لا حديث في العاصمة الاقتصادية هذه الأيام سوى على الأرقام الفلكية التي تضمنها المخطط الاستعجالي، فالكثير من المتتبعين للشأن المحلي البيضاوي يؤكدون أن إقلاع المدينة يتطلب الانكباب على عنصر الحكامة، لأنها الطريق الأسلم لتفادي المطبات، في حين تؤكد أراء أخرى أنه رغم أهمية الحكامة فإن المدينة في حاجة إلى السيولة المادية، لأن حجم الخصاص يفوق بكثير الإمكانات المتوفرة لديها، خاصة أن العاصمة الاقتصادية للمملكة تعاني الكثير من التراكمات. باتت العديد من الجهات المهتمة بالشأن المحلي البيضاوي تتحدث عن أرقام فلكية لحل الإشكاليات العميقة التي تغرق فيها العاصمة الاقتصادية، التي بدأت تفقد تدريجيا موقعها الريادي وطنيا. فمنذ الزلزال الأخير الذي خلفه الخطاب الأخير للملك حول الدارالبيضاء جرى عقد سلسلة من الاجتماعات، وتم الحديث عن مخطط استعجالي لإنقاذ هذه المدينة من الوحل الذي تتخبط فيه، ودون أن يتم تسلط الضوء، حسب بعض العارفين بأمور وهي انعدام الحكامة كما جاء في الخطاب الملكي. صحيح أن الدارالبيضاء مدينة كبيرة، وصحيح أيضا أن مشاكلها البنيوية عميقة جدا، ولكن هذا الأمر لا يعني أن المدينة عليها المكوث في محطة انتظار ما ستجود به عليها الدولة من حين لآخر، فحسب مجموعة من مراقبي الشأن المحلي فإن أي رئيس غير قادر على جلب أموال وترشيدها، وعقد شراكات وتشكيل تحالفات قوية مكانه ليس في الدارالبيضاء، وأي مستشار يجمع ما بين صفتين أو أكثر مكانه ليس في العاصمة الاقتصادية. 116 مليار سنتيم فلو تمكنت المدينة من استخلاص كافة مداخيلها لما كانت في حاجة أصلا إلى الميزانية المخصصة لها من قبل وزارة الداخلية لتنفيذ المخطط الاستعجالي، والمقدرة بحوالي 116 مليار سنتيم، فملف ممتلكات المدينة توقف في البداية، فبعد القرار المتخذ من قبل المجلس بفسخ عقود خمسة مرافق جماعية تستغل من قبل الخواص، دخل هذا الملف إلى غرفة الإنعاش، ولم تعد اللجنة التي أحدثت من أجل هذا الغرض تعقد اجتماعاتها، بل حتى الممتلكات التي تم فسخ العقد معها مازالت الجهات التي تستغلها ترفض هذا الأمر بمبررات مختلفة. المستشار مصطفى رهين أكد أن الخطاب الملكي واضح، حينما تحدث عن الإشكالية المرتبطة بمشاكل المدينة، ولخصها في عبارة واحدة وهي انعدام الحكامة، ففي الوقت الذي كان من المفروض فيه البحث عن طرق لوضع حد لضعف الحكامة في الدارالبيضاء بدأ التركيز ينصب بشكل غير مفهوم على السيولة المادية، فمشكل الدارالبيضاء، حسب المتحدث ذاته، ليس في الإمكانات المادية ولكن بكل بساطة في غياب إرادة حقيقية للإصلاح. وأضاف أنه حاليا يتم الحديث عن مخطط استعجالي للمقاطعات، وذلك لتنفيذ سياسة القرب، علما أن المقاطعات في ظل الميثاق الجماعي مسؤولة عن إنجاز كل ما له علاقة بمشاريع القرب، بمعنى نحن لسنا في حاجة إلى مخطط استعجالي لحل مشاكل هيكلية، مادامت المدينة تتوصل سنويا بميزانية قارة من وزارة الداخلية، شأنها في ذلك شأن باقي المدن الأخرى. محاولة لتهريب الإشكاليات رئيس مقاطعة بيضاوية، رفض ذكر اسمه، أكد أن هناك محاولة لتهريب الإشكاليات التي تعانيها المدينة، عبر التركيز على الجانب المادي، قائلا «لقد جرى التركيز على الجوانب المالية، علما أن الدارالبيضاء لا تفتقر إلى هذه الإمكانات لأن ميزانيها ضخمة، فالقضية مرتبطة بشكل أساسي حسب رأيه في انعدام رؤية محددة لمستقبل المدينة، وأضاف «راه حتا شي واحد ما عارف أشنوا واقع». هذه الجملة كانت سببا في انتفاضة أعضاء فريق العدالة والتنمية في مجلس مدينة الدارالبيضاء، فإخوان بنكيران في الدارالبيضاء لم يستسيغوا ما يعتبرونه انفراد الرئيس بالقرارات، وأصدروا قبل أيام بيانا ناريا، قالوا فيه إن هناك استفرادا للرئيس في التسيير واتخاذ قرارات ترهن مصير مدينة الدارالبيضاء، دون الرجوع إلى المجلس صاحب الاختصاص ( موضوع تدبير قطاع النظافة ودفاتر التحملات نموذجا....) بعيدا كل البعد عن الحكامة الجيدة، علما يقول البلاغ، بأن الحسم في اختيار طريقة التدبير، سواء بواسطة التدبير المفوض أو بواسطة شركات التنمية المحلية أو التدبير المباشر يعتبر خيارات يعود القرار فيها للمجلس. الجدل المستمر وقال مصطفى الكحيلي، عن حزب العدالة والتنمية، في تصريح ل «المساء» إنه لا يمكن رهن مدينة الدارالبيضاء لفائدة شركات الخواص، وهذا يتنافى مع كل أشكال التحالف والتوافق». وسجل فريق مستشاري العدالة والتنمية بمدينة الدارالبيضاء استنكاره لاستفراد الرئيس بالتسيير، وتنكره لميثاق الشرف الذي وقعه الفرقاء السياسيون، ورفضه لرهن مدينة الدارالبيضاء لفائدة الغير، دون الرجوع إلى الجهاز التداولي في المجلس الجماعي للدار البيضاء، امتثالا للمقتضيات القانونية وصونا لمصلحة المدينة وحقوق السكان. وطالب الفريق رئيس المجلس الجماعي بتنفيذ قرارات المجلس المتعلقة بفسخ العقود التي تم التصويت عليها في الدورة الأخيرة، وسد الطريق على كل من يساوم بها لتحقيق مصالح شخصية، كما أكدوا على ضرورة احترام اختصاصات المجلس الجماعي وعدم الخضوع لأي جهة كانت، حفاظا على اختيار تعزيز الديمقراطية المحلية. الرأي الآخر من جهة أخرى قال محمد أبو الرحيم، نائب عمدة الدارالبيضاء، في تصريح ل «المساء» « هناك الكثير من المشاكل التي تعانيها الدارالبيضاء، تحتاج حاليا إلى السيولة المادية لمعالجتها، لأنه لا يمكن استمرار هذه المشاكل حتى يتم تفعيل نظام الحكامة، الذي يبقى أمرا مهما بالنسبة للدار البيضاء، وقال» هناك حاليا حاجة ماسة إلى السيولة المادية من أجل إنجاز المشاريع وحل المشاكل، لكن هذا لا يعني أن الميزانية الحالية للمدينة تحتاج إلى الحكامة من أجل إزالة بعض الشوائب، وحل عدد من الإشكاليات المرتبطة بتوفير فائض مالي ضخم، واستخلاص أكبر عدد من المداخيل، حتى يعود ذلك بالنفع على المدينة عموما. والي الدارالبيضاء بدوره كان واضحا حينما سألته «المساء» حول أسباب التركيز على الجوانب المالية وتغييب عنصر الحكامة في النقاش الحالي في العاصمة الاقتصادية، إذ قال « من بين الأهداف المرسومة على المستوى القريب، العنصر المتعلق بالحكامة، فهناك تفكير في إحداث مجموعة الجماعات المحلية لتدبير بعض المرافق الاجتماعية، وإحداث شركات للتنمية المحلية، على شاكلة شركة «إدماج السكن» «الدارالبيضاء للنقل»، مؤكدا أن هناك رغبة في تنفيذ رؤية 2030، وذلك عبر بلورة مجموعة من الأفكار، إذ سيتم في مارس المقبل تنظيم ملتقى من أجل التعرف على تجارب بعض المدن العالمية والوطنية. مشاريع بالجملة المخطط الاستعجالي الذي تم الترويج له بعد الخطاب الملكي حدده العمدة ساجد في مجموعة من النقاط، ومن بين المشاريع التي سيتم تنفيذها إعادة تهيئة 19 شارعا و13 ملتقى بقيمة إجمالية تقدر بحوالي 220 مليون درهم، وإقامة طرق إضافية بغلاف مالي إجمالي يناهز 35 مليون درهم، وتحسين محاور السير على مستوى المقاطعات، ويهم الطرق والأرصفة باستثمار شمولي يقارب 110 ملايين درهم، كما أنه سيتم تخصيص 245 مليون درهم لإعادة هيكلة حديقة الجامعة العربية وتهيئة المساحات الخضراء وإعادة تأهيل حديقة الحيوانات بعين السبع وعصرنة مركب محمد الخامس، وأضاف محمد ساجد أنه من المنتظر أن يتم تخصيص غلاف مالي بقيمة 200 مليون درهم لاقتناء حافلات جديدة للنقل العمومي بغية تقديم خدمة أفضل لمجموع سكان المدينة. جميع المشاريع التي أعلن عنها ساجد في المخطط الاستعجالي تعتبر حسب بعض خصومه السياسيين، مجرد تكرار لما تم الإعلان عنه سابقا، مؤكدين أن الدارالبيضاء حاليا في حاجة ماسة إلى نظام خاص بها يحدد مسؤولية كل الأطراف المتدخلة، لأن مشاكل العاصمة الاقتصادية ليست في تعبيد الطرق وإحداث مساحات خضراء، رغم أهمية مثل هذه العناصر، ولكن التحدي هو جعلها قطبا ماليا ضخما، قادرا على المنافسة الداخلية والخارجية، والاهتمام بمشاكل المناطق المحيطية، حيث يعاني المواطنون من التهميش والخصاص. عبد العلي بنيعيش*: الحكامة الفائقة ثورة تطيح بالأنماط الجامدة في التدبير - أولا: بعد الخطاب الملكي من أجل تفكيك عقدة انطلاق التنمية الكبرى في البيضاء. من لا ينتج معرفة بالمجتمع لا يبدع في تغييره، قاعدة هامة يمكن أن ننطلق منها في مناقشة موضوع أثاره الملك عند حديثه عن واقع الدارالبيضاء البئيس، وذلك عند خطابه من منصة البرلمان لدى افتتاحه الدورة التشريعية الجديدة يوم 11/10/2013، الذي استنكر فيه ما آلت إليه البنية العامة الاقتصادية والاجتماعية للمدينة، وذلك بعد التأكد من خطورة الوضع ومسه بالمصلحة العامة، فمنذ 1999 وهو يقوم بجولات تفقدية لمختلف أحياء المدينة، أدرك خلالها أننا ربما أمام محرقة لأخطر عمق اقتصادي واجتماعي مغربي، إذ أشار إلى ذلك بقوله:» فالدارالبيضاء هي مدينة التفاوتات الاجتماعية الصارخة، حيث تتعايش الفئات الغنية مع الطبقات الفقيرة، وهي مدينة الأبراج العالية وأحياء الصفيح، وهي مركز المال والأعمال والبؤس والبطالة وغيرها، فضلا عن النفايات والأوساخ التي تلوث بياضها وتشوه سمعتها...» ومن ثم استنكر الوضعية بسؤال:» لكن، لماذا لا تعرف هذه المدينة التي هي من أغنى مدن المغرب التقدم الملموس الذي يتطلع إليه البيضاويون والبيضاويات على غرار المدن الأخرى ...»، واستغرب «: بأنه يبدو أن الدولة قد ضخت وخصصت ميزانيات ضخمة، ولكن لم يتحقق القصد المنشود منها ...» وفقدت مؤهلات وقوة العواصم العالمية الاقتصادية. من حق الملك أن يغضب لأن أعمال المؤسسة الملكية تعبير عن الدولة وعن مشروعها الثابت، عكس السياسات الحكومية التي تخضع للتغيرات والتحولات، مما يؤشر على أننا أمام وعي عميق لدى الحكم بالمغرب، ومهارة فائقة في توليد أفكار نوعية لحل مشكلات واقعية ومحتملة. - ثانيا: انفصال بين مستويات آليات التفكير لدى مؤسسات التدبير المحلي للدار البيضاء. نتساءل ما بال هذه المدينة أصبحت سوداء قاتمة فاقدة لكل جاذبيتها ومخيفة: البناء العشوائي، الأزبال والنفايات المتراكمة في كل الأحياء، العربات المنتشرة في كل الطرقات، البنايات المهترئة المتسخة العامة والخاصة، فوضى في النقل و«بلطجة» في الأسواق والمحطات الطرقية، تراجع الاستثمارات، انعدام نوادي ثقافية للشباب وكأننا في مشهد ما بعد التحضر أو ما بعد تسونامي. هذا ما يشعرنا بوجود حالة الانشطار الذهني ( Mind Projection) لمؤسسات التدبير المحلي المتمثل في انفصال العقل التدبيري للمؤسسات التي أصبحت لا تجمعها أية روابط، إضافة إلى انعدام الانسجام الحزبي، فالتناحر السياسي أسس لسلوك سياسي فريد من نوعه، مما حرم المدينة من التفكير التشاركي الشمولي والهادئ، فأدى ذلك إلى إضعاف حس المبادرة والجد والإنجاز، أو الحسم في الاختيارات الحقيقية الكبرى للمدينة، فاشتغلوا بدون أهداف واضحة، ومن ثم ابتعدوا عن الأجندة الحقيقية في مجال التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية فكانت الكارثة. - ثالثا: الحكامة الفائقة هي ثورة تطيح بالأنماط الجامدة في التدبير. إن الحكامة الفائقة أرضية أساسية لإعادة البيضاء إلى القمة والجاذبية والقوة العالمية، ويمكن أن تشتغل على الاستراتيجيات التالية: ترسيخ فكرة الإرادة الحضارية، وعدم التذرع بقلة الموارد المالية. تأسيس مركز الدارالبيضاء للتفكير والتكوين الاستراتيجي في التنمية المحلية، ويهدف هذا المشروع إلى إحداث ثورة إدارية حقيقية تطيح بالأفكار التقليدية والأنماط الجامدة في أسلوب تدبير مدينة بحجم الدارالبيضاء؛ تزيد من فرص الإبداع وتحث كل المسؤولين على الابتكار وتحسين الإنتاج، بتحمل المسؤولية، والقدرة على صناعة القرار، واستخدام الأساليب العلمية في العمل، والاعتماد على التخطيط الاستراتيجي، وتوفير روح العمل الجماعي، والاعتماد على المعايير الموضوعية في الأداء والتقييم، والابتكار بهدف التطوير المستمر، والكشف عن خطط وأساليب معاصرة تؤهل الإدارة المحلية من أجل مواكبة المستجدات وتلبية أكبر قدر ممكن من حاجيات المرتفقين ومقتضيات التنمية. تعزيز الديمقراطية التشاركية التحاورية: تقييم تجربة مدينة بورتو أليغري البرازيلية الناجحة في مجال الديمقراطية التشاركية(. ابتكار أجهزة للمراقبة المستمرة والفاعلة للتدبير المفوض. تشجيع الطاقات والأدمغة المحلية على وضع مشاريع حلول محلية نوعية. لقد حاولت أن أساهم في خلخلة طبيعة التفكير في مثل هذه القضايا الوطنية، لإعادة بناء منهجية التفكير في إدارة جديدة للشعوب والمؤسسات والأفراد، لأن من يملك المعرفة هو القوي، لأنه يمكن أن يصنع أكثر وينتج أكثر ويصدر أكثر، و من لا يستطيع أن يساهم في مجرى الأحداث وتطورها فهو أعجز من أن يؤثر أو يبدع، هذه هي أطروحاتنا في التحول الحقيقي نحو الديمقراطية التنموية. *رئيس مركز ابن رشد للدراسات الفكرية والأبحاث المعاصرة