ليطمئن القائلون بعجز اللغة العربية وضعفها، فهي مازالت تتمتع بحيويتها، بل إن طاقتها الإبداعية الهائلة لم يستنفذ منها إلا النزر القليل. فبالإضافة إلى الطاقات الاشتقاقية الواسعة لهذه اللغة هناك مستويات إبداعية أخرى ينبغي لواضع المصطلح أن يتوخى فيها التدرج ضرورة وإلا سقط في شراك الترجمة المرتجلة والتعريب المضطرب. أولا ينبغي أن نطرق باب الاشتقاق، وإذا تعذر ذلك لجأنا إلى النحت ثم إلى المجاز ثم إلى التعريب في نهاية المطاف. وفي شأن الاشتقاق يقول ابن فارس « أجمع أهل اللغة إلا من شذ منهم أن اللغة العربية قياسا، وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض، واسم الجن مشتق من الإجتنان. أما عن طاقة اللغة العربية وباعها الطويل في إبداع المجازات فلا يسع المرء المحقق إلا أن يعترف بعجزه عن جرد كل ما أجرته العرب من كلام وضع في غير موضعه مجرى الحقيقة بسلك سبل الاستعارة والمجاز، الشيء الذي حذا بعالم مثل ابن جني في كتابه الخصائص إلى الإقرار، بعد طول نظر ، بأن «أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة « ولما استقرت الألفاظ المجازية في الاستعمال باتت منزلة الحقيقة حتى أن الناظر يخالها مجازا محدثا إذا ما استعملت بمعناها الأصلي (الحقيقة): « فالحقيقة متى قل استعمالها صارت مجازا عرفا، والمجاز متى كثر استعماله صار حقيقة عرفا «. فأنت إذا قلت اليوم مثلا «صام فلان عن الكلام « ظن السامع (أو القارئ) أنك ضمنت فعل «صام» مجازا معنى «سكت» أو «امتنع»، والحال أن ذلك حقيقة وأصلا في معناه كما جاء ذلك في قول مريم عليها السلام في القرآن الكريم « إني ندرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا» [سورة مريم الآية 25]. وهذا إنما يدل على أن عبقرية لغة الضاد وحيويتها مازالت لم تفتر. فالذي أبدع مجازا ألفاظا عديدة للدلالة على اختراعات مستحدثة في عصرنا، مثل الذرة والسيارة وهي مأخوذة من القرآن، لن تعوزه الحيلة لبناء جهاز مفهومي واصطلاحي قادر على مسايرة ما يجد كل يوم من مصطلحات علمية وفنية. إن الحديث عن بناء نسق مصطلحي علمي متخصص داخل حقل لغتنا وثقافتنا العربية لابد وأن يجرنا للحديث عن مسألة التعريب من جديد وعن بعض المقاربات التي تم من خلالها تناول الموضوع . وعموما يمكن إجمال هذه المقاربات في موقفين اثنين: الأول يقول باستعمال الترجمة بوصفها وسيلة من وسائل التمهيد لأعداد جهاز اصطلاحي علمي، بمعنى اعتماد اللغة الأجنبية (الفرنسية في حالتنا) مرجعا دائما لنسخ المصطلحات المستحدثة في مجالات العلوم والتقنيات، أما الثاني فإنه ينحو نحو التأسيس لمعجم مصطلحي أحادي اللغة ينضبط بضوابطه الذاتية، إذ تكون «هناك حركة تجديد دائمة تنبذ اللفظ المعهود والمعنى المتداول لتبدع اللفظ الجديد أو تولد معاني اللفظ المعهود، حركة تحطم الذاكرة اللغوية لتجدد التعبير، وتحطم الذاكرة الثقافية (في اللغة) لتجدد الثقافة. إن الفرق بين الرأيين ليس فرقا في الاختيارات وحسب كما قد يبدو للبعض، وإنما هو فرق في التصور والمنهجية اللذين يصدر عنهما كل من الموقفين. فإذا كان مثلا الأخضر غزال يرى أنه «ليس هناك عمل علمي في التعريب المواكب بدون ازدواجية، لأن اللغة الأجنبية من شأنها أن تعيننا من جوانب عديدة وأن تضمن لنا التفتح الضروري على عالم التقدم والرقي في انتظار أن تتقوى أجنحة لغتنا ...» فإن موقف اللساني عبد القادر الفاسي الفهري يقر صراحة بلا جدوى الحفاظ على الازدواجية اللغوية، لأن فيها حسب رأيه شيء من الإشادة بلغة المستعمر الذي قد يكون أتاح لنا فرصة الإحساس بضعف لغتنا وبعيوبها، وكذا الإحساس بضرورة إصلاح شأنها. وعليه فإن الطرح الذي يتبناه ذ. الأخضر غزال يقر تلقائيا بالازدواجية اللغوية، بل إنه يرحب بها على اعتبارها صاحبة فضل علينا. فأين التعريب في كل هذا إذن؟ كما يقول الأستاذ الفاسي الفهري. إن رفض الأخد بمبدأ الازدواجية اللغوية في التعامل مع المصطلح، ومن ثمة رفض تبني المعاجم المزدوجة (الترجمة) ينبع أساسا من كون التعامل مع الألفاظ الإصطلاحية لا يعود إلى ضرورة المرور عبر جهاز تعبيري آخر لنقل المعاني والمعلومات العلمية والتقنية الجديدة. وإذا كنا لا نجادل في كون الاكتفاء بتقنية نقل المصطلحات من لغة أجنبية إلى لغتنا قد يوفر لنا بعض الوقت في الظرف الراهن فإنه لابد لنا كذلك أن نستحضر المزالق العديدة التي قد يتسبب فيها الارتباط بلغة أجنبية بعينها (الفرنسية مثلا): « فكون حضارة [ قد] أفرزت اكتشافات مادية أو منتجات تقنية جديدة لا يعني ضرورة أنها تتحكم في الألفاظ التي يمكن أن توضع لوسم المولودات الجديدة «. وإلا لبات بوسعنا الحديث عن لغة متحضرة وعلمية وأخرى « متخلفة « وغير علمية ! ولنأخذ للتمثيل على ذلك اختراعا مثل الحاسوب. فاللغة الإنجليزية وضعت له اسم computer مركزة على واحدة من خصائصه وهي خاصية الحساب، في حين أسمته الفرنسية ordinateur، إذ ركزت على خاصية أخرى هي خاصية التنظيم، أما العربية فقد ظلت مترددة في وضع مصطلح موحد لوسم المولود التقني الحديث في جميع الأقطار العربية، إذ هناك من يستعمل لفظ الحاسو، وهناك من يسميه العقل الإلكتروني وهناك أيضا من يقول النظامة ...إلخ . والسبب في هذا الاضطراب يعود أساسا إلى تبني التعامل مع اللغات الأجنبية بدل التعامل مباشرة مع الاكتشاف العلمي أو التقني باعتماد وجه من وجوه المرجع (le référent ) أو الماصدق بلغة المناطقة والتركيز على خاصية من خصائصه المتعددة لتسميته إنطلاقا منها. والنتيجة أننا نجد أنفسنا أمام عدة معاجم اصطلاحية، فالسوري له معجمه والمصري له معجمه والعراقي له معجمه والمغربي له معجمه الخاص به، وكل ذلك في شبه غياب تام للتنسيق والتوحيد فيما بين مجامعنا اللغوية صاحبة الشأن في هذه المسألة الجوهرية بالنسبة لتقدمنا وتقدم أنظمتنا التعليمية. بنداود المرزاقي باحث تربوي