شكل اسم «الطود»، الذي يعني الجبل العظيم، لكل من حمله سنوات الخمسينيات في شمال المغرب، نعمة في طيها نقمة؛ فبقدرما كان يورث حامله المجد والعلم.. كان يلحق به لعنة المطاردة والاختطاف والاغتيال.. لارتباط آل الطود بزعيمين «مزعجين»، هما محمد بنعبد الكريم الخطابي واحمد الريسوني، وابتعادهم عن حزب الاستقلال وجيش التحرير. فوق كرسي اعتراف «المساء»، يحكي الروائي والمحامي بهاء الدين الطود مأساة اختطاف واغتيال أفراد من عائلته، وكيف تم تهريب أخيه نحو القاهرة حيث كان أفراد من عائلته رفقة الخطابي؛ كما يتحدث عن مساره الدراسي في إسبانيا وفرنسا وإنجلترا، وعن تفاصيل علاقته الوطيدة بطالبين هما الوالي الركيبي ومحمد سالم ولد السالك، وكيف أن الأخيرين انقلبا من مواطنين مغربيين إلى انفصاليين مؤسسين لجبهة البوليساريو. كما يحكي الطود، في معرض «اعترافاته»، أنه كان محاميا لملك مصر، أحمد فؤاد الثاني، ابن الملك فاروق، وللروائي الفلسطيني الكبير إيميل حبيبي؛ ويتوقف عند التفاصيل الدقيقة لعلاقته بالعديد من المثقفين العالميين أمثال روجيه جارودي ومحمود درويش وجابر عصفور وجمال الغيطاني.. وكيف رفض محمد شكري روايته «البعيدون» قبل أن يكتب مقدمتها بعد أن اختارتها وزارة التربية والتعليم المصرية كرواية نموذجية. ويتوقف بهاء الدين الطود، أيضا، عند سياق لقائه بالقذافي وإهدائه إياه روايتيه «البعيدون» و«أبو حيان في طنجة». - في إحدى زياراتك مع وفد من المثقفين المغاربة لنجيب محفوظ، أبدى صاحب جائزة نوبل في الآداب جهلا تاما بالأدب المغربي؛ ما حقيقة ذلك؟ في دجنبر 1987، نظمت وزارة الثقافة المغربية تظاهرة ثقافية بالقاهرة، حضرتها إلى جانب العديد من الكتاب والفنانين التشكيليين والموسيقيين والمسرحيين والسينمائيين.. وعلى هامش التظاهرة، اقترح علينا وزير الثقافة، محمد بنعيسى، زيارة نجيب محفوظ؛ فتوجهنا جماعة إلى مؤسسة ثقافية، لا أذكر اسمها؛ ولدى وصولنا وجدنا نجيب محفوظ في استقبالنا.. كان لا يزال في صحة جيدة. وأذكر أن محمد بنعيسى أهداه مجموعة من الكتب المغربية، منها مجموعة قصصية لإدريس الخوري. الغريب أن التغطية التلفزيونية التي خُصت بها هذه التظاهرة لم تبث لقطة بنعيسى ونجيب محفوظ نهائيا. ولاحقا، سوف أعرف بأن ذلك كان بإيعاز من إدريس البصري وزير الداخلية والإعلام آنذاك. - من أخبرك بذلك.. بنعيسى؟ نعم. بعد ذلك، سأعود للقاء نجيب محفوظ في مناسبات متعددة، أهمها تلك التي كان يسهر عليها الروائي الصديق جمال الغيطاني. وفي إحدى هذه الزيارات، ذهبت رفقة صديقي المرحوم احمد الإدريسي إلى زقاق المدق الذي كتب عنه نجيب محفوظ رواية حملت هذا العنوان، وجلسنا في مقهى المعلم «كرشة»، الذي هو أحد شخوص الرواية الرئيسيين، فكانت مناسبة تعرفنا فيها على ابن صاحب المقهى الذي فاجأنا بحديثه الغاضب عن نجيب محفوظ، متهما إياه بالكذب والتلفيق في ما ذكره من كون والده صاحب ميولات جنسية شاذة. ولكي يعطينا ابن المعلم «كرشة» دليلا على كذب نجيب محفوظ، سحبنا خارج المقهى الموجودة في ذلك الزقاق الضيق، وهو يشير إلى عدم وجود أي حلاق في الزقاق خلافا لما يذكره نجيب محفوظ في روايته (يضحك). وفي إحدى زياراتي اللاحقة لنجيب محفوظ، حكيت له تفاصيل هذه الواقعة فانخرط في موجة ضحك لم توقفها سوى نوبة سعال حادة، علق بعدها: أنا لا أكتب تاريخا بل رواية عمادها الواقع والخيال اللذين يجعلان المستحيل ممكنا. - ما حكاية أن نجيب محفوظ تحدث -خلال اللقاء الذي جمعك به أنت ووزير الثقافة الأسبق، محمد بنعيسى، وعدد من المثقفين المغاربة- عن الطاهر بن جلون باعتباره كاتبا بالعربية؟ لقد استغربت، خلال هذا اللقاء، جهل المصريين بالثقافة المغربية؛ فأثناء حديثه إلينا، قال نجيب محفوظ إنه معجب بروايات الطاهر بن جلون وبلغته العربية الجيدة.. فأوقفه الشاعر حسن الطريبق قائلا: الطاهر بنجلون لا يكتب بالعربية، بل بالفرنسية، وكتاباته موجهة في مجملها إلى الغرب.. كاد الجو يتكهرب، لولا أن بنعيسى تدخل تدخلا حاسما ليقول للطريبق: المناسبة لا تسمح بالقيام بقراءة نقدية في توجهات الطاهر بنجلون الأدبية، ثم إنه من غير اللائق أن نتحدث عن إنسان لا يوجد بيننا. وقد خلصت في هذا اللقاء إلى أن جهل الشرقيين بثقافتنا المغربية لا ينفصل عن تجاهلهم لها منذ صدور مؤلف حنا الفاخوري «تاريخ الأدب العربي». - لم تمر زيارة الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي لأصيلة كما تمر زيارات باقي المثقفين، بل تركت آثارا طريفة لازال يذكرها كل من عاشها أو سمع بها؛ اِحك لنا بعضا منها.. كان أول لقاء لي بالشاعر عبد الوهاب البياتي هو ذاك الذي تم لدى استقبالي إياه في مطار طنجة، والذي سأصطحبه شخصيا في أعقابه إلى أصيلة للمشاركة في أحد «مواسمها». وأذكر أن البياتي غضب بشدة حين وجد أنه سيقتسم غرفته مع المغني الكبير جورج موستاكي، وطلب مني أن أجد له حلا، فلم يكن مني إلا أن أخبرت صديقي الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي بالأمر، فبادر الأخير إلى التدخل لدى مالك فندق «الخيمة» بأصيلة، الذي كانت تربطه به علاقة صداقة، ليحصل البياتي على غرفة منفردة. ليلتها، دعا حجازي البياتي إلى سهرة حضرها الشاعر العراقي بلند الحيدري والمفكر اللبناني أسعد خير الله وغيرهما. وفي تلك السهرة، اتفقنا على قضاء اليوم الموالي في طنجة. وعندما مررت صباحا، كما اتفقنا، لاصطحابهم، فلم أجد غير أسعد خير الله والبياتي، ليخبرني الأخير بأن حجازي يعتذر عن المشاركة في الرحلة.. ركبنا سيارتي وقصدنا طنجة. وعندما كنا عائدين، مساءً، وبينما لم تعد تفصلنا عن أصيلة إلا بضعة كيلومترات، قال لي البياتي ساخرا: لقد كان حجازي ينتظرك في مقهى الفندق ولم أخبرك بذلك! سألته مستغربا عن السبب الذي دفعه إلى فعل ذلك، فأجابي قائلا: أنا لا يمكنني أن أقضي اليوم كله مع شاعر من الدرجة الثانية؛ فعبرت له عن استيائي، وذكرته بأن حجازي بذل مجهودا ليمكنه من غرفة في الفندق، ودعاه إلى سهرة كان فيها كريما معه.. ثم قلت له حاسما: بعد سلوكك هذا، آسف أن أخبرك بأنني لن أزورك في مدريد كما اتفقنا (حينها كان البياتي يشتغل في سفارة العراقبمدريد)، فأردف: بالعكس، أنا أرحب بك متى شئت المجيء، فأنت لست شاعرا.. أنا لي مشاكل مع الشعراء فقط. وبعد أكثر من سنة، سيخبرني الشاعر الليبي محمد الفيتوري، حين كنت أستضيفه في بيتي بطنجة، بأنه سبق له أن أقام مع عبد الوهاب البياتي في شقة واحدة بالقاهرة، حين كانا يعملان معا، منتصف الخمسينات، بجريدة «الأهرام»؛ وفي تلك الفترة، قرأ حوارا مع البياتي، سئل فيه: كيف تجد شعر محمد الفيتوري؟ فأجاب: «أنا لا أعرف شاعرا بهذا الاسم»؛ ثم أضاف الفيتوري أنه عندما عاتب البياتي على ذلك، أجابه: أنت صديق عزيز، ولكنني لا أعتبرك شاعرا!