفاجئة بل صادمة للسلطات، فقد حصلنا في الواقع على 22 دائرة انتخابية من أصل 29، لكن تدخل السلطات لتقليم أظافر الحزب في طنجة، والتزوير ضده، أفقدنا ستة مقاعد، حيث لم نفز في النهاية إلا ب16 مقعدا، ومع ذلك كنا الحزب الحاصل على الأغلبية، الشيء الذي كان يخول لنا قيادة المجلس. وعندما استقر رأي الإخوان عليّ لتولي مهمة رئيس المجلس البلدي، ثارت ثائرة وزارة الداخلية، وبالخصوص عامل طنجة حينئذ، محمد البرنوصي، ليبدأ مسلسل الكيد لي والانتقام مني، والذي سيأخذ أشكالا وألوانا متعددة. - سينتهي بتوقيفك عن العمل؟ تلقيت مذكرة إدارية من طرف الإدارة المركزية للإذاعة والتلفزة بالرباط تأمرني بالانتقال، في ظرف 24 ساعة، إلى مدينة العيون. وعندما رفضت ذلك بمبرر أن هذا التنقيل عمل انتقامي، تم توقيفي عن العمل، بمبرر أنني غادرت مكان عملي دون إشعار رؤسائي.. - فضلتَ رئاسة المجلس على الوظيفة الإدارية، مصدر رزقك الوحيد؟ (يضحك) ضحيت بالوظيفة وبرئاسة المجلس.. - كيف؟ بعد تشبث الإخوان في الحزب بي كرئيس مفترض للمجلس البلدي، ضدا على رفض السلطات لي، لجأت السلطات إلى أسلوب آخر هو استمالة أعضاء من الاتحاد الاشتراكي إليها، وقد نجحت، في النهاية، في الضغط على عضوين، واحد من الاتحاد الاشتراكي والآخر من حزب الاستقلال، وهو ما رجح كفة مرشح السلطة مولاي عزيز وزان (المعروف بالشريف ديال وزان)، وبالفعل تمكنت العمالة من تنصيبه رئيسا للمجلس البلدي، ضدا على إرادة السكان؛ أما أنا فبقيت متوقفا عن العمل لعدة أشهر، إلى أن نادى علي السي عبد اللطيف خالص، مدير التلفزيون، للعودة إلى الرباط. لكن قبل ذلك، كانت هناك الانتخابات البرلمانية ليونيو 1977 والتي استعملت فيها مصالح وزارة الداخلية سياسة العصا والجزرة معي، وتلك قصة أخرى. - اِحك لنا فصولها.. في 1977، قرر الحزب (الاتحاد الاشتراكي) ترشيح الدكتور عبد الواحد الطريس باسمه للانتخابات البرلمانية، وقد كان عامل طنجة محمد البرنوصي يعرف أن إشرافي على حملة الطريس سيكون كافيا لكي يحقق فوزا كاسحا، لذلك اتصل بي العامل فالتقيت به بحضور كل من عبد العزيز بومغيث، المكلف بالشؤون العامة للأمير مولاي عبد الله، وحميد العباسي، رئيس الغرفة التجارية حينها، ورشيد بنزكري، المسؤول عن الاتحاد المغربي للشغل، وأحد الأعضاء السابقين في «الفديك» والذي كان مرشحا لهذه الانتخابات.. وقال لي (العامل) سوف تذهب أنت وزوجتك في رحلة استجمام سياحية إلى فرنسا، على نفقتنا، وأضاف بالحرف: «منين ترجع غادي تكون التفاتة أخرى ليك من طرف الناس ديال المخزن». (يصمت) لكن، عندما تأكد لمصالح وزارة الداخلية أنني أرفض عروضها، بدأت تصلني تهديدات من جهات أمنية إقليمية، وهو ما أحدث حالة رعب وسط عائلتي. في هذه المرحلة، كانت زوجتي أمينة حاملا؛ وتقديرا مني لوضعها النفسي، وأيضا أمام ضغط باقي أفراد العائلة علي، قبلت المنفى (يضحك).. - أي منفى؟ نفتني سلطات طنجة، إجباريا، إلى عمالة تطوان التي نقلتني رفقة عائلتي إلى إقامة سياحية ب»كابو نيكرو». - هل بقيت «منفيا» طيلة مدة الحملة الانتخابية؟ لا، بعد عشرة أيام قضيتها تحت المراقبة في هذه الإقامة، استطعت الانسلال منها والاتصال بابن أختي الذي جاء بالسيارة ونقلنا إلى طنجة حيث انخرطت في الحملة الانتخابية التي كانت جميع المؤشرات فيها تؤكد فوز مرشح الاتحاد الاشتراكي، الدكتور عبد الواحد الطريس، قبل أن تتدخل الداخلية وتزور النتائج بشكل مفضوح ليفوز مرشحها رشيد بنزكري. - بعد حوالي سبع سنوات من انتقالك إلى الرباط للعمل هناك، بطلب من مدير التلفزيون عبد اللطيف خالص، ستعود في النهاية إلى إذاعة طنجة في 1984 لتتولى إدارتها، منتصرا على ما تسميه ال»Veto» ضدك.. نعم، قبل ذلك بحوالي سنة، كان قد توفي حسن الرامي، مدير إذاعة طنجة، بسكتة قلبية مفاجئة، فاقترح اسمي لتعويضه، لكن ال «Veto»كان قويا وحال دون ذلك كالعادة، حيث تم تعيين المهندس التقني عمر بناني في هذا المنصب، فتدهورت الإذاعة في عهده بشكل غير مسبوق.. - وهنا تذكر المسؤولون رجلا اسمه خالد مشبال، بمقدوره أن يُنهض الإذاعة من سباتها.. نعم؛ ففي ماي من سنة 1984، اقترحني الصديق المنصوري بن علي، الذي كان حينها وزيرا ملحقا بالديوان الملكي، على وزير الإعلام حينها، عبد اللطيف الفيلالي، الذي كان بدوره يقدرني كثيرا، فلم يتردد، بعد حوالي أسبوع على هذا المقترح، في إصدار قرار بتعييني مديرا لإذاعة طنجة، وهو المنصب الذي بقيت فيه إلى غاية تقاعدي الإجباري في 1995، وتلك حكاية أخرى قد نأتي على سردها.