انقضت، في السابع من نونبر، سنة كاملة على إعادة انتخاب باراك أوباما، الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية؛ ليس دون سلسلة متزايدة من المآزق، السياسية والاقتصادية الاجتماعية والعسكرية، على صعيد الداخل الأمريكي والخارج الدولي وما يمتزج بين الصعيدين من ملفات متقاطعة. وليس دون اقتران، وثيق ومضطرد، بين هبوط شعبية أوباما الشخصية في ناظر المواطن الأمريكي، وانحطاط صورة أمريكا -من حيث السطوة الكونية وموقع القوّة الأعظم، وكذلك مصداقية السياسات والاستراتيجيات- في ناظر المواطن العالمي إجمالا، وحلفاء الولايات المتحدة بصفة خاصة. فعلى الصعيد الداخلي، ثمة مشكلات الصدام الدائم بين البيت الأبيض والكونغرس الجمهوري، حول إقرار الميزانية (الأمر الذي تسبب في إغلاق الحكومة)، وقانون التأمين الصحي المعروف باسم «أوباماكير» (والحلّ الوحيد المطروح الآن هو تأخير تطبيقه الفيدرالي الفعلي، طيلة سنة كاملة)، وذلك رغم تحسّن سوق العمل، والانتعاش النسبي الذي شهده الاقتصاد الأمريكي مؤخرا. أمّا على الصعيد الخارجي، فإن ملف التجسس على الحلفاء -أمثال فرنسا وألمانيا أساسا، ثمّ البرازيل ودول أخرى أيضا- فقد كان الكاشف الدراماتيكي الأحدث حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه أجهزة الاستخبارات الأمريكية في إغفال «حرمة» الحليف وانتهاك مبدإ التحالف ذاته. ولم يكن الكشف فاضحا من حيث إجراءات التجسس ذاتها، فحسب؛ بل كان فاقعا، ومهينا على نحو ما، لجهة مقدار الاكتراث الضئيل الذي أبداه أوباما في الاعتذار من حلفائه. غير أن الملف السوري تحديدا، ولاعتبارات تتجاوز بكثير أمنيات السوريين وآمالهم وآلامهم، ظلّ يمثل أحد أكبر المآزق التي انطوت عليها سنة أوباما الأولى، في ولايته الثانية؛ كما أنه -ويا للمفارقة، حمّالة الأوجه والاحتمالات!- يظل الملف الذي يعكس تلك الصفة التي أُلصقت بشخصيته، وتُعدّ نادرة تماما لدى الغالبية الساحقة من رؤساء أمريكا: أنه يسعى إلى أن تضع الحروب أوزارها، لا أن تزداد اشتعالا، أو ينشب المزيد منها. لقد انتُخب أوباما، في ولايته الأولى أسوة بالثانية، لكي يغلق حربَيْ أمريكا في أفغانستان والعراق، لا لكي يدشّن حربا ثالثة في سورية؛ يقول قائل، محقا تماما من حيث الشكل. ولكن هل يصحّ المحتوى، حقا، كما لاح الشكل صحيحا، في أن أوباما عازف عن الحروب، كافة، وأنه قاب قوسين أو أدنى من شخصية الرئيس الأمريكي المسالم، الذي يستحقّ بالفعل جائزة نوبل للسلام؟ فهل سياسة الاغتيال بالطائرات بدون طيار، أو قيام الوحدات الخاصة الأمريكية بتنفيذ عمليات عسكرية خارجية، وانتهاك استقلال الأمم وسيادة الدول، ليست وجهة أخرى لاستئناف الحروب؟ يسأل سائل، محقا تماما هنا أيضا، من حيث الشكل والمحتوى في الواقع. ولماذا، والحال هذه، لا يرسم أوباما من الخطوط الحمراء، في الملف السوري تحديدا، إلا ذاك الذي يتعلق بحظر استخدام الأسلحة الكيميائية (وبالتالي غضّ النظر عن لجوء نظام بشار الأسد إلى كل، وأي، سلاح فتاك آخر، بما في ذلك القصف الجوي والصاروخي، والبراميل المتفجرة)؟ ولماذا التلويح بضربة عسكرية «صغيرة على نحو لا يُصدّق»، إذا كانت هذه لا تخدم أية استراتيجية أمريكية عريضة لإنقاذ السوريين من نظام دكتاتوري همجي متوحش، بل لعلها تمدّ في عمره وتمنحه مبررات جديدة لاستئناف بطش أشدّ؟ ليس من الإجحاف القول إن جوهر «سياسة» أوباما تجاه الملف السوري انبثق من زلّة لسان حقيقية (هي خروج الرئيس الأمريكي عن رؤوس الأقلام التي أعدّها مساعدوه له، ذات مؤتمر صحافي، وحديثه عن خطّ الأسلحة الكيميائية الأحمر)؛ وزلّة لسان مفتعلة (هي تصريح وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، بأن الإدارة قد تلغي الضربة العسكرية إذا سلّم النظام السوري ترسانته من الأسلحة الكيميائية). وما بين زلّة وأخرى، كان الجوهر يقتصر على تأجيل أيّ جهد أمريكي يساعد على إسقاط النظام، أو إبطاء الحسم فيه ما أمكن، ريثما تتضح الصورة أكثر (خلال الأشهر الأولى لانطلاقة الانتفاضة)؛ وحتى تفعل عوامل تفكك النظام فعلها تلقائيا، حسب مبدإ «الهبوط السلس» (خلال الأشهر الوسيطة)؛ مما يتكفل بتسعير ثلاث حروب استنزاف، متزامنة ومترابطة، على الأرض السورية أو تحت مفاعيل الملفّ السوري (خلال الأشهر الأخيرة، وحتى أجل غير منظور). الحرب الأولى ضدّ إيران، التي لم تعد حليفة النظام السوري اقتصاديا وعسكريا فقط، بعد أن تجاوز النفوذ الإيراني في سورية صفته الإقليمية، ولم يعد يقتصر على تأمين خطوط إمداد «حزب الله»، أو تحويل ما يُسمّى «محور الممانعة» إلى حلف جغرافي عسكري ذي بأس وسطوة، أو توطيد موقع إيران كقوّة عظمى إقليمية في ذاتها؛ بل صارت سورية شأنا داخليا، إيرانيا إيرانيا، يشتمل على جوانب دينية عقائدية (نشر التشيّع، أو بسط السيطرة على الطائفة العلوية في أقلّ تقدير)، وأخرى قومية وتاريخية (فارسية إمبراطورية، لا تغيب عنها المطامع القديمة في الخليج العربي). وليس خافيا أن تورط إيران في الشأن السوري لا يضعفها عسكريا واقتصاديا فقط، بل يرهقها سياسيا على مستويات إقليمية أيضا، ويربك استقرارها تنمويا، ويعرقل برامجها التسليحية ولاسيما النووي منها، وبالتالي يضعفها أكثر ممّا تفعل العقوبات الاقتصادية الراهنة. وما تخسره إيران على الأرض السورية، تكسبه أمريكا في الحساب البسيط، دون عناء يُذكر. حرب الاستنزاف الثانية، على الأرض السورية، تجري ضدّ «حزب الله» اللبناني؛ الذي ماطلت قياداته طويلا، منذ انطلاقة الانتفاضة السورية في مارس 2011، قبل أن تضطرّ إلى إعلان انخراطها المباشر، عسكريا هذه المرّة، بعد الاصطفاف السياسي، في حرب النظام السوري من أجل البقاء، ضدّ سورية الشعب والبلد والبشر والتاريخ. هذا الانخراط كبّد الحزب خسائر جسيمة، سورية ولبنانية وعربية: فإلى جانب مَن سيسقط من مقاتليه على أرض لا تُجيز فضيلة «الواجب الجهادي» ولا تُكسب القتيل صفة «الشهيد»، ثمة تلك الأضرار الشديدة التي لحقت بصورة الحزب ك»فصيل مقاومة» ضدّ إسرائيل، مَسَخَ ذاته إلى مقاوم ضدّ الشعب السوري؛ وتلك مشاعر لم تقتصر على جموع السنّة العرب والمسلمين الذين ساندوا الحزب طيلة عقود، بل شملت أيضا قطاعات من الشيعة أنفسهم. هنا أيضا، وعلى غرار التورّط الإيراني في سورية، فإنّ خسائر «حزب الله» هي مكاسب أمريكية، يسيرة وتلقائية! حرب استنزاف ثالثة تجري ضدّ روسيا، ويراقب البيت الأبيض اشتعالها على مبعدة، وعن كثب، ضمن لعبة شطرنج خبيثة يبدو الظفر فيها منعقدا للروس؛ للوهلة الأولى فقط، في الواقع، لأن تورط موسكو في الملفّ السوري لا يمنح الكرملين إلا زخرف حفظ ماء الوجه، على المدى المنظور، ويُفقدها الكثير من المغانم المادية، بالمعنى المالي والاستثماري والتجاري للكلمة، على الأمدية البعيدة؛ ففي مقابل ما خسرته، أو سوف تخسره، في علاقاتها بالعالم العربي، شعوبا وأنظمة ومؤسسات اقتصادية، ما الذي كسبته موسكو من 30 شهرا شهدت مساندة عمياء لنظام الأسد، وما الذي ستكسبه من أي أشهر أخرى تبقت في عمر هذا النظام؟ وإذا صحّ أن واشنطن كانت تعتمد مبدأ «الهبوط السلس»، فتراقب اهتراء النظام السوري عن بُعد، من الصف المتفرج، فإن الشطر الآخر من الموقف الأمريكي اتخذ وجهة توريط موسكو حتى أقصى مدى ممكن في الرمال المتحركة التي انقلبت إليها ساحات سورية السياسية والعسكرية. خسارة موسكو، في هذه أيضا، هي ربح يُضاف إلى رصيد واشنطن، دون جهد اقتصادي أو عسكري، ودون مشقة جيو سياسية! حرب الاستنزاف الرابعة، والأولى من حيث المغزى والعمق، بهذا المعنى، هي تلك التي تنخرط فيها الولايات المتحدة ضدّ الشعب السوري ذاته، وأوّلا؛ قبل شنّ حروب الاستنزاف المقنّعة ضدّ الأطراف الثلاثة المشار إليها أعلاه، ثانيا. ليس دون فارقَين نوعيين: أن أكلاف الحروب الثلاث تظلّ بخسة زهيدة في عرف واشنطن، في حين أن أكلاف الحرب الأخيرة باهظة غالية، يسدّدها السوريون بدماء مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعتقلين والمفقودين، وملايين المشرّدين في أربع رياح الأرض؛ وأنّ أوباما يخوض هذه الحروب دفاعا عن مصالح إسرائيل، قبل مصالح أمريكا ذاتها، في حقيقة الأمر. وللمرء أن يدع جانبا تلك التخرّصات المعتادة، التي لا تفارق لسان أيّ رئيس أمريكي، أينما وكلما تشدّق بالحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وتقديم العون للشعوب في نضالاتها ضدّ أنظمة الاستبداد والفساد. لكنّ السنة الأولى من ولاية أوباما الثانية أثبتت أن هذا «المحارب الكاره للحرب»، كما يُقال في وصفه عادة، ليس أقلّ مهارة من أقرانه رؤساء أمريكا السابقين، في إدارة اللعبة العتيقة إياها، التي سبق أن أعلنها على الملأ في خطاب أمام «مجلس شيكاغو للشؤون العالمية»، في أبريل 2007. «هنالك خمسة طرق لكي تعود أمريكا إلى قيادة العالم، حين أكون أنا الرئيس»، قال أوباما؛ بينها الطريقة الثانية التي تعنينا في هذا المقام: «بناء أوّل نظام عسكري حقّ في القرن الحادي والعشرين، وإظهار الحكمة في كيفية نشره»، حيث «سيبقى في وضعية الهجوم، من جيبوتي إلى قندهار»، وحيث «لا ينبغي لأيّ رئيس أن يتردد في استخدام القوّة -حتى من جانب واحد، إذا اقتضت الضرورة- لحماية أنفسنا والدفاع عن مصالحنا الحيوية». وخلال أطوار الشدّ والجذب التي اكتنفت مناخات تلك الضربة العسكرية، «الصغيرة على نحو لا يُصدّق»، والتي لم تقع في نهاية المطاف، كان أوباما أشبه بمَنْ يراوح بين شخصية لاعب الشطرنج المتمرس البارع، وبين متقافز حول الرقعة فارّ من عقابيلها. والتاريخ سوف يكشف، إنْ عاجلا أو آجلا، ما إذا كانت شخصية الرجل تقتضي هذا الأداء تحديدا، حيث المزج بين المحارب الكاره والمحارب الراغب هو السيّد! صبحي حديدي