الشارع الإسرائيلي بات أكثر تعطشاً للمزيد من القتل والدماء، بدليل مساندة الأغلبية الساحقة فيه لحرب غزة كشفت النتائج الأولية للانتخابات الإسرائيلية عن تقدم حزب كاديما بزعامة تسيبي ليفني بشكل طفيف على غريمه حزب الليكود، مما يرجّح احتمال تشكيل حكومة وحدة وطنية، لأن أيّاً من الحزبين الرئيسيين سيجد صعوبة بالغة في إيجاد الائتلاف اللازم لتشكيل حكومة بقيادته وحده تحصل على ثقة الكنيست. حال الشلل الذي كشفت عنه هذه النتائج يعكس المأزق الكبير الذي تعيشه الدولة العبرية في الوقت الراهن، وعدم قدرة نخبها السياسية على إخراجها من هذا المأزق سلماً أو حرباً. البرامج الانتخابية للأحزاب التي خاضت هذه الانتخابات كانت متشابهة، إن لم تكن متطابقة، في عدم تقديم أي تنازلات للعرب في القضايا الرئيسية. ولهذا كانت المنافسة بين من هو يميني ومن هو أكثر يمينية، ولهذا سنجد أنفسنا أمام تغييرات هامشية في قضايا ثانوية لا أكثر ولا أقل. لم يكن هناك معسكر للصقور وآخر للحمائم، أو بين اليسار واليمين، مثلما كان عليه الحال في معظم الانتخابات السابقة، وإنما بين جناحي حزب الليكود، أحدهما انشق تحت اسم «كاديما» والثاني احتفظ بالاسم التاريخي والبرامج الأكثر تشدداً. إن أي حكومة إسرائيلية ستأتي نتيجة لهذه الانتخابات ستكون ضعيفة على صعيد تحقيق خطوات ايجابية على طريق السلام، لكنها قوية على صعيد شن الحروب الجديدة في الجنوب (قطاع غزة) أو الشمال (جنوب لبنان) أو حتى قصف البرامج النووية والبنى التحتية الإسرائيلية، فسيطرة اليمين المتطرف على الكنيست، والحكومة في آن، ستشجع عرقلة عملية السلام ومنع التنازلات، ومساندة أي توجهات نحو الحروب. تقتضي الحكمة انتظار النتائج النهائية قبل الكتابة عن الانتخابات الإسرائيلية العامة التي جرت أمس، حتى يأتي التحليل أكثر دقة وموضوعية، ولكن تشابه البرامج الحزبية، وانحصار التنافس بين من هو يميني ومن هو أكثر يمينية، يجعلنا نجزم بأننا أمام تمديد للسياسات الراهنة مع حدوث بعض التغييرات الطفيفة في قضايا هامشية لا أكثر ولا أقل. فالانتخابات كانت حلبة منافسة لجناحي تكتل الليكود اليميني المتطرف، وليس بين اليمين واليسار، أو معسكر الصقور والحمائم مثلما كان عليه الحال في معظم الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية السابقة. فحزب كاديما الذي تتزعمه السيدة تسيبي ليفني وزيرة الخارجية ولد من رحم اليمين المتطرف، ويحمل أفكاره نفسها، والخلاف ليس بين برامج، وإنما بين شخصيات متنافسة على الزعامة، لأن هذه البرامج متطابقة في عدائها للعرب، وإصرارها على عدم تقديم أي تنازلات في القضايا الجوهرية مثل القدسالمحتلة والاستيطان واللاجئين. وربما لا نبالغ إذا قلنا إن فوز الليكود بطبعته الأصلية بقيادة بنيامين نتنياهو هو أفضل لنا كعرب، وللعالم بأسره، من فوز «الصورة»، أو الطبعة «المزورة» المتمثلة في حزب «كاديما» الذي يتمنى الكثير من العرب، والسلطة الفلسطينية في رام الله خاصة، فوزه وتشكيله الحكومة الإسرائيلية المقبلة، لأن فوز كاديما يعني استمرار تعلق العرب، أو بعضهم بحبال الوهم. فعلينا أن نتذكر أن دماء أطفال قطاع غزة الذين استشهدوا في الحرب الأخيرة التي شنتها حكومة «كاديما» مازالت رطبة لم تجف بعد، وأن عملية السلام التي انطلقت قبل عامين ونصف العام بقيادة الثنائي أولمرت وليفني، مازالت تراوح مكانها ولم تتقدم مليمتراً واحداً، إن لم تكن قد تراجعت. فوز نتنياهو لو تحقق ربما يكون أكثر فائدة للعرب والمسلمين على المدى البعيد، لأنه سيفضح طبيعة الشعب الإسرائيلي العدوانية اليمينية العنصرية المتطرفة الرافضة للسلام والتعايش حسب شروط المجتمع الدولي وقرارات منظمته، وقد يحقق معجزة توحيد الصف الفلسطيني مجدداً، حيث سيدرك المراهنون على العملية السلمية أن الوقت قد حان لإعادة النظر في كل خياراتهم العبثية السابقة، وحتمية إجراء مراجعة شاملة، تتضمن نقداً ذاتياً، وبحثاً عن استراتيجية جديدة لا تستبعد أي خيار، بما في ذلك استئناف المقاومة بأشكالها كافة. وحتى فوز حزب «إسرائيل بيتنا» بقيادة العنصري المتطرف أفيغدور ليبرمان بعدد كبير من المقاعد يفوق ما تحصل عليه أحزاب عريقة مثل «العمل» قد يكون مفيداً للعرب، داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وخارجها، من حيث إيقاظهم من سباتهم العميق، وأحلام اليقظة التي عاشوا فيها طوال السنوات العشرين الماضية تقريباً، تحولوا خلالها إلى مبشرين بالسلام، مستعدين للتطبيع، ومهرولين لتقديم كل التنازلات المطلوبة. فليبرمان الذي هدد بقصف السد العالي في مصر لإغراق شعبها، ومحو غزة من الخريطة وطرد عرب المناطق المحتلة عام 1948 وتطاول على الرئيس مبارك بطريقة عنصرية متعالية، متهما إياه بالتواطؤ مع أنفاق رفح وتهريب الأسلحة عبرها، بقوله له «فليذهب إلى الجحيم». ليبرمان هذا مرشح لتولي حقيبة وزارة الدفاع في أي حكومة إسرائيلية مقبلة، سواء برئاسة نتنياهو أو ليفني، فلعله يصدم «المعتدلين والممانعين» العرب على حد سواء ويطلق رصاصة الرحمة على مبادرة السلام العربية، بعد أن تعفنت في غرفة العناية المركزة التي تعيش فيها منذ إطلاقها قبل سبع سنوات على الأقل. الحكومة الإسرائيلية المقبلة قد تكون «نسخة محسّنة» عن الحكومة الحالية بالنسبة إلى الإسرائيليين من حيث كونها أكثر تشدداً، مع تغيير وجوه وليس سياسات أو منطلقات. ولن نفاجأ إذا ما جاءت «حكومة حرب»، تكمل ما بدأته السابقة في قطاع غزة، ولم تكمله في جنوب لبنان، من حيث محاولة تصفية المقاومة، وتركيع العالم العربي وفرض المشروع الإسرائيلي الحقيقي «أي السلام مقابل السلام». فالشارع الإسرائيلي بات أكثر تعطشاً للمزيد من القتل والدماء، بدليل مساندة الأغلبية الساحقة فيه لحرب غزة، وعدم الندم على المجازر التي أوقعتها، وتحريضه على حرب أخرى ضد إيران لتدمير برامجها النووية، حتى لو أدى ذلك إلى إغراق العالم بأسره في حمام دم. المشروع الإسرائيلي يعيش حالة من الارتباك غير مسبوقة، انعكست بشكل واضح في الانتخابات الأخيرة. فالإسرائيليون مسكونون بالخوف، ولهذا يهربون إلى الحروب، ويؤيدون القيادات العسكرية أو السياسية التي تبيعهم وهم التشدد، ولكنهم لا يدركون في الوقت نفسه أن معظم حروبهم الأخيرة لم تكن رابحة، بما في ذلك حرب غزة. فقد انهزموا في آخر الحروب التقليدية عام 1973، ولم يكسبوا في أي حروب أو اجتياحات أخرى (في لبنان مرتان 1982 و2006) واضطروا إلى الانسحاب من طرف واحد أربع مرات (مرتين من لبنان ومرتين من غزة) ودون التوصل إلى اتفاقات سلام بشروطهم. الإسرائيليون محظوظون للأسف بوجود زعامات عربية فاسدة، مستسلمة، مرعوبة، متمتعة بعجزها المصطنع، مسكونة بعقدة الخوف مثلهم، ولكنه حظ عمره قصير مثل حظ المقامر الذي سرعان ما يتآكل وينقلب دماراً وخسارة ماحقة. والإسرائيليون لن يكونوا استثناء.