سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عمارة من ثمانية طوابق فوق واد رَخّص لها عمدة طنجة ومهدّدة بالانهيار بعد بضع سنوات «المساء» ترصد تفاصيل وأسرار واحدة من أبشع الجرائم العقارية.. والتي صار «بطلها» رئيسا لهيأة عمداء المدن المغربية
قبل بضعة أسابيع نفجّرت في طنجة فضيحة عقارية مدوية، وربما لا سابق لها في تاريخ المدينة أو المغرب، حين أقدم عمدة طنجة فؤاد العماري، وهو كذلك قيادي في حزب «الأصالة والمعاصرة»، على التوقيع على رخصة خطيرة للبناء فوق واد، في ظلّ معارضة شديدة لكل الأطراف المعنية، على رأسها والي طنجة، محمد اليعقوبي. هكذا تم الشروع في بناء عمارتين كبيرتين يقول خبراء إنهما ستنهاران بعد عشر أو 12 سنة.. لكنّ كل أوامر الهدم ذهبت أدراجَ الرياح، والأفظع من هذا هو أن عمدة طنجة، الموقع الوحيد على هذه الرخصة/ الفضيحة، صار يوم الأربعاء الماضي، رئيساً للجمعية المغربية لرؤساء الجماعات الحضرية، وبالإجماع.. كل من أراد، إذن، أن يفهم هذه البلاد على حقيقتها، عليه أن يقرأ التفاصيل الموجودة أسفله. طنجة وجرائم التعمير.. متلازمة لا انفصام لها.. هذا ما يؤمن به سكان هذه المدينة، التي كتب عليها أن تحتضن «نخبة» من السياسيين يطاردون المَناصب بلهفة، بحثا عن مفاتيح مغارة «علي بابا»، التي تتيح لهم، في ظرف بضع سنوات، أن يتحولوا من فقراء بؤساء إلى مليونيرات.. تاركين أهالي المدينة يغرقون وسط الفوضى التي يَسَّر لها منطق اللاقانون أن تحتل كل شبر في طنجة... وللإعلام فقط، فمغارة طنجة ليست مليئة بذهب ولا فضّة، بل بما هو أثمن كثيرا: الطوب والإسمنت والرّمل.. ومئات من وثائق التعمير المكتوبة بماء من ذهب.. تورَّط في الفضيحة، هذه المرة، عمدة المدينة فؤاد العماري مباشرة، وهي فضيحة تجاوزت «وقاحات» سابقاتها بأشواط، ذلك أنّ العمدة تحدّى كل المصالح الرسمية، بما فيها ولاية جهة طنجة -تطوان والوكالة الحضرية ووكالة الحوض المائي اللوكوس والنشطاء المهتمين بالمجال البيئي.. ليرخّص لإقامة عمارة فوق مجرى مائي يحميه قانون الماء. وحتى عندما فجّرت «المساء» هذه الحقائق كان ردّ العمدة هو تجديد دعمه لصاحب المشروع، فيما عاد مسؤولو المصالح المعنية، بشكل يدعو إلى الحيرة، إلى «قواقعهم» بعدما صمّوا آذانهم وألجموا أفواههم أمام هذه الفضيحة. خرق واضح للقانون يعود أصل عملية البناء غير القانونية فوق الأرض الواقعة في منطقة «مسنانة» إلى تاسع نونبر 2012، عندما سلّم رئيس الجماعة الحضرية لطنجة، فؤاد العماري، للمقاول العقاري محمد الأحمري إذنا بالبناء فوق الرسم العقاري 102405/ 06 لإنشاء عمارة مكونة من مرآب وطابق أرضيّ تجاري وسبعة طوابق علوية وطابق ثامن خلفي، أيْ أنّ الأمر يتعلق بعمارة كبيرة تحتاج في الأصل إلى موافقة مصالح أخرى غير الجماعة الحضرية ليصبح البناء فوقها قانونيا.. غير أنّ ما كان يتهرب منه العمدة والمقاول العقاري بتجاوزهما عدّة مصالح، بما فيها الولاية والوكالة الحضرية، حيث إنّ الوعاء العقاري الذي تقام عليه العمارة يحتوي على مجرى مائيّ يُعَدّ مِلكا عاما يُمنع الإضرار به بأي شكل من الأشكال، بما فيها البناء فوقه، حسب ما ينصّ عليه قانون الماء. وبتاريخ 21 فبراير من العام الجاري، خرجت لجنة تقنية، بناء على استدعاء من السلطة المحلية مؤرّخ في 18 فبراير 2013، تحت عدد 94/ 013، لمعاينة أشغال بناء المشروع المقام فوق وعاءَين عقاريين. وقد كانت اللجنة مكونة من رئيس الدائرة الحضرية في طنجة الحسن العلوي، وقائد الملحقة الإدارية السابعة زكرياء الغازي، وممثل الوكالة الحضرية، مراد بوهوت، وممثل شركة «أمانيدس» المكلفة بتوزيع الماء والكهرباء محمد زكرياء الرحالي، وممثل قسم التعمير في الولاية محمد السوسي، وممثل وكالة الحوض المائي «اللوكوس» سعيد البزاز، إضافة إلى ممثل الجماعة الحضرية لطنجة سعيد عيساوي. وسجلت اللجنة مجموعة من الخروقات بخصوص هذا المشروع، حيث اكتشفت أنّ القطعة الأرضية ذات الرّسم العقاري 130390/ 06، قد مدّ فيها صاحب المشروع قنوات لمجاري المياه الشتوية بدون ترخيص، وأن هذا الأمر مُثبَت وفق محضر المعاينة المنجَز بتاريخ 25 ماي 2012، حيث لم يقم ب»إعادة الحالة إلى ما كانت عليه من قبل». غير أنّ الملاحظة الأهمّ كانت بخصوص القطعة الثانية، الحاملة للرسم العقاري رقم 102405/ 06، حيث إنّ المشروع السكنيَّ المقام عليها لم يحظ بالموافقة النهائية للجنة المكلفة بدراسة ملفات رُخَص البناء وفقا للدورية رقم 1500. أما أخطر ما في الأمر فهو أنّ صاحب المشروع عمد إلى «كحت وتوسيع المجرى المائي» دون إذن مسبق من قبَل وكالة الحوض المائي اللوكوس. واعتبرت اللجنة أنّ هذا الخرق يعَدّ تراميا على المِلك العامّ المائي وخرقا لمقتضيات قانون الماء رقم 10- 95، ولاسيما المادة ال12 منه. وأورد تقرير اللجنة أن صاحب المشروع يقوم بأشغال البناء فوق المجرى المائي المذكور دون الحصول على ترخيص من وكالة الحوض المائي اللوكوس، باعتبارها الوصيَّ على المِلك العام المائي. بعد كل هذه الملاحظات، وجد فؤاد العماري نفسه محاصَرا بخروقات موثقة رسميا، فعمد إلى سحب ممثل الجماعة الحضرية، الذي كان الوحيدَ الذي أعلن انسحابه من بين ممثلي 7 مصالح، غير أنّ هذا الأمر لم يمنع اللجنة من الخروج بتوصية حاسمة، حيث طالبت بالتوقيف الفوريّ للأشغال و»إعادة الحالة إلى ما كانت عليه». لم تقف الأمور عند هذا الحد، فبتاريخ 28 فبراير 2013، توصّل محمد الأحمري، صاحب المشروع من وكالة الحوض المائي اللوكوس بإنذار حول «تراميه على الملك العام المائي»، حيث استندت على تقرير الزيارة الميدانية للجنة، مذكرة بأنّ ردم المجرى المائي الذي يعبُر القطعة الارضية ذات الرسم العقاري 10240/ 06 يعد تراميا على الملك العامّ المائي وخرقا لمقتضيات قانون الماء. وأخطرت وكالة الحوض المائي صاحبَ المشروع بأنه «ملزَم بالتوقف الفرويّ للأشغال بعد توصله بالإنذار»، طالبة منه «إخلاء الملك العام المائي وإعادته إلى حالته الطبيعة»، في أجَل أقصاه 15 يوما، محذرة من التجائها إلى المساطر القانونية في حال لم يلتزم صاحب الموضوع، وهو الأمر الذي لم يستجب له المعني بالأمر رغم مرور أكثرَ من 3 أشهر على انقضاء المهلة القانونية. وبعد 4 أيام من إنذار وكالة الحوض المائي اللوكوس، توصل مانح إذن البناء، العمدة فؤاد العماري، برسالة من والي جهة طنجة -تطوان محمد اليعقوبي، موقَّعة بالنيابة من طرف الكاتب العامّ، مصطفى الغنوشي، ترتكز على تقرير اللجنة، وتطالب ب»التوقيف الفوريّ للمشروع». الصّمت الرهيب.. عندما نشرت «المساء» تقريرا -بالصور والوثائق- عن الفضيحة العقارية الجديدة التي تدمّر جزءا من المِلك العامّ، كان من المنطقيّ أن يدفع هذا الأمر المسؤولين المباشرين إلى التحرّك بشكل أسرعَ لحماية المجرى المائي وتطبيق القانون، غير أنّ المفاجأة الصادمة تمثلت في أنّ صاحب المشروع استمر في أعمال البناء بوتيرة أسرع، أمام «صمت» غريب لكل المصالح الرّسمية، وفي مقدمتها ولاية جهة طنجة -تطوان ووكالة الحوض المائي اللوكوس، التي رفضت حتى الرّد على استفسارات الجريدة!.. وتتوفر «المساء» على صور ملتقَطة من الزاوية نفسِها، تفصل بينها مدة لا تتجاوز 10 أيام، تُظهر أن العمارة التي كانت قبل نشر المادة عبارة عن هياكل، استطاع صاحبها إنشاء طابقين ونصف في ظرف قياسيّ، في الوقت الذي تغاضت الولاية، السلطة الوصية على المجلس الجماعي المانح للترخيص، عن هذه الفضيحة، مُفسحة المجال ل»تمادي» صاحب المشروع.. وأمام «الصّمت المطبق» لجميع المصالح المسؤولة، وفي مقدّمتها وكالة الحوض المائي اللوكوس وولاية جهة طنجة -تطوان، اتصلت «المساء» -يوم 24 ماي 2013- بالمصلحة الأولى، الكائن مقرها بتطوان، لتطلب استفسارا من مديرها، لكنْ بعد تعلل الإدارة بكونه في اجتماع، عمدت الجريدة، في مساء اليوم نفسه، إلى بعث مراسلة رسمية، تطلب فيها من مدير وكالة الحوض المائي «اللوكوس» كشف الخطوات التي تعتزم الوكالة القيام بها لإنقاذ المجرى المائي. كما طلبت الجريدة بتحديد المسؤولين عن استمرار أشغال البناء التي أمرت لجنة مختصّة بوقفها. لم تلق «المساء» على هذه المراسَلة عليها ردّا رغم مرور شهر على بعثها، وكلما اتصل صحافي الجريدة لمعرفة سبب التأخر، يُخبَر أنّ «المدير في اجتماع أو خارج المكتب»!.. انتقلت «المساء»، أيضا، إلى مكتب الكاتب العامّ لولاية طنجة، مصطفى الغنوشي، الموقع شخصيا على القرار الذي يُلزِم العمدة بسحب الترخيص من صاحب المشروع، لكنه امتنع عن استقبال صحافي الجريدة.. التحدّي السافر في يوم الجمعة 7 يونيو، توجه الوالي محمد اليعقوبي شخصيا إلى مكان الورش و»أمَرَ» صاحبه بوقف الأشغال.. ثم كلف مجموعة من أعوان السلطة بمراقبة الورش، حيث لم يغادروا المكان إلا في منتصف الليل. غير أن «تحدّي» صاحب المشروع لجميع القرارات جعله يجلب مجموعة من العمال لتتواصل أعمال البناء منذ الساعة الواحدة ليلا، لكنّ ما لم يكن يتوقعه هو وقوع حادث سيفضح مخططه، إذ سقط عامل من الطابق الثالث للعمارة مصابا بكسور بليغة، ونقِل إلى قسم المستعجلات في مستشفى محمد الخامس، ما اضطرّ مسؤولين من الولاية إلى العودة إلى مكان الورش، وهناك استقبلهم صاحبه بلهجة المتحدّي قائلا إنه لن يوقف البناء مهْما حدث، مطالبا بحضور العمدة فؤاد العماري، الذي منحه إذن البناء.. أما العماري، فيبدو أنه بدأ يستشعر حجم الفضيحة الجديدة التي اقترفتها يداه، ففضّل التوجه نحو فرنسا بحجّة بحثه عن «استثمارات» جديدة لطنجة، وفضل تفويض قطاع التعمير لنواب يصنفون ضمن خانته في مجلس مدينة طنجة.. محاكمة العمدة أوضح خبير قانوني وناشط حقوقي ل»المساء» المسؤولية المباشرة الملقاة على عاتق الوالي محمد اليعقوبي، قائلا إنّ المخالفات في هذا الملف ليست «بَعدية»، بل إنها واضحة حتى قبل حصول صاحب المشروع على إذن البناء، وبالتالي، فإنه كان على الولاية إجبارُ رئيس المجلس الجماعيّ على تنفيذ قرار سحب الترخيص، وإلا كان عليها توقيفه بالقوة العمومية، ثم هدم البناء و«إعادة الأمور إلى حالتها الطبيعية».. وقال المتحدّث إن «هذا المشروع هو مِثل مشاريع السكن العشوائي التي تهدمها السلطات العمومية في الأحياء المهمّشة في مقاطعة بني مكادة، مع وجود فارق وحيد هو أنّ أصحاب تلك المساكن فقراء، فيما صاحب المشروع/ الفضيحة شخص ثريّ».. وأضاف المصدر ذاته أنّ الوالي اليعقوبي، على علم بهذه الخروقات بشكل مؤكد. وأوضح الخبير القانوني أنّ القانون يتيح لجمعيات المجتمع المدني رفعَ دعوى قضائية ضد العمدة ومحاكمته، وأيضا ضدّ صاحب المشروع، لوجود ضرر مباشرة بالمِلك العامّ وبالبيئة، محذرا من «اللعب على وتر التقادُم»، في حال ما أتم المقاول بناء العمارة وباع شققها ومحلاتها التجارية. غير أنّ أخطر ما توصلت إليه «المساء»، خلال بحثها، كشفه مهندس طوبوغرافي، أوضح أن خطورة طمر المجرى المائي لا تقف عند الاعتداء على المِلك العام المحمي قانونا، بل في كون تمركز العمارة فوق المجرى مباشرة، حيث إنّ للمياه «ذاكرة» تمكنها من العودة إلى مجاريها الأصلية ولو بعد سنوات.. وفي هذه الحالة، فإنّ العمارة، الواقعة أساساتها فوق المجرى، مهدَّدة خلال مدة تتراوح ما بين 5 و10 سنوات، بالانهيار فجأة إثر إضرار المياه تدريجيا بأساساتها، وسيكون الأمر أسرع إذا ما واصلت الأمطار تساقطاتها الكثيفة على غرار ما حدث خلال السنوات الأخيرة.. ويعرف الجميع أنّ طنجة صارت تعرف فيضانات مهولة في السنوات الأخيرة، لذلك فإنّ مقاضاة العمدة تعتبر أكثرَ من ضرورية، وفق المتحدّث ذاته.