أثناء أدائه القسم الدستوري أمام البرلمان، ذكَّر فيليبي السادس بأن سلفه خوان كارلوس الأول نجح في أن يكون ملكا لكل الإسبان. وهذا، في الواقع، هو واحد من أكبر التحديات التي واجهت ملوك إسبانيا منذ تكوين الدولة الإسبانية الموحدة في القرن السادس عشر، لأن الأقاليم التي تمثل ما يسمى بالقوميات التاريخية، مثل بلاد الباسك وكتالونيا وغاليثيا، لم تكن تقبل بسهولة ملكا يحكمها من مدريد، بسبب صراعات تاريخية وسياسية عميقة، وبسبب إحساس بالانتماء إلى هوية وثقافة مختلفتين. وقد انضاف إلى هذه العناصر في القرن العشرين عنصرٌ آخر إيديولوجي، ساهم إلى حد بعيد في سقوط الملكية وإعلان الجمهورية الثانية سنة 1931، والتي أعقبتها حرب أهلية دموية انتهت بفرض نظام ديكتاتوري حكم البلاد بيد من حديد زهاء أربعة عقود؛ وهو نظام، بالرغم من كل عيوبه، عبَّد الطريق لعودة الملكية. غير أن عودة الملكية لم تكن تعني تصالح الإسبان مع ماضيهم، لذا وجد خوان كارلوس نفسه، وهو يعتلي العرش، بين مطرقة القوميات وسندان الإيديولوجيات ذات المرجعية الجمهورية. وقد ذكَّر فيليبي السادس في خطابه، كذلك، بأن والده نجح في خلق مصالحة بين الإسبان، وفي جعل هؤلاء يتجاوزون الاختلافات العميقة التي توجد بينهم، وفي بلورة «توافق وطني». ليست هناك أية مبالغة في كلام الملك الجديد، فخوان كارلوس بالفعل نجح في كسب الرهان بشكل لم يسبقه إليه عاهل إسباني آخر. وقد سمح اعترافه بالقوميات التاريخية في إطار نظام حكم ذاتي موسع، بتقارب غير مسبوق بين القوميين والملكيين؛ وكان على رأس الأنشطة التي قام بها بعد اعتلائه العرش مباشرة، السفرُ إلى كتالونيا وإلقاؤه خطابا باللغة الكتلانية، مجد فيه الثقافة والتاريخ والهوية الكتلانية. نجح خوان كارلوس، كذلك، في استيعاب الإيديولوجيات بتوجهاتها المتضاربة، بفضل دستور حظي بتوافق وطني ودعم مؤسساتي وشعبي، تنازل من خلاله الملك عن عدد من السُّلط التي كانت في الماضي بيد رئيس الدولة؛ كما أقر التعددية الحزبية، وهو ما سمح بعودة أعداء الأمس: الحزب الاشتراكي العمالي، وخصوصا الحزب الشيوعي، إلى الحياة السياسية بعد عقود من الإقصاء. وكانت عودة الشيوعيين إلى الساحة السياسية هاجسا أرَّق الكثيرين، لأنهم كانوا لايزالون يحلمون بالعودة إلى الحكم «الذي سُرق منهم» سنة 1936 بواسطة انقلاب عسكري أسقط حكومة «الجبهة الشعبية» المشكلة من مختلف تيارات اليسار؛ لذا، فرجوع الزعيم التاريخي للحزب الشيوعي «سانتياغو كارييو» من المنفى، أعاد شبح الحرب الأهلية، وكان «كارييو» يتمتع بشعبية كبيرة بين تيارات اليسار والتيارات التقدمية بشكل عام، كما كان معروفا بعدائه للنظام الملكي برمته، وكان يَعتبر في البداية مُلك خوان كارلوس، هذا الأخير «ظاهرة عابرة». غير أن الذي استغربه الجميع في ذلك الظرف الحساس هو الكيفية التي نجح بها خوان كارلوس في كسب ود الزعيم الشيوعي الذي تحول إلى واحد من أكبر أصدقائه، ومن المتحمسين للروح الإصلاحية التي تمتع بها خوان كارلوس.. وقد استمرت الصداقة بين الرجلين إلى وفاة الزعيم الشيوعي. نجح خوان كارلوس كذلك، وفي زمن قياسي، في تفكيك الآلة الفرانكوية التي خرج من رحمها، وكان يعرف أن ذلك لن يتحقق بقطيعة راديكالية، بسبب تجذر هذه الآلة في إسبانيا العميقة، من خلال سيطرتها على المؤسسة العسكرية، وعلى الحكومة، وعلى «الكورتيس» (البرلمان)، وعلى الاقتصاد، وعلى الكنيسة، وعلى التعليم؛ لذا اعتمد على العناصر المعتدلة داخل الحزب الفرانكوي «El Movimiento»، للقيام بإصلاحه المنشود. وقد انسحبت هذه العناصر المعتدلة من الحزب الذي تم بعد ذلك حله. وكانت طلقة الرحمة على ما تبقى من جسم الفرانكوية المحتضر هو الانقلاب العسكري لسنة 1981، والذي نجح خوان كارلوس في إفشاله بخطاب تاريخي وجهه فجر يوم 24 فبراير إلى الشعب الإسباني. فشل الانقلاب وما أعقبه من إحالة رموز الفرانكوية في المؤسسة العسكرية على المحاكمة أو التقاعد، كان يعني كذلك نهاية ما يسمى بالمرحلة الانتقالية من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، خصوصا بعد الفوز الكاسح للاشتراكيين في انتخابات 1982، وهو الفوز الذي أسس لثنائية حزبية على غرار ما يوجد في الديمقراطيات الغربية العريقة. كل هذه الخطوات التاريخية جعلت العشرية الأولى من عهد خوان كارلوس نموذجا يُدَرس في الجامعات والأكاديميات السياسية، كما أن العديد من بلدان أمريكا اللاتينية وأوربا الشرقية، حرصت على الاستفادة منه في انتقالها من الديكتاتورية إلى الديمقراطية. غير أن ملكية خوان كارلوس عرفت العديد من الارتجاجات في السنوات الأخيرة، وكان وراء بعضها أفراد من الأسرة الملكية، مثل صهره «إنياكي أوردانغارين» المتهم في قضايا فساد مالي، وزوجة هذا الأخير الأميرة كريستينا التي مثلت هي الأخرى أمام المحكمة، في سابقة لم تعرفها الملكية الإسبانية من قبل؛ كما كان وراء بعض هذه الارتجاجات خوان كارلوس نفسه، بسبب بعض علاقاته العاطفية، وخصوصا بسبب سفره غير المعلن إلى بوتسوانا لاصطياد الفيلة، وهو الحدث الذي أثار غضب شرائح من الشعب الإسباني بعد اكتشاف الأمر، وقد اضطر خوان كارلوس آنذاك إلى الاعتذار بشكل رسمي إلى الشعب، وهي سابقة أخرى لم تعرفها الملكية الإسبانية. آنذاك، اقتنع الكثير من الإسبان بأن خوان كارلوس، الذي تجاوز السادسة والسبعين ويعاني من صعوبات صحية، لم يعد رجل المرحلة، وأن مشروعه السياسي قد استنفد. وقد بينت استطلاعات الرأي أن 70 في المائة من الإسبان اعتبروا أن تنازله عن العرش سيساهم في تحسين صورة إسبانيا في الخارج (استطلاع صحيفة ABC). استطلاعات الرأي صنفت، كذلك، فيليبي دي بوربون في المرتبة الأولى بين كل أفراد الأسرة الملكية، وبين الطبقة السياسية بشكل عام، واعتبرته رجل المرحلة، وقال 90 في المائة من الإسبان إن جميع الشروط لتولي المُلك تتوفر فيه (استطلاع ABC)، في وقت تعيش فيه إسبانيا أزمة شاملة؛ أزمة بصيغة الجمع، بدأت ظرفية، ولكنها أصبحت اليوم بنيوية في كثير من مظاهرها. وقد تعهد الملك الجديد أثناء أدائه القسم الدستوري بالعمل من أجل المساهمة في إيجاد حلول لها. غير أن ذلك لن يكون بالأمر السهل، بسبب تفاقمها، وبسبب الهامش المحدود الذي يمنحه له الدستور لاتخاذ قرارات تنفيذية، لأنه في نهاية المطاف يسود ولا يحكم. فما هي أهم مظاهر هذه الأزمة الشمولية التي تجعل فيليبي السادس يبدأ عهده في ظرفيةٍ وإن لم تكن من صعوبة تلك التي بدأ بها سلفه عهده، فإنها ستجعله في اختبار حقيقي أمام شعبه؟ إنها أزمة ملكية، وأزمة مؤسسات، وأزمة اقتصادية، وأزمة اجتماعية، وأزمة مطالب قومية: أزمة الملكية: يتوجب على الملك الجديد أن يستثمر الشعبية التي يتمتع بها لإعادة البريق المتآكل إلى الملكية الإسبانية، ولإعادة الود بين الملكية والشعب، وهذا أمر ليس سهلا، وقد وصل الأمر إلى تنظيم مظاهرات في مختلف المدن، لم تعرف إسبانيا مثلها من قبل، تطالب بإجراء استفتاء حول طبيعة النظام الذي يجب أن تتبناه إسبانيا مستقبلا. صحيح أن المتظاهرين لا يمثلون إلا عددا محدودا من الإسبان، غير أن وجودهم في الشارع، وحضورهم القوي في وسائل الإعلام يثير الانتباه. ومن المحتمل أن تكون احتجاجاتهم ومطالبهم عابرة وستخمد مع مرور الوقت، لكن هذا الخمود رهين، إلى حد بعيد، بالخطوات التي سيقوم بها فيليبي السادس. لقد ذكر الملك الجديد، في أول خطاب وجهه إلى الشعب الإسباني، أن مشروعه يتمثل في «ملكية متجددة لزمن جديد»؛ «ملكية تستجيب لتطلعات أبناء جيله». والشارع الإسباني اليوم ينتظر أن يترجم هذا الكلام إلى أفعال، والأنظار مركزة بشكل كبير على الأسرة الملكية؛ لذا عليه، مثلا، أن يقدم كل الضمانات والتسهيلات لتواصل العدالة مجراها، بخصوص ملفات الفساد المالي التي تورط فيها أفراد من الأسرة الملكية. وقد استحسن الرأي العام الإسباني إقصاء شقيقته كريستينا وزوجها من احتفالات تنصيبه، وكذا من كل الاحتفالات الرسمية التي تشارك فيها الأسرة الملكية. على فيليبي السادس، كذلك، أن يحكم بشخصيته هو، رغم وجود ملك آخر لايزال على قيد الحياة، يحمل هو الآخر لقب ملك، وله العديد من المتعاطفين، خصوصا بين شريحة المتقدمين في السن. عبد الواحد أكمير