في بلد لا يتوقف فيه اليمين المتطرف عن الزحف والفوز بالأصوات الانتخابية، وتحرر فيه الخطاب العنصري في وسائل الإعلام، الملاحظ أن هناك موجة من العداء المتزايد تجاه من نسميهم بالأقليات المرئية، بعد أن حل المغاربي والمسلم محل اليهودي ككبش فداء لدى الفرنسيين منذ نهاية الحرب. منذ موجة الإهانات العنصرية التي تعرضت لها وزيرة العدل «كرستيان توبيرا» والشتائم التي صدرت في حق ملكة جمال فرنسا السمراء، أضحت كلمة «العنصرية» على لسان كل فرنسي، لكن لا أحد بالضبط استطاع تحديد معناها ولا أين يكمن السبب وراء إشاعتها. فكيف هي الأشكال المعاصرة للظاهرة التي ولجت القاموس الفرنسي سنة 1932 ؟ وهل تتآكل بلاد «إغساسون» كما لو أنها أصيبت غنغرينة من الفكر الذي لم يتوان عن وصفه السوسيولوجي الأمريكي وليام جوليس ويلسون في أواخر سنة 1990 ب«أيديولوجيا الهيمنة العنصرية». فببضع صور على شاكلة «قردة» (أنثى قرد)، التي رفعت في مظاهرة «مسيرة للجميع»، وصورة الطفل القرد التي زينت صفحة فايسبوكية تعود لمرشحة من الجبهة الوطنية المتطرفة، وأيضا «الموزة» التي تصدرت الصفحة الأولى لغلاف مجلة «مينوت»، في إشارة إلى وزيرة العدل الفرنسية... استطاع اليمين المتطرف الفرنسي إحياء النقاش من جديد حول تاريخ فرنسا الاستعماري، حيث الحديث عن «الزنجي الجيد»( أو موزة جيدة) كما حدث مع وزيرة العدل الفرنسية السمراء ووصفها بأنها زنجية جيدة، أو صور «همج»، الذين كان يتم تنقيلهم في بداية القرن العشرين عبر المعارض الاستعمارية الفرنسية، وكل ما يتعلق بالمتخيل الفرنسي حول الطبيعة الحيوانية للأفارقة، أي أن الإنسان الإفريقي يقع في منطقة وسط بين الإنسان وبين القرد. وهي فكرة رغم شذوذها، إلا أن عالم الطبيعيات «جورج لويس دي بوفون» كان قد أقر بها في القرن الثامن عشر، بل وذهب في كتابه «انحطاط الحيوانات» الصادر عام 1776 ، إلى أن «الفاصل بين القرد وبين الإنسان الزنجي يصعب تحديده». نيوراسيزم الكثيرون في فرنسا من صحافيين، نشطاء مجتمع مدني، كانوا يعتقدون أن ما يسمى بالعنصرية البيولوجية قد اختفى تماما، وهذا ما جعلهم يتلقون الإهانات العنصرية الأخيرة بذهول، بل إن الباحث «تاجييف» ذهب إلى بالقول بأن العنصرية البيولوجية قد اختفت تقريبا، ولم يعد لها وجود. تجدر الإشارة إلى أن فكرة وجود أعراق بشرية مختلفة، وتفوق عرق بشري على الآخر، هي فكرة في طريقها إلى الزوال، اندحارها بدأ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد أظهرت الأبحاث العلمية المختلفة التي تمت بعد نهاية الحرب، أن كل ما يقال عن أفضلية عرق على آخر هي مجرد أوهام لا أساس لها من الصحة، لقد كذبت هذه المقاربة الطبوغرافية، الاعتقاد الذي كان سائدا بشكل كبير في سنوات 1930، القائل بوجود أعراق بشرية مختلفة، وهو اعتقاد أدين وتم إنكاره بعد التحرر الذي ساد المجتمع الدولي. واليوم، الفرنسيون الذين يؤمنون بأن العنصرية البيولوجية أو بحتمية الاختلاف البيولوجي هم قلة قليلة، فاستطلاعات الرأي المعاصرة التي لازالت تطرح سؤال: هل هناك عرق بشري أفضل من آخر ؟ تتلقى أجوبة إيجابية بنعم، لكنها تقل في كل مرة عندما يعاد طرح نفس السؤال. يقول «فينس تبريج»، الباحث في مركز الدراسات الأوربية للعلوم السياسية، إنه منذ خمس سنوات، كانت نسبة 8 في المائة فقط من المستجوبين الفرنسيين يدافعون عن فكرة عدم تساوي الأعراق وأن هناك أعراقا بشرية مختلفة. وهي نسبة تمثل بعض الملايين من الناس، لكنها مع ذلك تبقى نسبة هامشية وهي لا تتوقف عن الانخفاض وتنتشر بالخصوص بين الناس من كبار السن، الذين» تعايشوا» في عالم يختلف عن عالمنا. فاليوم معاداة العنصرية أصبحت هي القاعدة الديمقراطية السائدة، العنصرية لم تختف لحد الآن، لقد تحولت، حسب «بيير أندري تاكييف»، الذي قاد عملية إنشاء قاموس تاريخي ونقدي للعنصرية بعد الحرب العالمية الثانية، تحولت العنصرية الكلاسيكية، أو التي تعرف بالبيولوجية إلى عنصرية جديدة، أي «نيوراسيزم»، هي عنصرية لا تقصي المختلف ولا تعطي الأولوية للجماعات المميزة، ولكنها تؤكد مذهب الهويات الخاصة وتجانسها ونقاءها. ومن هنا تظهر الصور النمطية عن الهجرة بأنها «غزو» و«تلوث». عقيدة الاختلاف تغذي هذه العنصرية الجديدة الآن مفردات و أنماط الحياة الفرنسية، وتصنف القيم المجتمعية الناس من خلال منحهم خطأ أو صوابا تسميات ثقافية معينة تعتبر غير قابلة للتغير، ترتكز بالأساس على أحكام مسبقة، تشكك في كل تقارب أو اختلاط. ويؤكد الباحث ذاته أن اليمين المتطرف في سنوات 1970 و1980 كان مهدا لهذه العقيدة الغيرية، فالجبهة الوطنية مثلا والحشود الوطنية الشعبوية أضافت عليها لمسة من الوطنية الفرنسية، وبعد ذلك أصبحت المشاعر العنصرية تتمركز على أساس رفض كل ما لا يعتبر فرنسيا. بالنسبة للباحث في المعهد الوطني للدراسات الديمغرافية، باتريك سيمون، هذه العنصرية الجديدة تطورت منذ سنة 1980، «فهم المجتمع الفرنسي أن الهجرة ليست بالظاهرة الهامشية، أولاد المهاجرين كانوا في المدارس، والمهاجرون في الأحياء، كانوا في قلب عالمنا الفرنسي، لذلك كان رد فعل بعض الفرنسيين رد أهلاني». الأهلانية هي نهج سياسي يقوم على حماية مصالح أهل البلاد الأصليين وتقديمها على مصالح المهاجرين، أي أن الفرنسيين يطالبون بأولويتهم في البلد باعتبارهم من الأهالي الأصليين. لم يعودوا يتكلموا عن عرق أعلى أو أدنى، لكنهم أعلنوا أنهم المالكين والأهالي الأصليين لفرنسا وهو ما يمنحهم حق الامتيازات، والجبهة الوطنية لخصت هدا الخطاب في القيم الثقافية تحت شعار «فرنسا للفرنسيين». ومنذ النجاح الانتخابي لليمين المتطرف، ازدهرت هده العنصرية الغيرية والثقافية، والآن باسم القيم الجمهورية الفرنسية وليس باسم عدم تساوي أعراق، تدين حركة ماري لوبان الهجرة. فهل نجحت في كسب معركة الرأي؟ لا شيء مؤكد لحد الآن. لكن عكس ما يمكن أن يخالج تفكيرنا، يظهر المجتمع الفرنسي في التحقيقات وفي استطلاعات الرأي وفي الأبحاث على أنه مجتمع منفتح أكثر فأكثر على الآخر. الأبحاث الحديثة تبطل الاعتقاد السائد بأن المجتمع الفرنسي هو مجتمع منغلق على نفسه، «كما أكد الباحثون «فينيس تيبري، نونا ماير، وغاي ميشيلا» في التقرير السنوي الصادر عن الهيئة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان حول العنصرية، معاداة السامية ورهاب الأجانب. استمرار التمييز يجب الإقرار أن معركة التسامح في فرنسا لم تربح لحد الآن، فإذا كان الانفتاح يتقدم في العقول، فهو لم يستقر في الحياة الاجتماعية بعد، فعندما يسند رئيس عمل مهمة ما، وعندما يقرر مسؤول بشأن ترقية مهنة ما، وعندما يوجه أستاذ تلميذا ما، وعندما يؤجر مالك بيت بيته، هناك خوف يظهر بوعي أو بدون وعي باتجاه الأقلية المرئية، ورغم كل شيء يتساوى المهاجرون ويعانون من نفس التمييز برغم تكوينهم التعليمي ، سنهم، مهنهم، وحتى أطفالهم، يتعرضون بسبب أصولهم وليس بسبب شواهدهم إلى خطر البطالة، بنسبة 20 إلى 50 في المائة مقارنة بباقي المواطنين. ففي بحث أجراه باحثان في الاقتصاد من مركز البحت الاقتصادي، توصلا إلى أن أسماء مثل رشيد وسميرة يحظيان بفرص مقابلات عمل أقل من أسماء لاتينية كأليسا أو ساندرين. وتوصل الباحثان إلى أن سوق العمل الفرنسي يعرف تمييزا على الأصول التي ينحدر منها طالب العمل، وبالنسبة لأحمد بوبكير، سوسيولوجي في جامعة جان موني بسانت اتيان، فإن استمرار التمييز بسبب الأصل وامتداده جيلا بعد جيل يشكل قنبلة موقوتة، فالوقت يمر والذين شاركوا في مسيرة سنة 1983 هم في الخمسينات من عمرهم اليوم، لكن رغم ذلك لازال أطفالهم يعاملون بغير مساواة في سوق العمل، في المدرسة أو السكن، وهذه الوضعية تخلق الكثير من الغضب والإحباط في الأحياء التي قطنها المنحدرون من عائلات مهاجرة، فئة كبيرة من المجتمع من أصول أجنبية تجد نفسها بعيدة عن الحق العام في الوقت الذي ولدت وترعرعت في فرنسا. الحلول الجادة فرنسا تكتفي بإدانة العنصرية أخلاقيا فقط، مرارة الإحباط كبيرة من أنه لم يتم اعتماد أي سياسة عامة لاجتثاث الظاهرة منذ بداية 1980. يذكر «باسف» رئيس المجلس التمثيلي لجمعيات السود أن آخر قانون ضد العنصرية يعود تاريخه إلى سنة 1972، فعندما تحارب الدولة عنف الرجال ضد النساء لا تكتفي باستنكار العنف الذي يمارسه الرجل فقط، بل تلتزم بقوانين وإجراءات عامة تضمن ألا يتكرر ذلك العنف، لذلك يجب القيام بمثل ذلك عندما يتعلق الأمر بالعنصرية، أما فيما يتعلق بالعمل أو بالتعليم، فيجب الإقرار بأن الإجراءات التي اتخذتها الدولة لمحاربة التمييز تعطي نتائج جيدة كما تظهر النتائج المسجلة في «البارومتر» ضد العنصرية. صحيح أن المناخ العام في فرنسا تغير بشكل كبير منذ أربع سنوات، لكن التمييز العنصري يبقى مقلقا. فمنذ سنة 2009 لا يتوقف مؤشر الانفتاح على الانخفاض: التسامح تجاه اليهود والسود في ارتفاع، لكن هناك توتر كبير ضد الإسلام داخل المجتمع الفرنسي.، فمؤشر الانفتاح لا ينخفض بشكل ملحوظ إلا تجاه أقليتين فقط، المسلمون والمغاربيون، يقول الباحث «فينست تبيرج»، وهو ما يستخلص منه أن المسلم متبوعا بالمغاربي حل محل اليهودي ككبش فداء لدى الفرنسيين منذ نهاية الحرب. المثير أن «إسلاموفوبيا» تجمع ملامح مختلفة، هي بشكل كبير تقف وراءها شخصيات «سلطوية»، و»إثنية» كما يقول الفيلسوف الألماني «تيدور أدرونو، 1903-1969» في فرنسا أو غيرها، وغالبا ما يترافق النفور من الإسلام مع موقفه المدين للشذوذ الجنسي. لكن منذ سنوات بدأت «الإسلاموفوبيا» تتزايد أيضا عند النساء، خاصة حاملي الشواهد، صحيح أن الأرقام المسجلة ضعيفة، لكنها تظهر بشكل واضح نفورا من الإسلام وتعاليمه وهو ما لا يجب خلطه بالعنصرية العادية. جدل فكري كيف يمكن تفسير اتقاد شرارة «الإسلاموفيا» في الفترة الأخيرة ؟ هل لذلك علاقة بسلوكيات دينية «عدوانية» من طرف المسلمين الفرنسيين، أم أن الأمر يتعلق بعدم تسامح هو في عمقه شكل جديد من العنصرية؟ هل الأمر يتعلق برد فعل طبيعي لمجتمع يرى أنه مهدد بالطائفية الإسلامية ؟ أو أنها عودة جديدة إلى «عربوفوبيا» التي سادت لوقت طويل في أوساط المجتمع الفرنسي؟ الموضوع معقد إلى درجة أنه ولد جدل فكري وعشرات الكتب حول الموضوع. هذا ويربط الباحث «بيير أندري تاكييف» اندلاع التعصب ضد المسلمين بالدينامية العالمية للإسلام السياسي، ذلك أن العنصرية السابقة ضد المهاجرين المغاربيين تحولت إلى «رهاب» غير مبرر من «الأسلمة». لقد ألصق بالإسلام وجه «المحتل» الذي يخيف الفرنسيين، منذ بداية سنوات 1990، وترسخ ذلك بعد هجمات 11 من شتنبر في أمريكا. وإذا كان الكثير منهم يبالغ في ذلك، فلأن التعصب العالمي كان له صدى في بلاد «إغساسون» وأدى إلى تجزئة مجتمعية مقلقة. الكثير من المثقفين يختلفون مع هذه القراءة، يفترضون أن مطالب الإسلام في فرنسا ليست بالشكل الذي يتم تقديمه والحديث عنه، «ليس هناك تواصل بين المسلمين الفرنسيين والأفغان»، يشير «باتريك سيمون» من المعهد الوطني للدراسات الأوربية، المسلمون الفرنسيون لا يفرضون دينهم على الآخرين، ويطالبون فقط بتطوير الممارسات الاجتماعية، توفير وجبات للأطفال الذين لا يأكلون لحم الخنزير، أو بناء مسجد كي يتمكن المسلمون من تأدية الصلاة في أماكن لائقة. الأسود يبعث على الضحك و العربي يخيف يساء أحيانا استعمال «طائفية» للحديث عن المسلمين الفرنسيين من طرف الكثير من الباحثين، قد يصح استخدام الكلمة في حال كان المسلمون يتمتعون بالسلطة ويتواجدون في هرمها، لكنها في غير محلها، والحال أنهم أقلية صغيرة وحتى القيادات الإسلامية الموجدة توجد على الهامش، يقول أحمد بوبكير، «فالمسلمون لا يتجاوز عددهم 4.5 ملايين مسلم، ثلث هذا العدد فقط من يداوم على الذهاب إلى المسجد». الإسلاموفوبيا هي نتاج الخوف القديم الناتج عن التاريخ الاستعماري والخوف المعاصر من الإسلام الراديكالي الذي يتطور في الخارج، أكثر من أنها «خوف مشروع» من حركة طائفية إسلامية، لذلك يعتبر الكثير من الباحثين الإسلاموفوبيا الشكل المعاصر ل«عربوفوبيا» التي سادت فرنسا في القديم. يقول «جورج لويس تان» عن المجلس التمثيلي لجمعيات السود بفرنسا :»الأسود يضحك، والعربي يخيف»، مضيفا أن «نزعة مقاومة الاختلاط مع المغاربي تعود تاريخيا إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، لها علاقة بأسباب تاريخية مرتبطة بالسيطرة الاستعمارية في القديم، هناك نظرة تحقيرية تجاه المنحدرين من شمال إفريقيا، وهي النظرة التي تقوت مع الحرب في الجزائر ولازالت حاضرة إلى اليوم». فحتى قبل الأحداث وموجة الهجرة التي ميزت سنة 1960، فقد أظهر استطلاع للرأي أن الفرنسيين يتعاطفون مع الألمان، رغم أنهم انتهوا لتوهم من الحرب معهم، أكثر من تعاطفهم مع الأفارقة الشماليين، حيت احتل المنحدرون من شمال إفريقيا الرتبة ما قبل الأخيرة في سلم تعاطف الفرنسيين مع الجنسيات الأخرى. كيف يفتخر الفرنسيون بالعنصرية منذ رحيل الزعيم الجنوب إفريقي «نلسنون مانديلا» بحر الأسبوع الماضي، تعيش ثانوية «ماكس ليندر» ب»بورن» على وقع نضاله المناهض للعنصرية، ف 1800 تلميذ بالثانوية يدخلون ويغادرون أقسام الدرس على أنغام المقطع الشهير لمجموعة «سبيشل اكا» سنة 1984 «حرروا مانديلا»، كما أن إدارة الثانوية تخصص يوما بكامله مكرسا لغرس ثقافة حقوق الإنسان. ورغم مرور أكثر من ثلاثين سنة على مسيرة المساواة ومناهضة العنصرية، تأتي شتائم العنصرية ضد وزيرة العدل الفرنسية، وموجة العنصرية التي وجهت لملكة جمال فرنسا السمراء لتؤكد بأنه لازال هناك الكثير ليناقش بخصوص القضاء على العنصرية في فرنسا. «يجب أن نذكر الشباب أن العنصرية هي في المقام الأول جريمة، في الوقت الذي يحاول البعض تهوين الأمر»، تشير ساندرين ملي، كبيرة مستشاري التعليم بالثانوية ورئيس لجنة جيروند آكيتين ل«سوس راسيزم». عدد من الجمعيات أتت في 12 من الشهر لتحسيس التلاميذ بالثانوية بخطورة العنصرية وتفشيها، في الوقت الذي أصبحت فيه تعبئة الفرنسيين للتحرك ضد الظاهرة أمرا صعبا، مقابل ارتفاع صوت المتعصبين. الحدود سقطت لا تخفي إحدى المناضلات في المنظمة المناهضة للعنصرية التي أسسها «هارليم ديزير وجوليان دراي» خيبة أملها أمام ظاهرة تكبر وتتقوى أمامها: تم تحرير الخطاب العنصري: الحدود هدمت، هناك من لم يعد يخجل من القول إنهم عنصري، وهو ما لم يكن عليه الحال قبل خمس سنوات، حتى في أوساط... هناك المتضررون من التمييز ومن العنصرية، القضاء لا يمكن أن ينصفهم، ولا يتردد الناشطون ضد تفشي العنصرية في المجتمع الفرنسي من رواية تجاربهم الشخصية. تروي «الهام بنسدورة» كيف أنها ذات يوم كانت توزع منشورات مناهضة للعنصرية، فإذا بامرأة تخاطبها بالقول: أنا عنصرية ولن أستلم منشورك، ادفع الضرائب كي يستفيد الأجانب». مشهد آخر، تنقله ناشطة بالتنظيم ذاته، اسمها «راما ديوب» وتبلغ من العمر 19 سنة، تقول إن تلميذا لم يتردد ليخبرها «أنا عنصري وأفتخر بذلك»، وتضيف «إنها أول مرة أسمع مثل هذا الأمر، الأجيال الجديدة من ضحايا العنصرية لم تتلق التوعية اللازمة كما حدث مع الأجيال السابقة بقيمة وأهمية النضال لكن بشرط أن يكون مؤثرا». عن «لوموند» بتصرف «باسكال بلانشار*»: نحن ورثة خطاب استعماري عنصري - هل تقول إن فرنسا بلد عنصري ؟ فرنسا لم تشهد على الأقل عنصرية قاسية، أي عنصرية تجاه لون البشرة، كما ساد في اليونان وإيطاليا، ومنذ أكثر من عشرين سنة، يقدم مشجعو الكرة الإيطاليون على القيام بمحاكاة القردة كلما أمسك لاعب أسود الكرة. و»كيدينج سيسيل» التي كانت أول امرأة سوداء تشغل منصب وزيرة في الحكومة الإيطالية، شغلت منصب وزيرة الإدماج، تعرضت بصفة دائمة للشتم. في فرنسا، كريستيان توبيرا طبعا تعرضت للتجريح، لكن السياق مختلف، ففرنسا لها تاريخ طويل مع العرب الشرقيين، كاربيين، والأفارقة، سواء على أرض فرنسا أو في بلدانهم. ثلاثة عشرة عقدا من الحضور العربي الشرقي، ثلاثة عقود من الحضور المتحدر من منطقة البحر الكاريبي. المشكل، أن هذه العلاقات عبرها الاستعمار والأوهام التي خلقت بسبب ذلك، نحن، على الرغم منا، ورثة العنصرية البيولوجية للقرن التاسع عشر والخطاب الاستعماري للجمهورية الثالثة. أغلب أسلافنا شاهدوا أوائل الزنوج، الهنود، والشرقيين في حدائق الإنسان (على شاكلة حدائق الحيوان)، حيث كان يحتشد الزوار حتى أواخر 1930، لمشاهدة «همج» في أقفاص حقيقة أو افتراضية، من مستعمرات كانت تمثل بالنسبة لهم قمة الطبيعة الحيوانية. - كيف يمكن لهذا التاريخ الاستعماري أن يعقد علاقتنا بالهجرة ؟ للمفارقة، هذا التاريخ المشترك بدأ فترة طويلة قبل المستعمرات، وعندما بنيت فرنسا قصر المستعمرات بباريس سنة 1931، أراد المرشال ليوطي أن يحفر على الباب الذهبي أسماء المستعمرين الفرنسيين، لم يبدأ ب»جاك كارتييه» (بحار ومستكشف فرنسي أرست اكتشافاته أساس مطالب فرنسا بملكية الأراضي التي تعرف اليوم بكندا ) قائد أول بعثة أوروبية شمالاً على نهر سانت لورنس، بل «غودفري دي بويون» الذي قاد الحروب الصليبية في أواخر القرن الحادي عشر كملك للقدس. التاريخ الاستعماري لفرنسا يتعلق بجزء كبير من دول العالم، لقد مس الاستعمار الفرنسي من بعيد أو من قريب ثلث 193 دولة بهيئة الأمم المتحدة، مما يجعل من فرنسا ثاني قوة استعمارية في العالم بعد الإمبراطورية البريطانية. المشكلة هي أن الغيرية والاستعمار هي مفاهيم متناقضة تماما، فعندما احتلت فرنسا العالم، أنكرت على كل المجتمعات المحلية التي احتلتها، مع استثناء عدد قليل، حق المواطنة، كان لهذه المجتمعات الحق في أن يموتوا من أجل فرنسا، لكن ليس لهم مثلا الحق في التصويت. هذا لا يعود لقرون طويلة، فقط أكثر بقليل من خمسين سنة من هذا التاريخ تعودنا على احتقارهم ووضعهم على أقصى الهامش، كما لو أن هناك شك تاريخ دائم حول «فرنسيتهم» المحتملة، لذلك ليس من السهل أن نقول لورثة هؤلاء الذين حرمناهم من حقوقهم المدنية (من سنة 1830 للجزائر، 1627 بالنسبة للسينغال، 1862 للكوشين، ومن سنة 1635 بالنسبة ل «غوديلوب») إن عليهم اليوم أن يندمجوا ويصبحوا مثلنا، الوضع معقد بالضرورة وقابل للانفجار. - ما العمل ؟ العيش المشترك بدأ، المجتمع الفرنسي مجتمع منفتح ومعتاد على الآخر، في سنوات 1930، في بلاد «الإغساغون» كان هناك 100 ألف إلى 130 ألف مغاربي يشتغلون أو في الثكنات، 40 ألفا المنحدرون من منطقة البحر الكاريبي، عمال موانئ، جنود أو عمال، 20 ألفا من الهند الصينية، والآلاف من الصينيين والأرمن. يعي المجتمع الفرنسي بالمساواة في الطريق، في الشارع، في المدارس، في العائلات، في العمل، نعيش مجتمعين، ولأول مرة في تاريخنا، وبالمساواة في الحقوق، كل شخص يعرف أنه يمكن أن يكون لديه ابن مغاربي، جار فيتنامي، أو رئيس في العمل أسود، رغم أن الحالة الأخيرة تظل نادرة. هناك الكثير من العمل الذي يجب أن يتم على مستوى العقليات، يجب أن نتخلى عن نظرتنا الاستعمارية، وهضم تاريخنا الاستعماري والعبودية التي مارسناها. أمر صعب، فهم لم يجدوا مكانا في فرنسا حيث يمكن أن يتحدثوا عن الأمر، لا وجود لأي متحف في البلد يسمح بفهمهم ومناقشتهم، نريد أن نطوي الصفحة بسرعة. قي سنوات 1950 و1960، مع فقدان الهند الصينية، دعاة الاستقلال الأفارقة، والحرب في الجزائر، رمينا ذاكرتنا في النهر، وهي الذاكرة ذاتها التي أعادها لنا التيار اليوم، نحن ملايين تكون مرتبطة مع هذا الماضي، نفهم شيئا فشيئا أن العنصرية هي ذيل المذنب الأخير من تاريخنا الاستعماري. * مؤرخ وباحث فرنسي