حينما كانت قنابل العدو تحرث الأرض والزرع في غزة، كان الصحفي الفلسطيني، مثل المقاتل تماما، يخرج كي يركب أخطار المهنة، وليس غريبا أن تكون غزة من بين أهم المناطق خطورة في تقارير الهيئات الحقوقية ومنظمة صحافيون بلا حدود، حيث سقط أكثر من صحفي فلسطيني ضحية الرصاص الغادر. في المنطقة الواسعة والتي تسمى الدحدوح، المعروفة بتخصص أهاليها في زراعة العنب والتين وحمل سلاح المقاومة في وجه العدو الإسرائيلي، ترعرع وائل متمردا على عادات عائلته الكبيرة، فلم يحمل السلاح يوما ولم يتقن أساليب الزراعة، لأن همه كان هو مقاومة المحتل بإبراز جرائمه إلى الرأي العام العالمي عبر قناة «الجزيرة» القطرية. في أحداث غزة الأخيرة، كان وائل الدحدوح واحدا من الحاضرين دائما في مواقع القصف كأنه أحد ملامح الحرب ورموزها، وشاهد استشهاد عدد من الأطفال والنساء والمقاومين أيضا من أفراد عائلته. «الحمد لله، استشهد حوالي 15 فردا من عائلتي، حيث استشهد اثنان من أشقائي وثلاثة من أولاد عمي وأولاد خالتي...»، يقول وائل، الذي التقته «المساء» بمدينة غزة، قبل أن يضيف: «في الحرب الأخيرة تم تدمير بيتي عن آخره، حيث جرفوه، كما كان الشأن بالنسبة إلى مجموعة من الأراضي الزراعية». يقول وائل: «الحرب الأخيرة كانت مميزة والعمل فيها كان مميزا أيضا، لأنها كانت الأعنف والأوسع والأشرس، وبالتالي كانت التغطية مختلفة عن باقي التوغلات التي كانت فيها صور مشابهة لهدم بيوت وتجريف أراض وما شابه ذلك». هذه المرة، يضيف وائل، لم نشاهد أعنف من هذه الحرب طوال عملنا الصحفي الممتد الذي كان الأخطر بالنسبة إلينا كصحفيين، لأن فترة الحرب، التي امتدت لاثنين وعشرين يوما، كانت بمثابة يوم واحد بالنسبة إلى صحافيي قناة «الجزيرة». يتذكر الإعلامي الفلسطيني، الذي ذكر مشاهدي «الجزيرة» خلال فترة الحرب بالصحافي تيسير علوني الذي غطى حروب كابل وبغداد، يتذكر أن ما صعب مهمتهم خلال عملية «الرصاص المسكوب» هو الخطر الشديد الذي كان يحدق بهم، حيث كان القصف على بعد أقل من بضع مئات أمتار من البناية التي كان فيها طاقم «الجزيرة» والتي كانت تهتز جراء القصف الشيء الثاني الذي صعب مهمة ممتهني مهنة المتاعب هو عمليات استهداف مباني الصحافيين، إذ يؤكد وائل أنهم أُمروا أكثر من مرة بإخلاء البناية. والعامل الثالث، يقول الدحدوح، هو التوزع ما بين القيام بالواجب الإعلامي وبين الأخبار القادمة من بيت العائلة التي تصلك عبر مكالمات هاتفية لتخبرك بقصف منزلك وتدميره عن آخره، وبأن أهلك في خطر، «ولكن كل هذه الاتصالات لم تكن تؤثر فيّ وكنت أظل مركزا في شغلي»، يضيف وائل. خالد الدحدوح، المشهور باسم أبو الوليد، أحد أبرز قادة سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الاسلامي، كان آخر من وهبته عائلة الدحوح في سبيل القضية الفلسطينية، حيث اغتالته قوات العدو بعد ظهر أول أمس الأربعاء بمدينة غزة. الصحافيون، الذين كانوا في عين المكان أثناء حملات الإبادة الصهيوينة وكان لهم شرف نقل الجرائم كما هي إلى الرأي العام العالمي في وقتها، عبروا عن رباطة جأش وشجاعة وقوة وقدرة احتمال نفسية كبيرة أمام فظاعة المشاهد المتكررة التي نقلوها بكل أمانة. في قناة القدس الفضائية الفلسطينية، توزع مصورو القناة في عدد من المواقع التي شهدت دمارا كبيرا، وكان محمد بلبل، مصور «القدس»، قد انتقل لتصوير مشاهد مجزرة مدرسة الفاخورة، ويتذكر أن هاته المشاهد كانت عنيفة جدا، و«لازلت أتذكر أحدها والذي لازال راسخا في ذهني»، يقول بلبل، قبل أن يضيف: «كانت هناك طفلة مصابة، لا يتجاوز سنها ثماني سنوات، تقوم بإسعاف أخيها الصغير المصاب أيضا، حيث لم تهتم لإصابتها البالغة وأصرت على أن تعالج شقيقها الأصغر...»، إضافة إلى مشاهد أخرى شطبتها القناة لأن القائمين عليها لم يستطيعوا أن يبثوها لأن الأمر يتعلق بأشلاء ورؤوس وأمعاء لشهداء الجرائم الصهيوينة. أما بالنسبة إلى الصحافة المكتوبة، فقد عانت بدورها من عراقيل القيام بالواجب المهني لتواصل القصف على مدى 22 يوما دون انقطاع، إذ يؤكد محمد عيسى سعد الله، الصحافي بجريدة «الأيام» الفلسطينية، أنه تم إقفال مقر الجريدة بغزة، لأنه كان مستهدفا من طرف صواريخ طائرات «إف.16» الإسرائيلية، خصوصا وأن المكتب الإعلامي لحركة حماس يوجد في الطابق التحتي لنفس العمارة التي يتواجد فيها مقر «الأيام». سعد الله تحول رفقة زملائه إلى مسعفين في بعض الأحيان أمام هول أعداد الجرحى المصابين والذين كان غالبيتهم من الأطفال، في الوقت الذي كانت فيه الأسرة الصغيرة لعيسى، في مدينة جباليا على الحدود الإسرائلية، في حاجة إلى معيلها بعد أن تم قصف بيته وتدميره عن آخره. بالنسبة إلى عيسى سعد الله، فالصحافيون والمواطنون الفلسطينيون بصموا خلال الحرب الأخيرة على ملحمة صمود لم يسبق أن عاشتها أمة سابقة، والواجب المهني تم تجاوزه، في بعض الأحيان، لتقديم يد العون والمساعدة إلى ضحايا جرائم الصهاينة.