شهدت مدينة الرمادي، فجر يوم 27 دجنبر الماضي، واحدة من أغرب وأبشع الجرائم التي يمكن أن يرتكبها رئيس وزراء في دولة يحكمها قانون ودستور. فقد هاجمت القوات العراقية الخاصة، بأمر مباشر من رئيس الوزراء، الذي يحتفظ بعشرات المناصب الأمنية والدفاعية، مستخدمة أعلى وسائل العنف، منزل النائب د. أحمد العلواني، بنية اعتقاله. لا ينحدر العلواني من واحدة من أبرز عشائر محافظة الأنبار وحسب، ولكنه أيضا نائب منتخب ويتمتع بحصانة برلمانية كاملة، وعندما هاجمت القوات الخاصة منزله، لم يكن البرلمان العراقي قد رفع عنه الحصانة. خلال الحملة على منزل العلواني، قامت القوة المهاجمة بقتل شقيقه، وزوجة الشقيق، وعدد من حراس النائب ومرافقيه. يُعرف نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي، بكونه شخصية رعناء، ولكن أحدا لم يتصور أن تصل رعونته إلى هذا الحد. ولأن الحادثة أثارت استهجان الكثيرين، داخل العراق وخارجه، فقد حاولت حكومة المالكي في الأيام التالية تبرير الحادث، مرة بأن النائب لم يكن مستهدفا، ولكنه قبض عليه لأنه أصدر أمرا لحراسه بمقاومة القوة المهاجمة، ومرة بادعاء أن النائب على اتصال بتنظيم «القاعدة». الحقيقة، على الأرجح، أن الحادث جاء في سياق أوسع وأكثر تعقيدا من مجرد حادثة اعتقال لنائب برلماني أو غير نائب، وأن رئيس الحكومة الدموي يريد أن يضمن من الآن ولاية ثالثة، حتى لو كان الثمن سفك دماء الآلاف من العراقيين. من المفترض أن تجري الانتخابات البرلمانية العراقية في نهاية مارس المقبل، التي سيخوضها المالكي بكتلة انتخابية شيعية منفردة، ستنافس كتلتين شيعيتين رئيستين، على الأقل، وأكثر من كتلة سنية، وكتلتين كرديتين أخريين. في السنوات الأربع الأولى من حكمه، حاول المالكي في البداية تقديم نفسه باعتباره منقذ العراقيين من العنف والاقتتال الأهلي، متبنيا سياسة غير طائفية، على الأقل شكلا وخطابا. ولكن، لأن الطبع يغلب دائما التطبع، عاد المالكي في النصف الثاني من ولايته الأولى لتبني سياسة تمييز طائفية بشعة، مطيحا بأي وجود سني ملموس ومؤثر في أجهزة الدولة والحكم، في الجيش وفي المؤسسات الأمنية وفي الجامعات، وقيد حتى نشاطات المؤسسات والجمعيات الأهلية والمدنية والإعلامية السنية. وهذا ما أدى، كما هو معروف، إلى ولادة القائمة العراقية، التي ضمت شيعة وسنة، وتبنيها تصورا وطنيا جامعا. خاض المالكي، برصيده المختلط في فترة حكمه الأولى، الانتخابات قبل أربع سنوات منفردا. وبالرغم من عمليات التزييف ومحاولات منع المناطق السنية من التصويت، لم يستطع المالكي الفوز. ما أعاده يومها إلى رئاسة الحكومة كان هو الضغوط التي مارسها على المحكمة الدستورية، التي أصدرت فتوى سمحت بتشكيل تحالف بين القوى الشيعية جميعا، بعد ظهور نتائج الانتخابات، والضغوط التي مارستها إيران على القوى الشيعية لتأييد المالكي، والتفاهم الأمريكي الإيراني لتوكيد عودته إلى رئاسة الحكومة. بيد أن وصول المالكي إلى الحكم من جديد بصورة غير شرعية، ونتيجة لضغوط خارجية، أسس لفشل فترة حكمه الثانية، حتى قبل أن تبدأ. وافقت الأطراف السنية والشيعية والكردية على تشكيل حكومة وحدة وطنية على مضض، وبدون أن تشعر بأدنى ثقة برئيس الحكومة. وكان المالكي عند ظن الجميع به بالفعل، إذ سرعان ما تنكر لكافة الاتفاقات التي مهدت لتشكيل حكومته الثانية، وأخذ في استخدام وسائل الإفساد المالي بصورة غير مسبوقة منذ الاحتلال. وكانت النتيجة أن حكومته الثانية عانت من انسحابات متكررة، واتهامات متبادلة بينه وبين وزرائه من كافة الكتل، والإخفاق في الاتفاق حول وزارتي الداخلية والدفاع. أدرك المالكي منذ بداية دورته الثانية أنْ ليس له من أمل في كسب أصوات السنة العرب، وأن مصيره السياسي مرتبط بتعزيز صورته الشيعية في مواجهة منافسيه من القيادات والكتل السياسية الشيعية الأخرى، بصفته المدافع عن سيطرة الشيعة على العراق، والوحيد القادر على إخضاع سنة العراق. وباندلاع حركة الثورة والتغيير العربية، أصبح المالكي مجبرا على التصرف باعتباره حلقة في مجال النفوذ الإيراني المشرقي. ولدت حركة الثورة العربية، سواء بانتصارها السريع في تونس ومصر وليبيا أو بتعقيداتها المتفاوتة في اليمن وسوريا، تصورا بأنها ليست سوى تعبير ديمقراطي عن صعود السنة العرب في المشرق. وبالرغم من أن هذا التصور يتغافل عن حقيقة الأغلبية السنية الساحقة في المشرق، لم يكن من السهل على أنظمة حكم من طراز نظامي المالكي والأسد تجاهل الصعود الملموس للقوى السياسية الإسلامية، ذات الخلفية السنية، في المحيط العربي. وهنا، وخشية من أن تطاله رياح الثورة في النهاية، أسرع المالكي خطواته لإحكام السيطرة على البلاد، وحسم التدافع على ولاء شيعة العراق. بدأ رئيس الحكومة، أولا، بإطاحة نائب الرئيس طارق الهاشمي، إحدى الشخصيات السياسية السنية العصية على الخضوع، ودفعه إلى مغادرة البلاد، ثم أتبع الخطوة ضد نائب الرئيس بمحاولة اعتقال نائب رئيس الوزراء ووزير المالية، رافع عيساوي، القيادي السياسي السني الآخر. في الحالتين، لم تكن الشخصية السياسية هي المقصودة بذاتها، وحسب، بل وإرادة الأغلبية السنية، كذلك. وفي الوقت نفسه، فجر رئيس الحكومة أزمة كبرى مع حكومة الإقليم الكردي، وسارع إلى تقديم مساعدات مالية وتكتيكية-عسكرية إلى نظام الأسد، والسماح بتحويل العراق إلى ساحة تجنيد واسعة ونشطة للمليشيات الشيعية المقاتلة إلى جانب نظام دمشق. ولكن هجوم المالكي الأول في كل الاتجاهات لم يسر على ما يرام. اندلع حراك شعبي واسع في كل المحافظات الست، ذات الأغلبية السنية، وأدارت حكومة كردستان ظهرها لرئيس الوزراء، وأخذت أوضاع النظام السوري في التدهور. خلال 2003، عانى نظام المالكي من تحديات شعبية وأمنية وفقدان سيطرة في مساحة تزيد على ثلثي مساحة العراق. بيد أن عدة تطورات وأوهام التقت معا في نهاية 2003، لتدفع رئيس الوزراء العراقي إلى محاولة تعزيز مشروعه بإطلاق حملة هجومية ثانية. عقد المالكي مصالحة قلقة مع حكومة إقليم كردستان، واعتقد أنه بذلك نجح في عزل السنة العرب عن حكومة أربيل. ومن جهة أخرى، وباستخدام المال، أحيانا، والوعود السخية، أحيانا أخرى، أوقع انقساما بالغا في الطبقة السياسية السنية. إقليميا، تحولت الثورة السورية تدريجيا إلى حرب استنزاف أهلية طويلة، وبدا وكأن القوى الغربية، التي أيدت في سنة الثورة الأولى إطاحة نظام الأسد وانحازت إلى الشعب السوري، أصبحت أكثر قلقا من تزايد نفوذ المجموعات الإسلامية السنية المسلحة في صفوف الثوار السوريين، منها إلى بقاء الأسد، ولاسيما بعد أن أضعف النظام بصورة هائلة وتم تجريده من سلاحه الكيماوي الاستراتيجي. في الجوار الشمالي، ظن المالكي، وأسر بذلك فعلا إلى رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان، أن ملف الفساد الذي فتح في تركيا في 17 دجنبر وذيوله السياسية، أضعفت حكم اردوغان القوي وتوشك أن تطيح به أو تشل قدرته على التحرك الإقليمي. أما في الجوار الشرقي، فإن حسابات المالكي قامت على أن الاتفاق الإيراني مع مجموعة 5 + 1 بخصوص الملف النووي قد عزز من وضع الحليف الإيراني السياسي وأضعف دولا يراها رئيس الحكومة العراقية معادية، مثل السعودية، بينما يبدو أن مصر قد خرجت كلية من توازن القوى الإقليمي. اجتمعت هذه الحسابات، معا، في موازاة تصاعد غير مسبوق منذ سنوات في هجمات ما يعرف بدولة العراق والشام الإسلامية، التي كشفت هشاشة النظام الأمني الذي أقامه المالكي بصفته رئيس الوزراء، وزير الدفاع، وزير الداخلية، والقائد الأعلى للقوات المسلحة. بخلاف حملته الهجومية الأولى، التي اكتسبت طابعا أمنيا وسياسيا، تجلت الحملة الثانية من البداية في صورة عسكرية بحتة. دفع رئيس الوزراء بقطاعات واسعة من الجيش والبوليس الفيدرالي والقوات الخاصة بهدف القضاء على قواعد تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية في صحراء الأنبار، ثم انحرف بحملته إلى محاولة فض الاعتصام الشعبي في المحافظة، المستمر منذ أكثر من عام؛ وفي الطريق، أمر قواته باعتقال النائب أحمد العلواني، أحد أبرز المعارضين لحكمه في المحافظة وأبرز المساندين للاعتصام الشعبي. ولكن الأمور، هذه المرة أيضا، لم تسر على ما يرام. لم يؤد عام من تجاهل حكومة المالكي لمطالب المعتصمين وتشظي الطبقة السياسية السنية سوى إلى تعميق شعور العرب السنة بالإحباط وعدم جدوى الوسائل السلمية في تحقيق المساواة بين مواطني البلاد. ولذا، عندما بدأت قوات المالكي هجومها المسلح على اعتصام الرمادي وعلى أسرة النائب العلواني، لجأ أهالي الأنبار إلى السلاح دفاعا عن أنفسهم وحرماتهم. القول بأن دولة العراق والشام الإسلامي هي من تحتل مدن الأنبار ليس سوى تضليل مقصود ومحاولة لكسب تأييد الرأي العام في العراق وخارجه. دخول مجموعات من دولة العراق والشام الإسلامية إلى ساحة القتال كان أمرا طبيعيا، ولاسيما أن مجموعاتها تقاتل ضد قوات المالكي منذ سنوات. ولكن كتلة المقاومة الرئيسة في الأنبار، والمقاومة التي تنتشر في محافظات العراق الأخرى، تتشكل في معظمها من عموم المواطنين وأبناء العشائر. ولسوء حظ المالكي، أثبتت الأسابيع القليلة الماضية أن قواته عاجزة عن مواجهة الشعب المسلح وحسم المعركة. ماذا الآن؟ يتمتع المالكي بتأييد حلفائه في إيران، ويعمل جاهدا على تحويل الأزمة إلى معركة طائفية. كما يتمتع بدعم الولاياتالمتحدة، التي ترى في نظامه قطعة أخرى في توازنات الشرق الأوسط بين الكتلة الشيعية والكتلة السنية. ولكن تصميمه على خوض المعركة المسلحة إلى نهايتها لن يؤدي إلا إلى مزيد من سفك الدماء وإلى تفتت العراق إلى دوائر متصارعة، ولأمد طويل. كما أن ثوار الأنبار والمحافظات الأخرى، في ظل الانقسام العراقي الداخلي وغيبة الدعم الإقليمي والدولي، لن يستطيعوا إطاحة المالكي بالقوة المسلحة. البديل الوحيد للطرفين، في هذه المرحلة على الأقل، هو التفاوض، والتفاوض الجاد، من أجل إعادة بناء النظام السياسي وتأمين حقوق المواطنين، كل المواطنين.