تقتضي الكتابة الروائية، بما هي صيغة فنية جمالية، التفكير في خلق/ تخليق المتلقي الذي يؤسس تواصلا معرفيا والنص، من منطلق أن حيازة هذه الكتابة قيمتها الاعتبارية لا يتأتى سوى في لحظة تلقيها. إنها الكتابة المصاغة بغاية القراءة، الفهم والتأويل. بيد أن الكتابة الروائية وحتى تسهم في خلق/ تخليق المتلقي، يلزمها صناعة المعنى القابل في حدود معرفية للاستهلاك والتداول، خاصة أن مرجعيات التلقي يطبعها التفاوت الذي لا تتحكم في آلياته هذه الكتابة. فالروائي إذ يفكر في الكتابة، يستحضر متلقيها بحثا عن تواصل، إلا أنه لا يحدد نوعية قارئه ومتلقيه. وثمة فرق بين الاستحضار والنوعية. فالأول تمثل لصورة قارئ عادي قد لا يرقى لأن يصبح متلقيا، كأن نمثل عن قارئ يقرأ الرواية لماما، أو بشكل متقطع، أو قارئ لا تستهويه سوى الروايات البوليسية..بينما الثاني المحدد في النوعية، هو بالأساس القارئ الفاعل في الرواية والمتفاعل معها. من ثم فالروائي في وضعية الصائغ يفكر بقوة في القراءة والتلقي بعيدا عن دقة التحديد. والواقع أن الدقة موكولة للقارئ أو المتلقي، الذي من خلال عملية إعادة إنتاجه هذه الكتابة، فهما وتأويلا، يكتشفها ويستكشفها. وبذلك فالروائي لا يحدد قارئه ومتلقيه، بينما نجد الأخيرين يقعان على شخص الروائي المتغيا قراءته أو تلقيه والتفاعل مع نتاجه. والأصل أن التفاعل كما سلف ينبني على قاعدة المعنى المنتج. وهو بالطبع المعنى المحال عليه من خلال حدث يتم تأطيره في الزمن والمكان وتفعيله اعتمادا على شخصيات. إلا أن ما يجدر أخذه بعين الاعتبار كون هذا المعنى لا يتم الإفضاء به بالمطلق، وإنما تعمل الكتابة الروائية على صوغه بالتدرج التلقائي، الذي يحتم على القارئ أو المتلقي المتابعة في حال ما اختارت هذه الكتابة أن تكون تقليدية، أو أن يتحقق إدراك قصد المعنى بإعمال التفكير وطرح السؤال ولملمة التفاصيل، وخاصة لما تكون الكتابة الروائية حداثية مغرقة في التجريب. على أن المعنى في الحالتين الأولى والثانية حكاية يتم حكيها، قد تكون عن معاناة بحار غريق وفق ما صاغه غابريال غارسيا ماركيز أو عن الحالة الاجتماعية والنفسية ل«بارتلبي» النساخ كما جسد شخصيته هيرمان ميلفيل، أو عن «بيروت» والحرب، كما فعل صنع الله إبراهيم في «بيروت بيروت»، أو إلياس خوري في أكثر من نص روائي. إلا أن المعنى يطبع بالتحول، مادام يرتبط بزمن سياسي اجتماعي وثقافي. إنه بصورة من الصور ينتج وعيا لحظيا راهنيا في مرحلة ما في الغالب، بعيدا عن إكراهية هذه اللحظة وفرضها لضرورة التعبير. من ثم يتحتم التفكير في المعنى من منطلقين: منطلق المعنى المغلق، والمعنى المفتوح. فالمغلق لحظي في زمنه، وبالتالي مكانه، يطول حدثا يمتلك خصوصية محلية محدودة، كأن يقصد الحديث عن شخصية مجهولة لا تحوز تأثيرا وطنيا سياسيا أو اجتماعيا ثقافيا. ولنوسع دائرة القول بصدد المعنى المغلق، بالإشارة إلى كون تجارب الرواية العربية التي طالت الحقبة الاستعمارية معظمها انتهى إلى الذكر كتجارب بداية تأسست على الإيديولوجي وليس الإنساني. إنها تنتج وعي فئة بقضايا وطنية مذهبية انتهت بنهاية الحقبة. وأما الإنساني فيحتويه المعنى المفتوح الذي يكسب النص ديمومة الأثر في الزمن والمكان، مثلما يوسع قاعدة التلقي. فروايات ك «السراب»، «ثرثرة فوق النيل»، «قصة حب مجوسية»، «اللجنة»، «الزمن الموحش» و»المرأة والوردة» لا يمكن أن يطولها النسيان أو المحو، بل إن في تجارب الراهن مما نأمل العودة إليه الدليل الأبلغ عن كون المعنى المفتوح يمتد بامتداد الحياة الإنسانية. وتحتفي آداب أروربا الشرقية بعالميتها وتجدد ترجماتها لقوة حضور هذا البعد. من ثم يمكن القول بأن الإنساني يشكل ظاهرة ثقافية تفيد ويستفاد منها، وهو ما يجعل تجارب روائية حديثة وحداثية تنحو هذا المنحى كاختيار إبداعي أولا وكمواكبة لمسارات الرواية الغربية. صدوق نورالدين